كل الظلام الذي في الدنيا لا يستطيع أن يخفي ضوء شمعة (مثل)
المقاومة اسقطت مخطط تقسيم العراق ومحو هويته العربية
حينما ندقق في الوثائق الصهيونية والستراتيجيات الأمريكية والإيرانية نلاحظ ان محورها هو تقسيم وتقاسم الاقطار العربية، فبعد سايكس - بيكو التي قسمت الامة العربية إلى اقطار في بداية القرن العشرين بدأ تنفيذ مخطط تقسيم الاقطار العربية ذاتها من اجل تحويلها إلى كيانات مجهرية قزمة ومقزمة تابعة لهذا الطرف أو ذاك، تقوم على الطائفة أو الدين أو العرق أو المصلحة العائلية أو المصلحة الفردية أو اي اعتبار اخر غير الاعتبار الوطني أو القومي.
ويلاحظ القارئ الكريم انني استعين منذ الثمانينيات من القرن الماضي بوثيقة عوديد ينون الكاتب الاسرائيلي ومستشار مناحيم بيجن وقتها أكثر من غيرها من الوثائق الصهيونية، والمعنونة (ستراتيجية لاسرائيل في الثمانينات) والتي تؤكد على ان تقسيم الاقطار العربية، واخطرها واهمها كما تقول العراق، هو الحل الوحيد لمشاكل الامن الصهيوني والضمانة الاساسية لمستقبل اسرائيل. وفي هذه الوثيقة، التي تلخص، وتعكس وتجسد، كافة الوثائق والمواقف والستراتيجيات الاسرائيلية القديمة والحديثة، يقول ينون يجب استخدام الاقليات الدينية والقومية في الوطن العربي لتقسيم الاقطار العربية، وسميت تلك ب(نظرية تفتيت الوطن العربي على اسس عرقية وطائفية) من جهة، وايجاد قواسم مشتركة واقامة علاقات تعاون بعيدة المدى وستراتيجية مع دول الجوار العربي غير العربية مثل إيران وتركيا ودول افريقية، من اجل محاصرة العرب وخلق المشاكل لهم مع تلك البلدان وعدم السماح بتحقيق اي استقرار أو تقدم في أي قطر عربي، واسميت تلك بنظرية (شد الاطراف) من جهة ثانية.
أمريكا حتى وصول ادارة بوش الابن كانت تريد تقزيم العراق وليس تقسيمه وهي خطوة اولية جمعتها باسرائيل التي تبنت مبكرا خطة تقسيم العراق، ولكن بوصول بوش الابن ومعه من يسيطر عليه وهم (المحافظون الجدد) تبنى الموقف الاسرائيلي أي تقسيم العراق وهو ما اراد تنفيذه بغزو العراق، وكانت اول خطوات ذلك فرض نظام (المحاصصات الطائفية العرقية) وتتويج ذلك ودعمه بفرض دستور كتبه اليهودي الصهيوني الأمريكي نوح فيلدمان وهو في واقعه دستور لدولة كونفدرالية، وان سمي بالفدرالية لاخفاء طابعه وطبيعته التقسيمية للعراق.
اما إيران فانها من منطلق قومي فارسي – اصبح من ينكره ليس اكثر من غبي أو مرتزق وجاسوس لوجود عشرات الادلة المادية والرسمية عليه – تتمسك بموقف مبدأي وستراتيجي ثابت في كل العهود والانظمة يقوم على فكرة ان وجود عراق قوي ومستقر وموحد يشكل عامل منع لتنفيذ مخططاتها التوسعية في بقية الاقطار العربية على اعتبار ان العراق حاجز جغرافي يفصل إيران عن بقية الاقطار العربية ومن دون ازالته أو تحييده لايمكن لإيران التقدم نحو اي قطر عربي..
لذلك فان اي مشروع امبراطوري إيراني، سواء كان علمانيا اوقوميا صريحا أو دينيا، لابد وان يبدأ بالسيطرة على العراق واخضاعه لإيران لازالة اهم عقبة جغرافية وسكانية وسياسية امام التوسعية الإيرانية في بقية الاقطار العربية، ثم استخدام طاقاته البشرية والاقتصادية لتحقيق الطموح الفارسي القومي التقليدي في التوسع الاستعماري الإيراني على حساب العرب. تلك الحقيقة الجيوبولوتيكية والتاريخية هي التي وضعت إيران على مسار واحد مع أمريكا والكيان الصهيوني في مسألة تقسيم وتقاسم الاقطار العربية انطلاقا من العراق.
