شرطة اسكوتلانديارد تسعى لكسب الزمن تماما كمنفذ عملية اغتيال الحجري، الاثنان يراهنان على السرعة، سرعة وتخفٍ للهروب الآمن، وسرعة أخرى لتحديد ملامح القاتل المنفذ لتتناوله قبل بلوغ مأمنه أيدي الشرطة الكثيرة، صراع إرادة الإجرام وإرادة قوة القانون وشرعيته تنشط في منطقة هايد بارك وضواحيها وفندق رويال لانكستر والمباني المجاورة.
طرق خبراء التحقيق أبواب غرف الفندق التي تطل على مدخله وعلى الهايد بارك وانتقلوا للمباني المجاورة كلها والسؤال كان بعد شرح ما حدث، هل رأيتم شيئا يساعدنا على إلقاء القبض على مُنفذ جريمة الاغتيال. ورغم مسح المنطقة بالأسئلة كانت الإجابات مخيبة للآمال؛ الشخص المجرم تبخر وكأن لندن ابتلعته، و جهاز الأمن البريطاني يدخل في معركة إثبات الذات وقدرة السيطرة لمعرفة القاتل. الكل يريد منه جوابا. بريطانيا واليمن يريدون إجابة ومعرفة من اغتال قاضي اليمن صباح الأحد 10 أبريل 1977، هم لا يعرفون القاضي عبدالله الحجري (عضو مجلس الرئاسة رئيس وزراء اليمن الشمالي حينها) وهذه هي المرة الأولى التي سيسمعون عنه وسيرافقهم هذا اليوم ولزمن طويل ولن ينسل من الذاكرة، سيصبح تاريخا في حياتهم، لقد كان مطلوبا منهم حل عقدة الاغتيال بإيجاد القاتل.في ذلك الحدث العنيف الذي هز لندن وكل بريطانيا.
يقول صحفي متخصص في شؤون الشرق الأوسطشارك في التغطية إن المحققين، وهو يعرف أكثرهم، لم يكونوا من كنت أعرفهم، لقد كان الضغط عليهم هذه المرة في أقصى قوته، ربما بسبب الشخصية الأجنبية المغتالة، ومثلهم نحن الصحفيين فإن أسئلة عن من الذي قُتل ومن شاهد القاتل تتحكم فينا، ولبعضنا فإن لوحة السيارة الدبلوماسية تجيب على نصف الإجابة، فالذين قتلوا بالتاكيد شخصيات هامة من دولة اجنبية، الأشخاص العاديون لا يقتلون بهذه الطريقة ولا في هذا المكان، ولن يكون الذين قتلوا سوى يمنيين ولكن هذا لا يكفي، الصحفي يريد أكثر من ذلك، في اغتيالات شخصيات كبيرة كهذه يصنعون بسبقهم الصحفي مجدا لايسقط أبدا وتأتي معه النجومية والثراء.
ورغم هجمة الأسئلة فإن المكان صامت ومشلول باغتيال الحجري ولا إجابات، كل شيء جامد في أفواه المحققين وعربات الإسعاف ساكنة إلى عجلاتها.. عددها كثير، اربع منها أمام وخلف السيارة المرسيدس السوداء حيث لاتزال جثث الثلاثة وقد دخل أصحابها رحاب السكون الأبدي، وسيارات أخرى للمطافئ وسيارات شرطة تملأ المكان، وسيارات يونت الإسكواد (القناصة) رجال الشرطة الخاصة بمكافحة الإرهاب بأقنعتهم يطلون من زوايا عدة من عرباتهم تحسبا لإرهاب مزدوج.
المفوض العام لشرطة اسكوتلانديار حينها السير روبرت مارك الذي خلفه وتابع تحقيق عملية الاغتيال لاحقا السير ديفيد مكني في رئاسة سكوتلانديارد يقطع إجازته ويلتحق بمكان حادثة الاغتيال، رئيس الوزراء البريطاني جيمس كالاهان يريد التقرير الأولى في غضون ساعة من وقوع العملية، التلفونات المؤمنة تشتغل بينه وبين وزير الداخلية حينها مرليان ريس، فالمسالة أمنية وعلى النتائج يتحدد نجاح وفشل حكومة كالاهان العمالية في قضايا الأمن ومكافحة الإرهاب، المطلوب تطمين البريطانيين أولا، وليس اليمنيين، أن جهاز الأمن البريطاني ليس رخوا.
ولكن الحقيقة الصادمة التي يعرفها الكل أن منفذ عملية اغتيال القاضي الحجري وزوجته والحمامي كان قد فر من مكان الجريمة ومن أيادي جهاز الأمن، ساعدته أشجار حديقة هايد بارك التي هرب نحوها لإخفاء ملامحه وكل أقوال الذين شاهدوه تحدثوا عن ملابسه وقامته ولم يستطيعوا أن يحددوا ملامح وقسمات وجهه، بل إن أقوال الشهود الذين توقعوا انه يكون هو القاتل تظهر ضبابية، لم تكن هناك شهادة واضحة كيف غادر مسرح الجريمة، وكل الشهود رأوه من الخلف يجري أو يركب وتلك ثغرة كبيرة لا يمكن أن تؤدي لتحديد شخصيته أبدا، فقد يغير ملابسه أو بعضا منها اثناء حركته في دقائق الهروب أو يتخلى عن أي دراجة و أي عربة ليستقل شيئا آخر من باب التمويه، كان طويلا، قريبا إلى النحافة وليس نحيفا تماما ولا ممتلئا، وهذا الوصف لا يصل بك إلى شخص بعينه فمثله عشرات الملايين من البشر في لندن.
