[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

ماذا حققت المقاومة العراقية؟

كل الظلام الذي في الدنيا لا يستطيع أن يخفي ضوء شمعة (مثل)

حينما تحتدم حروب المخابرات وتتصاعد، مع تعقد حروب الاحقاد والدعاية السوداء والثأرات الايديولوجية والسياسية، فان ذلك يشير إلى اقتراب الحسم بدليل ان الاطراف المعادية تبدأ باخراج كل (سلاح) عزيز لديها – سواء كان مشروعا أو مدانا - اخفته ليوم صعب.

ومنذ عام 2006 بدأ احتدام حرب المخابرات واخذ هذا النوع من الحرب يحتل في الحسم مكان القوات المسلحة لدى الولايات المتحدة الأمريكية، التي تراجع دورها واصبح عاملا مساعدا في حسم الحرب، وذلك موقف اعلنته وتبنته الحكومة الأمريكية رسميا بعد ان اعترفت بفشل الحسم العسكري مع المقاومة العراقية. وحروب المخابرات، كما هو معروف، هي حروب التزوير والتضليل الذكية وتنفيذ عمليات اختراق مدروس ونسف العدو من داخله، أو استخدام بعض امكاناته لتحطيمه ودحره دون ان يعلم، واذا علم فرغما عنه، الامر الذي يجعلها اكثر خطورة من عمليات الاجتثاث بالقتل والابادة والعزل الجماعي.

ومن بين اهم اشكال حروب المخابرات محاولة فرض نطاق من الشك والتشكيك بطبيعة المقاومة العراقية، ومنّ نظمها واطلقها ومن قادها أو يشارك فيها حقا، وما هو دوره الحقيقي: هل هو العمل من اجل التحرير حقا؟ ام انه محاولة قتل الطبيعة التحررية للمقاومة من داخلها وجعلها عبارة عن عنف طائفي مدمر لابد ان ينتهي بتنفير الناس منها، وهو الهدف الاهم للمخابرات الأمريكية ومنافستها في العراق المخابرات الإيرانية؟

وفي هذا الاطار المخابراتي ثمة احاديث متنوعة عن المقاومة العراقية ودورها الحالي مقارنة بدورها حتى عام 2006، تدار بطريقة منظمة غالبا، من اجل الوصول إلى هدف محدد وهو التقليل من شأنها بنظر الجماهير العراقية والعربية خصوصا القول بانها لم تحقق شيئا جوهريا وانها فشلت في اخراج الاحتلال، مع ان طرد الاحتلال هو الهدف الرئيسي للمقاومة، والهدف من ذلك التشكيك هو جعله المدخل الطبيعي الافضل للتخلص من تأثيراتها على الجماهير وتقليص دعم هذه الجماهير لها ان لم يكن زواله تحت غطاء فشل المقاومة وعدم قدرتها على طرد الاحتلال..

وبما ان الدعم الجماهيري هو الشرط الحاسم الذي جعل المقاومة تستمر وتتنامى، رغم كل وسائل القهر التي تعرضت لها ورغم شدة العوز المادي لفصائلها الرئيسية ورغم غياب الدعم الاعلامي العربي والدولي لها مع انه مهم جدا في تعريف الراي العام الخارجي بها وبدورها وقدرتها، نقول بما ان الدعم الجماهيري هو البحر الذي تسبح اسماك المقاومة فيه وبفضله تعيش وبدونه تموت فان عزل المقاومة عن الجماهير وتقليل دعمها لها هو الضمانة الاساسية لبد عملية احتواء ناجحة للمقاومة.

ولذلك فان من الضروري تسليط الضوء على دور المقاومة الواقعي والفعلي منذ الغزو وحتى الان وما حققته من انجازات تاريخية وستراتيجية وسياسية واقتصادية وغير ذلك تثبت انها لم تفشل وانما حققت نتائج مذهلة وفريدة في سياق صراع ستراتيجي جبار ومعقد لاشك انه الاصعب في العصر الحديث.