ومنذ الغزو بدأ ثلاثي الشر هذا – أمريكا والكيان الصهيوني وإيران - بالعمل الجاد على تقسيم العراق أو على الاقل تحويله إلى دولة فاشلة ومفككة وجاهزة للتقسيم متى حان الظرف المناسب لذلك. وحينما نتحدث عن تقسيم العراق عن طريق من يحتل العراق، لابد ان نشير إلى حقيقة خطيرة وهي ان هذه الاطراف لم تعتمد فقط على العملاء التابعين للاحتلال بل هي استغلت واخترقت عناصر وكتل معادية للاحتلال مستفيدة من طبيعتها الطائفية المتجذرة التي اعتبرتها خير وسيلة لاستخدامها مباشرة أو بصورة غير مباشرة، اولا في منع تحقيق وحدة كل فصائل المقاومة العراقية وتلك خطوة لابد منها تسبق النصر، ثم ثانيا في اشعال الحرب الطائفية على طريق تقسيم العراق مستغلة تغلب النزعة الطائفية على المصلحة الوطنية العراقية لدى بعض التكفيريين.
ولعل ما حصل في عام 2006 يقدم لنا البرهان الحاسم على صحة ما قلنا، فقد بدأت الطائفية في كلا الطرفين السني والشيعي اعتماد خطة منظمة للتطهير الطائفي الشامل تجاوز القتل العشوائي الطائفي بارتكاب جرائم قتل جماعية بشعة منظمة بدقة خصوصا بعد تفجير مرقد الامامين في سامراء وقيام مقتدى الصدر بتنفيذ اخطر مخطط تطهير طائفي في تاريخ كل الوطن العربي، ذهبت ضحيته الجماهير العراقية السنية والشيعية من اجل اشعال حرب طائفية، واكملت صورة مؤامرة تقسيم العراق بصدور فتاوى تكفيرية للشيعة باسم ابو مصعب الزرقاوي وغيره اباحت دمهم وردت على وجود فيلق بدر التابع لإيران بتشكيل ما اسمته (فيلق عمر) وامرته بقتل الشيعة على الهوية!
وقد ادى ذلك إلى تقديم امثلة مهينة وسيئة عن المقاومة العراقية. لقد ذهب ضحية المجازر الطائفية مئات الالاف من العراقيين وتم تهجير الملايين من ابناء العراق نتيجة الرعب العام الذي خلقته جرائم الطائفيين في كلا الطرفين، ومع ذلك فان وجود تيارات عراقية اساسية عسكرية ومدنية تشكل الاغلبية الساحقة من مناهضي الاحتلال وقفت ضد التيارات الطائفية الشيعية والسنية وكشفتها وعزلتها حتى ان عام 2008 بدأ يشهد انحسارا واضحا في المد الطائفي وصعود الرابطة الوطنية العراقية مرة ثانية وحلولها وسيادتها على الساحة العراقية.
وتلك الحقيقة هي التي تفسر لم اجبرت اشد الاحزاب والكتل الطائفية على استبدال شعاراتها وطروحاتها وتبني تسميات وطنية حيث انها ادركت ان المزاج العام والثقافة العامة كانا ضد الطائفية والعرقية في كل العراق. لقد حفظت التيارات الوطنية والقومية في المقاومة العراقية، وهي القوة الرئيسية فيها، للعراق وحدته وهويته الوطنية واضعفت التيارات الدينية الطائفية من كلا الطرفين، وكان لذلك اثر حاسم في معاونة العراقيين على الادراك السريع والقوي لحقيقة ان الفتنة الطائفية والعرقية كانت جزء اساسيا من مخطط الاحتلال وليس نتاج موقف مذهب أو طائفة معينة. انه انجاز عظيم بالنسبة لشعب العراق ومستقبله وهويته حققته المقاومة الوطنية والقومية والاسلامية – غير التكفيرية - في العراق حفظ للعراق دوره في المستقبل القريب في اعادة ترتيب اوضاع الامة العربية وفقا لمصالحها العليا.
البنية الخاصة لشعب العراق
وهنا يجب ان نذكّر بظاهرة تاريخية وسايكولوجية معروفة في اوساط معينة، وهي الطبيعة الخاصة للعراقيين كمقاتلين اشداء يجاورون اقواما غير عربية لها مطامع تاريخية بارض العرب وقامت بغزوات كثيرة لها، فاصبح واجبهم الاول عبر الاف السنين هو حماية الحدود الشرقية للامة العربية، مع ما يترتب على ذلك من تبلور بنية نفسية واجتماعية خاصة تفرضها تلك الحالة ميزتها الابرز الصلابة والقوة والاستعداد الدائم للتضحية، وهي بنية كانت وستبقى قوة نادرة في تاريخ العالم وواقعه، من حيث الاصرار على تحقيق الهدف النهائي بغض النظر عن العقبات والتضحيات والتحديات المهولة غالبا.