لقد نجا بفعلته.. رجال ال"إس آي إس" المخابرات البريطانية الداخلية وشرطة سكوتلانديارد يريدون الإجابة عن سؤال محدد في هذه المرحلة، سوال واحد فقط، من قتل قاضي اليمن الحجري؟ لم يكن يشغلهم إلا هذا السؤال يتفرع منه سؤال فرعي إين يحتمل ان يكون القاتل اختفى بعد جريمته.
جمع رجال البحث الجنائي ما توفر لديهم من أدلة من السيارة المرسديس التي اغتيل فيها القاضي ومن معه، وتم التقاط صور للسيارة من كافة الزوايا والجوانب، وأخذت صور للقاضي وزوجته والحمامي (صور منها للقاضي وزوجته مضرجين بدمائهما الزكية تسربت لعدد من الصحف) وعندما لم يكن هناك حاجة تستدعي بقاء جثامين الشهداء الثلاثة تم إخراج الجثث برفق وببطء شديد من السيارة ونقلوا في عربات الإسعاف إلى مجمع مستشفى سانت ماري الطبي القريب من منطقة الجريمة للتشريح الجنائي، ونقلت السيارة إلى المعمل الجنائي التابع لشرطة سكوتلانديارد، حيث فحصوها مجددا ملميتر بمليمتر بحثا عن بصمة هنا أو هناك، ياتي ذلك في حين لازال مكان وقوع الجريمة يخضع للتحقيق الميداني من خبراء البحث الجنائي وهم يفحصون مكان الجريمة والمداخل إليها والمخرج الذي اتخذه القاتل مسربا، يفصحون ذلك على أمل الحصول على دليل أو أثر يمكنهم من تحديد شخصيته، إذ في العادة يسقط شيء قد يكون ذا قيمة من جيب أو من ملابس القاتل أثناء اتجاهه للجريمة أو اثناء الجريمة أو أثناء عملية الفرار أو يقوم هو برمي أي شيء يشعر أنه سيوقع به إن اشتبهت به الشرطة أثناء هروبه وقامت بتفتيشه.
وقت طويل قضاه خبراء التحقيق يمشطون المنطقة، لم يحصلوا على دليل يحدد من هو الفاعل. ومازال التحدي أمامهم كبيرا لمعرفته، ولم ينجح احد الشهود والذي قال بأنه رأى شخصا أتى من خلف السيارة المرسديس السوداء و سار بجانبها وهي واقفة قبل زمن من عملية الاغتيال، لم ينجح هذا في وصف ملامح الشخص والذي ربما يكون هو القاتل أو مجرد شخص مولع بجاذبية السيارات، والاحتمال الكبير انه هو القاتل فإن أي عملية جنائية وأي جريمة يسبقها عدة خطوات وفي حالة اغتيال الحجري، لابد من أن يقوم المنفذون أو المنفذ بخطوات الاستطلاع ودراسة المكان والمراقبة الميدانية لمنطقة الجريمة وفحص منافذ الدخول والمغادرة والهروب عقب عملية تنفيذ المهمة.
وبقى في عملية اغتيال الحجري تساؤل لم يجب عليه التحقيق ولا أي تقرير أمني، من كان يعرف متى سيغادر القاضي الفندق صباح يوم اغتياله، بالتأكيد ناس كثيرون أو ربما واحد، ربما يكون القاضي قد قال لأحدهم قبل ذلك اليوم الأحد انه سيغادر صباح ذلك اليوم للذهاب في رحلة سياحية إلى مدينة بريتون أو قد يكون الحمامي قال ذلك لأحد وهي معلومة بإمكان أي واحد فينا أن يقول انا ذاهب غدا مع فلان في رحلة إلى جبل النبي شعيب دون أن تفكر عن ماذا يخفيه القدر لك أو له عند بداية الرحلة أو اثناءها أوبعدها، المهم أن هناك من أطلع مجموعة الاغتيال أن توقيت مغادرة القاضي الفندق ما بين العاشرة والحادية عشر من صباح ذلك اليوم المشئوم، لقد كان هناك من أعطاهم توقيت المغادرة من الفندق، ربما عرف الجناة أو الجاني قبلها بيوم أو حتى ساعات، فليس من المعقول في عملية اغتيال شخصية كبيرة أن يترك الأمر لصدفة تحركات القاضي العشوائية من وإلى الفندق ومن ثم الهجوم عليه.
قد يحدث الهجوم العشوائي في أي سوق للقات في اليمن، يلتقي أصحاب الثأر المضاد عشوائيا فيرمون بعضاً بالرصاص في السوق.. عملية اغتيال الحجري لم تكن هكذا.. لم يترك فيها شيء للصدفة، لقد ظهرت بأنها معقدة وشديدة الإحكام. ولابد أن خطة اغتياله ورصد حركته بدأت لحظة مغادرته اليمن إلى لندن. وهو ما توصل إليه أسكوتلانديارد والمخابرات البريطانية، لكن من المنفذ ولمصلحة من ولماذا.. ونكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله.
إعلامي يماني