ان اهم ما حققته المقاومة العراقية من انجازات تاريخية وستراتيجية وسياسية يمكن تلخيصه فيما يلي:

أسقاط المشروع الكوني الأمريكي

على صعيد عالمي يمكن القول بثقة تامة، ووضوح اتم، بان اهم تغيير ستراتيجي في العالم كله حصل منذ سقوط الكتلة الشيوعية هو الذي حققته المقاومة العراقية، حيث انها اسقطت بنجاح تام وكفاءة عالية اخطر مشروع امبريالي واستعماري، في ان واحد، واجه البشرية منذ صار الانسان سيد الكرة الارضية وهو المشروع الذي اطلقت عليه الجماعة الأمريكية المسماة ب(المحافظون الجدد) اسما موحيا وواضحا وهو (القرن الأمريكي) في نهاية التسعينيات، وما اعقبه من ظهور مصطلحات وتيارات عاصفة ظن العالم انها حقيقة واقعة فرضت نفسها ولا يمكن الغاءها أو تجنبها أو عدم الانحناء لها مثل (الامركة) و(العولمة)، أو حلول مفاهيم مثل (حروب الحضارات) لهنتنغتون، وهي حروب مفتعلة، محل حروب الراسمالية مع الاشتراكية وحركات التحرر وهي الحروب الحقيقية ذات الاسباب الواقعية، أو نظرية بائسة وساذجة نسفنا جوهرها حال صدورها بنقد تفصيلي لها وهي نظرية (نهاية التاريخ) لفوكوياما التي بشرت بانتهاء الصراع في العالم بانتصار الليبرالية الأمريكية...الخ.

هذا المشروع الكوني الأمريكي التوتاليتاري، الشامل لكل مظاهر الحياة المادية والفكرية، وبعد فترة تفاؤل أمريكي مطلق وثقة تامة بنجاحه، منذ قال بوش الاب في نهاية عام 1989 بعد بدء انهيار الكتلة الشيوعية ب(ان القرن القادم سيكون قرنا أمريكيا) – يقصد القرن الحادي والعشرين - وحتى بدء عملية استعمار العالم انطلاقا من غزو العراق، هذا المشروع واجه عراقا مقاوما لا يقهر اوقف اهم مكونات المشروع وهو عنصر تعاقب خطوات المسلسل الامبريالي العالمي الأمريكي عند (بوابات بغداد)، حيث تناثرت جثث المشروع الأمريكي مع تناثر جثث عشرات الالاف من الشهداء من المقاتلين العراقيين، لان عنصر التعاقب الناجح في اي مخطط ستراتيجي اذا اوقف ومنع من تواصل تنفيذ خطواته الحاسمة الاخرى ينهار المخطط بكامله، أو على الاقل يتحول إلى مغامرة غير محمودة العواقب وعبء ستراتيجي قد يكون مميتا. وهذا هو حال الامبريالية الأمريكية في العام الثامن لغزو العراق.

نكرر ونؤكد ولدينا كل ما يثبت ذلك: لقد تفجرت اعظم مقاومة مسلحة في التاريخ الانساني ستراتيجيا وواقعيا، وكانت هي وحدها من كشفت للعالم بصورة عملية وليس نظرية عيوب ونواقص ونقاط ضعف النظام الراسمالي الأمريكي، التي كانت مغطاة باثواب القوة المطلقة والساحقة والتي لا ترد أو تقهر، وبتحديد المقاومة العراقية اين يجب ضرب الثور الأمريكي الهائج والخطير لجعله ينهار، أو تصبح نطحاته القاتلة عبارة عن عمليات استنزاف مدمرة له، انتهت عملية تغطية العيوب البنيوية الأمريكية وانكشف الجسد الأمريكي ورأه العالم وهو يرقد في غرفة انعاش ضخمة على قدر العالم لا يستطيع العيش من دون اوكسيجينها، اي نهب العالم، كما اكدنا في كتاباتنا منذ عام 1991.

في العام الثالث للغزو – وفي معركتي الفلوجة الاولى والثانية في عام 2004 تحديدا - بدأ العالم يرى أمريكا على حقيقتها المجردة من الرتوش والمكياج وهي انها عملاق ضخم نقطة ضعفه في كعب قدمه – وهو ازمة النظام الراسمالي البنوية وليس الاقتصادية - كضعف اخيل في الاسطورة اليونانية، الذي عندما يضرب على كعب قدمه يفقد توازنه وينهار اذا لم يهرب من ساحة المعركة باي طريقة، والمقاومة العراقية، وبعد ان حددت نقاط الضعف البنيوية في أمريكا، شرعت في تركيز الضربات عليها.