فالعراقي حينما يواجه تحديا خطيرا جدا، ويقول المنطق العادي يجب الابتعاد عنه وعدم تفجير صراع اثناءه، يفكر بطريقة اخرى منطقية أيضا لكنها تتجنب الاستسلام للواقع وتنظر إلى الممكنات الكامنة في اعماق الذات العراقية وهي ممكنات جبارة، وتبدأ باستخدام حتى الابرة من اجل حفر نفق في جبل التحدي حتى الوصول إلى النجاح في حفر النفق بابرة، ان صبر العراقيين وتحملهم للاهوال والتضحيات الغالية سمة بارزة مكنتهم من احتلال موقع الطليعة الاولى في تغيير العالم قديما، وهي التي أهلتهم حديثا للتصدي للتحديات التي عجزت قيادات الامة عن مواجهتها فاختار العراقيون كتابة صفحات جديدة من التاريخ العربي والعالمي.
كيف تجلت الطبيعة الخاصة للعراقيين في واقع الصراع الستراتيجي؟ للاجابة على هذا السؤال يجب ان نذكّر بمواقف معروفة وموثقة توضح الطبيعة الخاصة للعراقيين، ومنها موقفان حديثان فقط كان المنطق التقليدي في السياسة والستراتيجية يفرض تجنبهما:
الموقف الاول هو رد فعل العالم كله على اصرار العراق على مواجهة أمريكا حينما بدات باشهار الحرب العلنية عليه في عام 1988 بعد الانتصار على إيران، وانضمام اسرائيل إلى أمريكا بقيامها بتهديد العراق بضربه وتدميره. في ذلك العام تخلت أمريكا عن اهم واقدم ستراتيجية تبنتها منذ اربعينيات القرن الماضي وهي ستراتيجية الحرب بالنيابة (War by proxy)، المعتمدة على استخدام قوى اقليمية في تنفيذ سياساتها، مثل الكيان الصهيوني ونظام الشاه في إيران، بالاضافة لقوى عربية. وكانت هذه الستراتيجية ناجحة إلى حد كبير وكان لها دور خطير في محاصرة المرحوم عبدالناصر وافشال تجربته القومية التقدمية، وبنفس الوقت ابقت أمريكا خارج النطاق الرسمي للحروب والازمات الاقليمية مع انها هي من تقررها وتوجهها وتحدد مساراتها واهدافها. في عام 1988 تبنت أمريكا ستراتيجية اخرى مختلفة وهي الحرب بالاصالة. مامعنى الحرب بالاصالة؟
بعد ان كانت أمريكا توجه ادواتها الاقليمية وتقود المعارك من خلف الستار وبصورة غير رسمية تقدمت الصفوف ودفعت من كانت تعتمد عليه في تنفيذ الحروب والازمات الاقليمية إلى الخلف وتولت هي مباشرة ورسميا المعركة ضد العراق لان العراق الذي هزم إيران خميني، التي كانت تملك قوة بشرية هائلة مستعدة للموت من اجل الزعيم الجديد، ليس بمقدور الدول التي تحركها أمريكا مواجهته، لذلك تقرر ان تقود أمريكا اكبر حلف في التاريخ، قديما وحديثا، عسكري واقتصادي وسياسي...الخ ضد العراق ضم اكثر من 40 دولة.
منذ ذلك العام بدأت حرب شرسة وشاملة ضد العراق قادتها أمريكا وبدعم دول في العالم، وفي مقدمتها بريطانيا وانظمة عربية وبالتلاقي مع إيران المهزومة في حربها التي فرضتها على العراق، وكانت بداية تلك الحرب هي حملات متواصلة ضد العراق من اجل شيطنته واعداد البيئة المقبولة عالميا واقليميا لغزوه.
ومن تلك الحملات المعروفة قصة (المدفع العملاق) واسلحة الدمار الشامل و(خرق حقوق الانسان) واعدام الجاسوس بازوفت و(اضطهاد الاكراد)...الخ، والتي توجتها أمريكا بفرض مقاطعة على العراق في ذلك العام منعت بموجبها صفقات تجارية مدنية كانت قد وقعت. في تلك البيئة وتصاعد الحملات على العراق اطلقت اسرائيل تهديداتها بتدمير العراق فرد العراق على لسان قائده الشهيد صدام حيسين قائلا (اذا قصفتنا اسرائيل فسوف نحرق نصفها)، فقامت الدنيا ضد العراق وشوه التصريح بصورة انتقائية. وقتها وقفت دول عربية وغير عربية موقفا معروفا وهو الضغط على العراق من اجل الانحناء للعاصفة وعدم التصدي لها وانتظار مرورها عبر التهدئة، لكن العراق اختار المواجهة ورفض الانحناء وهو اختيار عدته اغلبية الاطراف مغامرة انتحارية وغير عقلانية لان أمريكا كانت في عزو قوتها وكان العالم يتفكك بينما أمريكا تزداد قوة. وعمليات التصعيد هذه اوصلت إلى بدء الحرب العالمية الثالثة التي اندلعت في عام 1991 مازالت مستمرة حتى الان.