فماذا اختارت المقاومة ليكون كعب اخيل أمريكا؟ لقد اعتمدت المقاومة العراقية في الحاق الهزيمة الستراتيجية بأمريكا على ركيزتين رئيسيتين هما الاستنزاف المالي والاستنزاف البشري:

اولا: الاستنزاف المالي لأمريكا: بما ان أمريكا عبارة عن شركة كبرى عابرة للقيم العليا والقانون وادمية الانسان هدفها الربح والنهب، نؤكد ونكرر بلا ملل ان هدف أمريكا (الاسمى) في العالم هو النهب، فان الاستنزاف المادي لها يقلب حساباتها رأسا على عقب، فهو وحده القادر على فتح بوابات جهنم بوجهها باجبارها على تحمل الخسارة بدل النهب من خلال الصرف من مواردها وليس تغطية نفقات غزو العراق بموارد النفط العراقي، كما وعد الكونغرس قبل الغزو بول ولفووتز وكيل وزير الحرب الأمريكي واحد مجرمي الحرب الاصليين ومخططيها، وهذا ما قامت به المقاومة العراقية عندما كانت تعمل بنشاط على عدم السماح بتحقيق استقرار يسمح باستثمار النفط واعادة بناء صناعته ليكون مصدر تمويل الغزو الاساسي وتحرير أمريكا من خطورة الصرف على الحرب من ضرائب المواطنين الأمريكيين.

ولاجل تحقيق النهب وعدم الصرف من الموارد الأمريكية وقعت قوات الاحتلال اتفاقية مع رجل اعمال عراقي ودفعت له ملايين الدولارات من اجل حماية انابيب النفط العراقي من هجمات المقاومة وهي قصة معروفة وموثقة لكن هذه الخطة فشلت لان المقاومة كانت قادرة على مهاجمة انابيب النفط، ولذلك اضطرت أمريكا إلى الصرف من خزينتها لتغطية نفقات حرب هي الاكثر تكلفة ماليا منذ الحرب العالمية الثانية، وهذا الاضطرار كشف عن خطورته الرئيس الأمريكي الاسبق بيل كلنتون حينما قال ان أمريكا تمول حرب العراق بالدين! وهنا يجب ان نسأل هل تلك مبالغة؟ كلا ان الارقام التالية تثبت ذلك.

كان الدين العام الأمريكي قبل غزو العراق هو 4,5 تريليون دولار واصبح الان رسميا اكثر من 13 تريليون دولار وتعترف الاوساط الأمريكية والاكاديمية بان السبب الرئيسي في تضاعف حجم الدين العام هو غزو العراق والاستنزاف الذي تتعرض له القوات الأمريكية فيه وما ينتج عنه من تكاليف غير منظورة. اما العجز في الميزانية الأمريكية فانه كان قبل بدء الحرب وفي زمن بيل كلنتون حوالي 190 مليار دولار اما الان فقد قفز إلى تريليون و300 الف مليار دولار، ومرة اخرى يجب التنبيه إلى انه لا يوجد سبب رئيسي لهذا الارتفاع في العجز سوى الاستنزاف في العراق. وهذا الدين العام يجعل كل مواطن أمريكي مديون بحوالي 20 الف دولار وهو عبء يصعب تحمله لفترة طويلة.

وتلك الارقام وحدها تكفي لاظهار دور المقاومة العراقية في ايصال أمريكا إلى الانهيار المالي في عام 2009، والذي كان ومازال مقدمة للانهيار العام والشامل وتفكك الدولة الأمريكية اذا لم تعيد السلطة التي تحكمها النظر في سياسات التوسع الامبريالي.

ثانيا: الاستنزاف البشري: ورغم ان أمريكا لا تهتهم بالبشر الا بصفتهم مجرد براغي في الة تدر الربح عليها الا ان كثرة القتلى والمعوقين من جراء الحرب تؤدي في لحظة معينة إلى جعل كارثة الحرب التي تشنها أمريكا على شعب اخر تنتقل إلى داخل المجتمع الأمريكي عندما تصل الخسائر البشرية إلى حد يجعل من كل عائلة متأثرة بالحرب، هي أو اقربائها أو جيرانها، مما يجعل الحرب مشكلة أمريكية داخلية، وتلك هي نقطة البداية الصحيحة في اجبار أمريكا على الانسحاب وايقاف الحرب. باندماج الخسائر المالية الضخمة والتي يدفعها المواطن الأمريكي، مع الخسائر البشرية تصبح هناك قوة ضغط هائلة، من المستحيل ان ترد أو تقهر أو تقمع، على صناع القرار تجرهم جرا إلى الانسحاب وانهاء الحرب في لحظة ما حتى لو كان الوضع العسكري يبدو قويا. وهذا هو ما حققته المقاومة العراقية بجعل اكثر من مليون أمريكي يعانون من امراض نفسية وعاهات جسدية وقتلت عددا من الأمريكيين يتراوح بين 30 الف و40 الف أمريكي حسب احصاءات أمريكية غير حكومية مع ان الرقم الرسمي للقتلى لم يصل بعد إلى الالف.

بنجاح المقاومة العراقية بتحقيق ذلك اصبحت قادرة على تهديم ركائز الاستمرارية في الحرب واجبرت أمريكا على الاختيار بين التراجع عن غزواتها أو الانهيار من الداخل نتيجة ازماتها، لذلك فالمقاومة العراقية انقذت العالم من عصر استعماري بغيض كان سيعم العالم بعد حروب وازمات مدمرة لكافة الشعوب. وهذا بحد ذاته نصر اكتسب سمتين بارزتين اولهما انه نصر ستراتيجي عراقي لانه منع واسقط اكبر واخطر مخطط استعماري في التاريخ، وثانيهما انه عمل تاريخي من طراز نادر لانه اجبر على كتابة تاريخ العالم على النقيض من الخطة الأمريكية وسجل انه لولا المقاومة العراقية لكتب التاريخ كل احداثه ب(لغة أمريكية صرفة) ولصارت ابعد نقطة في الارض ترقص على نغمات الهيب هوب الأمريكية بما في ذلك اشد المعممين وقارا، ولفقد اطفال الصين القدرة على تناول الطعام بعودتين، ولمحيت من قاموس لغة اطفالنا أسماء اكلات عربية معروفة مثل (الباجة) و(الدولمة) و(القوزي) و(المسكوف) العراقية، و(المنسف) الاردني و(الكسكسي) المغربي وغيرها وحلت محلها اكلات الهمبرغر وكنتاكي فراي جكن رغم انها أكلات أمريكية توصف طبيا بانها زبالة!

هذه حقيقة معاشة وعيانية ولا يمكن انكارها على الاطلاق وهي وحدها تكفي لمنح المقاومة العراقية صفة منقذ العالم كله من عصر استعماري بغيض.

دفن عصر القطب الاوحد

سيذكر التاريخ، رغم انف جلادي أمريكا ومزوري التاريخ في هولي وود، باننا قلنا مباشرة بعد بدء الحرب الشاملة على العراق في عام 1991 بان عمر الامبراطورية الأمريكية سيكون الاقصر في تاريخ كل الامبراطوريات في العالم الحديث والقديم، وكان ما قاله القائد الشهيد صدام حسين بوضوح وبلاغة في عام 1991 حينما قال بان أمريكا بدأت تتدحرج من السفح إلى القعر حالما ضربت بغداد، وهذا ما تحقق بالفعل فنحن الان نرى بوضوح كامل وبلا غموض بان الامبراطورية الأمريكية ما ان صعدت بقوة وتحد حتى بدأت بالتراجع ثم الانهيار عند (بوابات بغداد)، حدث ذلك رغم انها اكثر الامبراطوريات في التاريخ قوة وثراء وتقدما، والسبب هو انها واجهت ثقبا اخضرا – وليس اسودا - عربيا امتص طاقاتها ودفعها التعري ورؤية جسدها على حقيقته مريضا شائخا فاوصلها العراق إلى حافة الانهيار.