اما الموقف الثاني فكان الثقة العراقية بالنصر، رغم كل مؤشرات التفوق الأمريكي المطلق في المواجهة، وعدم وقوع العراق في فخ ابتزاز القوة الأمريكية المدعومة عالميا، ففي الاعوام بين 1988 و1990 كان العراق يستعد للمواجهة الكبرى، وهو عازم على عدم التراجع، وقتها برزت عيوب ونقاط ضعف حقيقية في بنية اوساط عراقية معينة، خصوصا بعض المثقفين والاكاديميين الذين اصابهم القلق من نتائج المواجهة مع أمريكا، وكان منطقهم يقول بعد بدء العدوان والحرب في عام 1991 وعام 1992 ان العصر هو عصر أمريكا ومن غير الحكمة الاصطدام معها، لذلك يجب الانحناء لها والتكيف مع العصر الأمريكي. واذكر كمثال على ذلك ان ندوة خاصة قد عقدت في 1992 وحضرها اكاديميون وضباط جيش كبار وضباط مخابرات وطرحت فيها تلك الاراء علنا وكانت الندوة تسجل بالصورة والصوت!
وكان من بين من تبنى ذلك ضباطا كبار في القوات المسلحة بالاضافة لاكاديميين ارتعدت فرائصهم اثناء المرحلة الاولى من الحرب العالمية الثالثة! وللتاريخ اسجل، ومن حضر تلك الندوة يعرف ذلك وهم احياء، بانني كنت الوحيد الذي تصدى بقوة لهذا الطرح في تلك الندوة من خلال تحليلي لواقع أمريكا وازمتها البنيوية والسياق الستراتيجي العام للصراع والذي يؤكد بان أمريكا ليست قوة لا تقهر بل يمكن ان تقهر اذا اعتمدنا حرب الشعب وتعبئة الجماهير للمواجهة.
ولم يجرأ احد لا من الضباط ولا من المدنيين على الرد على موقفي ولاذوا بالصمت خصوصا وان كلامي كان تقريعيا وقاسيا، بل ان بعضهم اطرى على موقفي اثناء الاستراحة وهو يشعر بالضعف، لانني كنت مسلحا بالمعرفة الدقيقة لواقع أمريكا وحقيقة خططها اما هم فكانوا مسلحين بقصر النظر والخوف على موقعهم ووظيفتهم، من جهة، وليقيني التام ان طبيعة الشعب العراقي تصطدم بميول التخادل امام ابتزاز القوة وترفضها وتتمسك بخيار الصمود مهما كان الثمن من جهة ثانية.
لقد رفضت الطبيعة الخاصة للشعب العراقي تقبل فكرة ان أمريكا سادت لتبقى لذلك يجب الانحناء لها والتكيف مع العصر الأمريكي. كان منطق الثوار العراقيين هو غير منطق اكاديميين أو ضباط مهنيين، أو انتهازيين، يفتقرون إلى رؤية تاريخية للصراع تتجاوز حدود القوة التقليدية، وكانت القيادة العراقية تعرف ان التاريخ لا يصنعه من ينحنون للعاصفة مهما كانت مدمرة بل اولئك الذين يحتمون من العاصفة ويتحملون دمارها لكنهم يواصلون العمل من اجل تحقيق الهدف النهائي وهو اعادة تركيز قواعد الحق والعدل ومنع التجاوز وخلق وقائع مادية لا يمكن ازالتها. وكان منطلق هذا الموقف هو رؤية شاملة للصراع ولاطرافه واهدافه الحقيقية وليس رؤية لحظة عابرة منه لا تسمح بأدراك ما خلف الواقع من ممكنات بشرية كامنة.
ومن بين اطرف مظاهر سذاجة وضعف موقف ومنطق من طالب بالانحناء للعاصفة الأمريكية وقتها، هو اشارتهم للدمار الذي لحق بالعراق من جراء بدء الحرب عليه وخروجه من الكويت وكأن الحرب لم تكن عبارة عن جهد متناقض لصناعة التاريخ وخلق وقائع جديدة في العالم، وهو ما يجعل الاثار الكارثية متوقعة وطبيعية وليست امرا عابرا أو يمكن تجنبه. فأمريكا التي كانت تريد اخضاع العالم كله لها واجهت عراقا يرفض جعل انطلاقة غزو العالم تبدأ بغزو العراق، وكان العراق يرى في الصدام معركة العالم من اجل الحرية و التخلص من استعمار كان يمكن ان يكون الابشع في التاريخ، ولذلك فان العراق قرر خوض (ام المعارك) والانطلاق منها لتغيير مسار العالم ودفعه في اتجاه مناقض للاتجاه الذي رسمته أمريكا.