ان انجازات المقاومة العراقية، منذ بدأت عام 1991 ردا مباشرا على انطلاق الحرب على العراق التي مازالت مستمرة حتى الان دون توقف، لم تقتصر على اسقاط مخطط امركة العالم واستعماره بل هي نسفت القاعدة المادية لبقاء أمريكا كقوة عظمى وحيدة أو متفوقة على بقية القوى، فغزو العراق الذي كان مطلوبا منه توفير شرطين حاسمين لاغنى عنهما، شرط استخدام أمريكا لنفط العراق وبقية النفوط كاداة ابتزاز خطيرة لكل العالم من جهة، وتقديم دليل حاسم ونهائي على ان أمريكا تملك طاقات متجددة لا تنضب تستطيع بها تركيع العالم مهما خسرت من جهة ثانية، لكن الاستنزاف البشري والمادي في العراق كشف حقيقة خطيرة وهي ان أمريكا تقف على حافة انهيار داخلي شامل وان الحرب وغزو العراق كانا احدى اهم وسائل تلافي ذلك الانهيار.

اذن المقاومة العراقية ، وليس الاتحاد السوفيتي السابق وروسيا بعده ولا الصين ولا اوربا ولا الهند ولا غزو من المريخ، هي من دحرت المشروع الأمريكي الكوني وحررت العالم من عصر عبودية كان يمكن ان يستمر قرونا طويلة، وهي من اجبرت أمريكا على التخلي عن مشروعها الامبراطوري العتيق والراسخ، وهو ما اعترف به زبجنيو بريجنسكي، مستشار الامن القومي الأمريكي الاسبق بقوله يجب التخلي عن وهم السيطرة المنفردة على العالم لاننا عاجزون عن تحقيق ذلك. ما معنى هذا؟ بكل وضوح انه يعني ان المقاومة العراقية لها الفضل كل الفضل في تمزيق الحلم الأمريكي الاجمل والاهم وهو استعمار العالم، مما يضع العراق في طليعة القوى التي تقرر شكل العالم وتطوره.

هل هذا الانجاز لا يكفي وحده لجعل المقاومة العراقية اعظم صانع للتاريخ والوقائع في العصر الحديث؟

زرع عوامل تفكك أمريكا وتقسيمها

من اهم الحقائق البارزة والخطيرة التي تعد مفارقة تاريخية وستراتيجية كبرى بلورتها وفرضتها قدرة المقاومة العراقية على أيصال المشروع الكوني الأمريكي إلى نقطة ميتة، اي إلى طريق مسدود تماما، هي الحقيقية التالية: جاءت أمريكا لتقسيم العراق فوجدت انها هي وليس العراق اصبحت عرضة للتقسيم، كيف ذلك؟

ثمة قانون مطلق يتحكم بتطور أمريكا ومستقبلها يؤكد بانها تعيش موحدة وقوية بقدر ما توفر لمواطنيها مجتمعا استهلاكيا فيه فرص كثيرة وحريات فردية قوية ومضمونة ومخاطر قليلة أو معدومة، هذا هو القانون الاساسي المتحكم بأمريكا اكثر من اي دولة اخرى لان أمريكا ليست دولة امة بل هي دولة شركة عظمى ما يربط موظفيها ببعضهم هو توفر فرص العمل وحماية المصلحة الفردية الصرفة والاستقرار والامن وعدم التعرض للموت أو الاضطهاد.

والسبب في هذه الميزة الأمريكية هو كون الأمريكيين عبارة عن مهاجرين جدد، تشكلوا من مجرمين تم نفيهم من بريطانيا إلى القارة الجديدة للتخلص منهم لكثرتهم ومن فقراء معدمين قرروا الهجرة للمجهول من اجل لقمة العيش ومن مضطهدين دينيا لم يجدوا غير الهرب إلى عالم جديد لعله يوفر لهم حرية المعتقد، مازالوا محافظين حتى الان على جذورهم القومية والثقافية والدينية والاجتماعية المختلفة وهي تؤثر فيهم بشدة تختلف تبعا لحالات معينة، ولم ينصهروا بعد في بوتقة (امة أمريكية) حقيقية، لان الامم تصنع عبر الاف السنين وليس عبر عقود، وهذا هو السبب العلمي والعملي والتاريخي في غياب الشخصية الأمريكية الموحدة على المستوى الشعبي العام والذي يكّون الشرط المسبق لنشوء امة، بهوية الامة المميزة سايكولوجيا وثقافيا واجتماعيا بشكل خاص.