في تلك الندوة قال دكتور في العلوم السياسية – احجم عن ذكر اسمه احتراما لذكراه - كلاما جريئا ولكنه خاطئ كليا عبر عن نظرة قاصرة لا تفهم الابعاد الستراتيجية والتاريخية للصراعات وهو أسير صور الدمار الذي لحق بالعراق: قال (علينا ان نتخلى عن المبالغة في حجم العراق وقوته، ما معنى تعبير العراق العظيم اذا كان قد اصبح حجمه بحجم يدي بعد العدوان)! هذا الشخص رحمه الله قتل بعد الغزو وانخراطه في العملية السياسية مثل غيره ممن دعوا في تلك الندوة للانبطاح لأمريكا وكانوا في مقدمة من رحب بالغزو في ايامه الاولى، لم يفهم طبيعة الصراع ولم يرى الا لحظة مقتطعة منه، اما نحن فقد راينا العراق الصغير الحجم ولكن العظيم القدرات على الصبر والصمود والمطاولة حتى النصر، واليوم يرى الجميع بما في ذلك اولئك الذين دعوا إلى التكيف مع العصر الأمريكي ان العراق بشعبه العظيم وطبيعته الخاصة هو من اذل أمريكا واوصلها إلى حافة الانهيار وهو من قبر مشروعها الامبراطوري الكوني، وهو من علمها درسا لم تتعلمه من حرب فيتنام وهو ان الصغير المالك لهوية راسخة والمملوء بثراء التاريخ والقيم والتربية الانسانية لا يمكن قهره ولا الحاق الهزيمة به مهما تفوق عدوه. نعم العراق عظيم، كان عظيما وهو الان عظيما بفضل انجاز اخر قام به وهو الحاق الهزيمة باكبر واقوى واعظم قوة استعمارية في كل التاريخ الانساني، وسيبقى عظيما على مدى ألفيات قادمة من الزمن.
وهنا ايضا يجب ان نسخر ممن سخروا منا ونحن نؤكد باننا سننتصر على أمريكا: لقد سخر الكثيرون من مصطلح (ام المعارك) خصوصا بعد اضطرار العراق للخروج من الكويت، في نظرة ساذجة وقاصرة لم ترى الا بدايات الصراع، ومنها خروج العراق من الكويت والدمار الهائل الذي لحق به والحصار الذي فرض عليه، واهملت معنى مصطلح ام المعارك، والذي يعني خوض معارك ضخمة متعددة ومختلفة ومعقدة وصعبة ومكلفة وطويلة لا تكسب كلها بل تخاض من اجل ضمان النصر في (معركة الحواسم)، وبغض النظر عن المعارك التي قد نخسر بعضها ولكن النتيجة يجب ان تكون النصر في معركة الحواسم.
والسوال المهم الان وبعد عقدين من الزمن على بدء اطول حرب عالمية من انتصر؟ العراق ام أمريكا؟
مما لا شك فيه ان أمريكا هزمت في العراق في معركة الحواسم التي بدات بعد غزو العراق واعتمدت حرب الشعب بعد تفتت القوات المسلحة النظامية، وهي التتويج العظيم لام المعارك. ان الطبيعة الخاصة للعراقيين تجلت افضل ما تجلت في تلك النظرة الواثقة بالنصر رغم ان كل المؤشرات كانت تقول ان أمريكا قوة لا تقهر، ورغم ان صغار وكبار العالم نصحوا العراق بالانحناء للعاصفة الأمريكية، تماما كما نصحت القوى السياسية العراقية البعث في عام 1971 بعدم تأميم النفط خوفا من رد فعل الغرب! لكن التكوين الخاص للعراقي جعله يحفر النصر بالابرة بابرة المقاومة المسلحة التي اوصلتنا إلى نصر كان السذج والخدج وقصيري النظر يعتقدون انه مستحيل.
الطبيعة الخاصة للعراقيين هي التي جعلت العراق قبل ثمانية الاف عام اول من كتب الحرف واول من صاغ العلوم ونواياتها واول من اقام مجتمعا بشريا واول من اراد الوصول للسماء فوضع اسس علم الفلك، وفيه قامت اعظم واهم امبراطورية عسكرية في التاريخ القديم وضعت اسس العلم العسكري وهي الامبراطورية الاشورية. هذه العبقرية العراقية هي التي تخشاها القوى التي تطمح – بحق أو بدون حق – في اقامة أمبراطورية تمثلها وتحقق مصالحها، خصوصا في الاقليم كالكيان الصهيوني والشوفينية الفارسية اللتان تريان في العراق القوي والمتقدم العقبة الاساسية التي تمنع التوسع الاستعماري لكلتاهما على حساب العرب، وبما ان كلا الامبراطوريتين الصهيونية والفارسية لن تقوما الا على انقاض الامة العربية وبفضل استغلال مواردها العامة، خصوصا البشرية والمادية فان تقزيم العراق أو تقسيمه ومحو هويته القومية والوطنية هو الخيار الستراتيجي والتاريخي المعروف لكل من الشوفينية الفارسية والصهيونية العالمية.