هؤلاء كلهم وجدوا في أمريكا المنقذ لهم وتغيرت احوالهم من سيء إلى جيد أو ممتاز أو رائع، فشكل ذلك رابطا خاصا لا هو رابط الامة ولا هو رابط الثقافة بل هو رابط المصلحة الخاصة والفردية، وقننت تلك الرابطة النفعية الخالصة وفرزت فلسفتها وهي الفلسفة البراغماتية التي ازدهرت في أمريكا اكثر مما ازدهرت في بلد اخر بسبب الطابع الشخصي للهوية الأمريكية.

ان السؤال الواجب طرحه هو: ماذا يحصل حين يواجه المواطن في دولة الرفاهية والاستهلاك تحديات في العيش وتهديد للحياة مثلما كان هو أو والده الذي هاجر إلى أمريكا يواجهه في بلده الاصلي فهاجر تهربا من ذلك؟ الجواب الحاسم هو بدء تفكك صلته بالشركة الكبرى المسماة أمريكا أو نزوعه للانفصال عن الأمريكي المجاور الفقير والذي كان يدعمه في مرحلة الرفاهية والبحبوحة وتوفر فائض لديه يجعله لا يشعر بالضرر اذا اعطى لشريكه في (العمل) لكنه الان وبعد ان بدأ عصر التقشف وتراجع الموارد لا يستطيع التضحية من اجل اي عامل اخر في الشركة الكبرى أمريكا بل تستيقظ لديه كل عناصر الانانية السائدة في التفكير الأمريكي.

لاول مرة في تاريخ أمريكا القصير جدا – اكثر بقليل من 200 عام – تواجه أمريكا، بعد غزو العراق وليس قبله وتعرضها لاسوا استنزاف مادي ونفسي نتيجة له، مسألة بروز تيارات تطالب بانفصال الولايات الغنية عن الولايات الفقيرة بعد حصول عجوزات في موازين بعض الولايات الغنية التي كانت تدعم الولايات الفقيرة! وكانت اول ولاية تطالب بالانفصال من اجل ايقاف دعم الولايات الاخرى هي ولاية كاليفورنيا، وتبعتها عدة ولايات وصلت العشرة في ظرف اقل من عام على تفجر الازمة المالية واصبح الحديث عن الانفصال واضحا ومقبولا.

هل المعنى الكبير والخطير جدا لهذه الظاهرة واضح؟ المعنى الكبير والخطير، والذي ترك وسيترك اثارا مدمرة على مستقبل أمريكا، هو انه لولا صمود العراق في الحرب المستمرة منذ عام 1991 وانتقاله لمرحلة المقاومة الشعبية في عام 2003 وفشل المشروع الأمريكي في العراق، رغم انه صرف مبالغ خيالية لم يصرف مثلها حتى في حرب فيتنام قدرت بثلاثة تريليون دولار، لولا ذلك لما تراجعت قدرة أمريكا على مواصلة توفير نمط الحياة الأمريكية الاستهلاكية والسهلة، ولما اضطرت لتقييد حياة موطنيها وتنامي شبح الدولة البوليسية في أمريكا – تحت غطاء مواجهة الارهاب - والتي هرب الاباء المؤسسون لأمريكا منها، ولما انتهى عصر البحبوحة ودخول أمريكا عصر التحديات اليومية المؤلمة للمواطن العادي في رزقه وامنه وصحته.

ان تزايد احتمالات تقسيم أمريكا هو نتاج طبيعي لمغامرة غزو العراق ووقوعها في فخ مميت وقاتل اسمه فخ المقاومة العراقية. هل يفهم من ينكر دور المقاومة الفعال هذه الحقيقة؟ وهل يفهمها كما هي بكامل اثارها وتأثيراتها؟ والا يكفي هذا وحده ايضا للقول بان المقاومة تنتصر وتتقدم وتحقق اهدافا ستراتيجية اكبر مما توقعت أو خططت؟

يتبع

*كاتب وسياسي عراقي
كتبت في نيسان – ابريل 2010

زر الذهاب إلى الأعلى