انجازات عظيمة أخرى
بعد عرض الانجازات السابقة لابد من عرض انجازات اخرى باختصار شديد:
1 - المقاومة العراقية عمقت الوعي العربي بالمخطط التقسيمي: ولئن كانت المقاومة العراقية قد حافظت على وحدة العراق واسقطت مخططات التفتيت الطائفي العرقي فيه، وهو انجاز ستراتيجي عظيم لانه حافظ على وحدة العراق، فانها أيضا اوقفت اهم عناصر مخطط تقسيم الاقطار العربية وهو عنصر تعاقب خطوات التقسيم انطلاقا من العراق وتوسعها لتشمل كل الاقطار العربية. ان ما حدث في العراق من جرائم بشعة كنتيجة طبيعية للتفكير والانتماء الطائفيين قدم للعرب من المحيط إلى الخليج العربي صورة واقعهم اذا قبلوا باللعبة الأمريكية – الإيرانية - الصهيونية القائمة على تشجيع الفتن والصراعات الطائفية والعرقية، الامر الذي نما وعمق الوعي الوطني والقومي ليكون القلعة التي تحمي الاقطار العربية ووحدتها الوطنية من اخطار الشرذمة. ولذلك فان المقاومة العراقية على المستوى العربي حققت انجازا هائلا وهو تسليط الضوء على طبيعة المخطط الأمريكي – الصهيوني – الإيراني القائم على تعميم النموذج العراقي بكل كارثيته وبشاعته ومأسيه.
2 - اعادت تشكيل صورة العرب: ان المقاومة العراقية التي نجحت وحدها، وليس اي قوة كبرى أو وسطى اخرى، في دحر أمريكا في العراق واسقاط مخططاتها الكونية العامة وايصالها إلى حافة الانهيار الداخلي قدمت الدليل القاطع على ان الانسان العربي حينما تتاح له فرص العمل والتوعية الوطنية والقومية الحقيقية يستطيع صنع معجزات استثنائية ومنها دحر قوى اكبر منه بكثير. وبعكس الصورة النمطية التي روجها الغرب والصهيونية عن الانسان العربي (المهزوم والجبان والمتخلف وقصير النفس والنظر والاناني...) الخ، والتي تجسدت في صورة انظمة عربية معروفة، فان المقاومة العراقية قدمت العربي على انه مقاتل باسل وذكي جدا وبعيد النظر ومستعد للتضحية من اجل قيم عليا ووطن يستباح، والاهم انه قادر على هزيمة اعداء اكبر منه عددا واكثر منه ثراء واعلى منه تقدما علميا وتكنولوجيا لانه يقاتل من اجل الحق والحقوق.
حينما هزمت اسرائيل في جنوب لبنان وتكررت هزيمتها في حرب عام 2006 انتبه العالم إلى ان العرب نجحوا لثاني مرة في حاق الهزيمة بالكيان الصهيوني – المرة الاولى كانت في حرب اكتوبر -، لكن هذا النصر على اهميته يخضع لقاعدتين:
القاعدة الاولى انه نصر على الفرع والتابع وهو الكيان الصهيوني وليس على الاصل ومصدر القوة وهو أمريكا، بينما انتصار المقاومة العراقية على الاصل ومصدر القوة وهو أمريكا وهنا تكمن فرادة الانتصار العراقي وعظمته، تلك الفرادة التي يتم تجاهلها من قبل البعض مقابل ابراز الانتصار على الفرع في لبنان والهدف يبقى هو نفسه الهدف الصهيوني الغربي وهو اعادة تقزيم الامة العربية وحصرها في صورة نمطية تقول بانه لولا دعم إيران لما انتصر حزب الله، فالعرب اذن هم محض فشل وعجز.
والقاعدة الثانية ان نصر لبنان نصر جير لصالح إيران وليس لصالح الامة العربية خصوصا جير لاجل مواصلة التنكيل بالعراق ومواصلة ذبحه من قبل أمريكا وإيران تحت غطاء تحرري وهو ادعاء محاربة إيران لأمريكا، في حين ان نصر العراق كان من اجل العراق والامة العربية وتحررها ووحدتها والتمهيد لتحرير فلسطين من الصهيونية والتي تستمد قوتها وبقاءها من أمريكا.
بعد عصور من الهزائم والاخفاقات وبعد انتصارات ناقصة كحرب اكتوبر، أو انتصارات عمدت بالدم العربي اللبناني لكنها جيرت لصالح استعمار اقليمي اخر لا يقل خطورة على الاستعمار الصهيوني هو الاستعمار الإيراني اتت المقاومة العراقي لتقول للعرب هذا هو انتصاركم الحقيقي وتلك هي طبيعتكم الخلاقة، وقدمت للانسان العربي الدليل على انه مؤهل للانتصار وتحقيق التقدم لو اتيحت له الفرص وعاش في بيئة صحية توفر له مستلزمات الوعي والحياة السليمة والعدل. ان العراقي وهو يقدم انموذجا عظيما للفروسية والاستعداد للاستشهاد من اجل العروبة والعراق نسف الصورة النمطية التي روجها الغرب الاستعماري والصهيونية والشوفينية الفارسية حول العرب، وهي شخصية تتراوح سماتها بين الغباء وضيق الافق والانانية وقصر النظر والبطنة وعبودية الجنس واستحالة تكيفهم مع متطلبات العصر الحديث من النواحي العلمية والتكنولوجية، رغم ان تجربة العراق في النهضة قد نسفت هذه الصورة وقدمت صورة للعراق المبدع المتقدم، وهذا احد اهم اسباب غزوه وتدميره.
المقاومة العراقية اعادت بناء انموذج للشخصية العربية الحديثة لتصبح قريبة من الشخصية العربية عند بدء الرسالة المحمدية المقدسة، ميزاتها الاساسية السمو فوق الانانية والتمسك بالمبادئ والربط بين مواصلة العيش وبين الكرامة المصانة في وطن حر تسوده العدالة. ان العربي اليوم، كما قدمته المقاومة العراقية، هو ليس العربي الحاكم المتخم بالكسل والانانية والغارق في التخلف بل هو المقاوم الذي يدحر أمريكا ويعيدها إلى المربع الاول وهو المحافظة على وجودها من الانهيار.
3 - المقاومة العراقية نسفت اساطير الديمقراطية وحقوق الانسان: من دون ادنى شك فان المقاومة العراقية هدمت الاسس التي قامت عليها الدعاية الغربية والصهيونية حول رسالة نشر الديمقراطية وحقوق الانسان وكشفت القاع المتوحش للغرب والصهيونية، ودعمت ذلك بادلة لا تدحض من خلال نوعية الجرائم التي ارتكبت في العراق، وابرزها ابادة مليون ونصف المليون عراقي وتشريد اكثر من 6 ملايين عراقي وترمل اكثر من مليون امراة وخلق حوالي 5 خمسة ملايين يتيم وتحويل العراق من بلد غني مرفه إلى انموذج للخراب والفقر والفساد والاضطهاد العرقي والديني والطائفي. ان ابو غريب مجرد انموذج واحد لملايين حالات خرق حقوق الانسان الاساسية واهمها الحق في الحياة، بالاضافة لتبني قانون فاشي اجرامي ل يسبق له مثيل وهو قانون اجتثاث البعث والذي حوم اكثر من خمسة ملايين عراقي من حق العيش وممارسة السياسة وعرضهم للقتل والابادة والتنكيل. لنتخيل لو ان المقاومة لم تحصل وان الاحتلال فرض نظامه الاستعماري بسهولة فان كشف كذبة الديمقراطية وحقوق الانسان كان سيصبح اصعب بكثير لهذا فان انطلاق المقاومة كان عملية كشف وفضح لزيف شعارات الغرب الاستعماري , وهو امر حرم اتباع أمريكا من حرية الدعوة لهذ الشعارات وجعلهم في حصار خانق.
4 – المقاومة العراقية كشفت انحطاط قيم أمريكا والغرب: كان الغرب يتحدث عم دوره الحضاري في العالم وعمله على انقاذ العالم من التخلف والبداوة وقيم التوحش، وكانت تلك الشعارات هي التي خدعت ملايين الغربيين وجعلتهم يدعمون سياسات حكوماتهم الاستعمارية. ورغم وجود امثلة كثيرة على زيف هذه الشعارات الا ان ما حصل في العراق بعد الغزو هدم إلى الابد الادعاء الغربي والصهيوني بالتمسك بقيم اخلاقية وانسانية.
لقد راي العالم ان الكذب هو المحور الاساسي في اقناع اوساط واسعة بالغزوات والجرائم البشعة، لقد كان غزو العراق ثمرة الاكاذيب وكان من يكذب يعرف مسبقا انه يكذب لكنه كذب من اجل تسويق الغزو الاستعماري ونهب العراق وتدميره. ان اكاذيب توني بلير مثل كذبة ان العراق يملك صواريخ قادرة على ضرب أمريكا واوربا خلال 45 دقيقة، واكاذيب جورج بوش حول امتلاك اسلحة الدمار السامل ووجود صلة للعراق بالقاعدة، واكاذيب وزير الخارجية الأمريكية كولن باول امام مجلس الامن حول الشاحنات المتحركة، وغيرها كثير قد اثبتت للعالم أو على الاقل لاجزاء مهمة منه ان الكذب كان مقررا سلفا وان من كذب كان يدرك انه يكذب لكنه مارسه من اجل تبرير غزو العراق. مرة اخرى تخيلوا لو ان المقاومة لم تنطلق وتضع أمريكا على حافة الانهيار وتدفع بالغزو إلى طريق مسدود هل كانت أمريكا وبريطانيا ستحققان في الاكاذيب ام انهما كانتا ستغلقان ملفها أو تؤجلان فتحه لما بعد نصف قرن؟ لقد كان انتصار المقاومة عامل تسريع في اثبات ان الكذب احد اهم مكونات السياسات الخارجية للدول الاستعمارية الغربية خصوصا أمريكا.
5– أسقاط مشروع اقامة النظام الشرق اوسطي الجديد: قبل غزو العراق ومنذ تسعينيات القرن الماضي بدأ الحديث الجاد والمتفائل في أمريكا واوربا حول الضرورة التاريخية لاقامة نظام شرق اوسطي جديد أو كبير وظيفته الاساسية اعادة تجميع الوطن العربي بعد تقسيمه وشرذمته بصيغة كيانات مقزمة ومهمشة تشبه الفسيفساء تنضم إلى كبار الاقليم، وهم الكيان الصهيوني وتركيا وإيران، تحت زعامة أمريكا. وهذا النظام كان يفترض ان يقود المنطقة كلها ويستثمر مواردها ويحقق الاستقرار وما يسمى ب (السلام). انه تتويج ناجح للعمل الاستعماري والصهيوني خلال اكثر من سبعة عقود من الزمن. وكان يفترض بهذا النظام الاقليمي ان يكون له دور دولي حاسم في تطور الاقتصادات العالمية يتمثل في ضمان نجاح أمريكا في اخضاع كافة دول العالم عن طريق ابتزاز الدول بقوة النفط المتركز في هذ المنطقة.
لكن المقاومة العراقية نجحت في اسقاط مشروع الشرق الاوسط الكبير أو الموسع والسبب واضح وضوح الشمس: ان نجاح هذا المشروع الاقليمي يعتمد اساسا على الاستقرار الاقليمي لان راس المال جبان ولا يأتي لمناطق الاضطرابات وعدم الاستقرار، وبما ان المقاومة العراقية قد حولت غزو العراق إلى كارثة مالية وبشرية لأمريكا، كما كان كارثة لشعب العراق، فان الاستقرار بقي غائبا وسيبقى غائبا مادام هناك احتلال في العراق وفلسطين والاحواز وغيرها، لذلك فان المشروع الاقليمي المسمى ب (الشرق الاوسط الكبير أو الجديد)، والذي يضم العرب وإيران وتركيا والكيان الصهيوني، قد فشل وسقط مع ان أمريكا والصهيونية كانتا تعولان على هذا النظام في ترتيب الاقليم وجعله قاعدة انطلاق للسيطرة على العالم.
حاولوا ان تتذكروا متى كانت اخر مرة سمعتكم هذ المصطلح والذي كان عنوان اغلب الاحاديث قبل غزو العراق لدرجة ان البعض تصور انه قام بالفعل؟ من المؤكد ان النظام الشرق الاوسطي الجديد مصطلح لم نعد نسمع به منذ غطست أمريكا في رمال العراق الحارقة.
القدرة العسكرية للمقاومة: هل تراجعت؟
نأتي الان إلى العنصر الحاسم في دور المقاومة وهو قدرتها الحالية على التاثير العسكري. هناك من يتحدث عن عدم قدرة المقاومة على الحاق هزيمة ساحقة وفي معركة كبيرة بأمريكا ولذلك يستنتج بانها لم تحقق اهم اهدافها وهو الحاق الهزيمة بأمريكا! هل هذا صحيح؟
لنقسم الموضوع إلى قسمين القسم الاول هو حجم ونوعية عمليات المقاومة، والقسم الثاني هو كيفية الحاق الهزيمة بأمريكا.
القسم الاول: هناك من يقول بان المقاومة تراجعت عسكريا، وهذا القول ينطوي اما على جهل حقيقي بما يجري أو انه يدل على وجود عملية تمويه أو خداع إلى حد كبير لا يتضحان الا اذا انتبهنا لما يلي:
أ – يجب التمييز بين عمليات العنف وعمليات المقاومة، وعمليات العنف تشمل هجمات المقاومة وهجمات قوات الاحتلال وعمليات الارهاب ضد المدنيين التي تنفذها جهات عديدة منها الاحتلال الأمريكي والإيراني والبيش مركة الكردية. كانت قوات الاحتلال تحسب كل اعمال العنف في اطار واحد فتقول مثلا ان عدد عمليات العنف بلغ 300 عملية في اليوم، ورغم ان الرقم كان قليلا، مقارنة بما كان يقع من عمليات، الا انها كانت الكمية التقريبية للعمليات الممكن حسابها حتى نهاية عام 2006 وهي تشمل عمليات المقاومة والعمليات الارهابية التي تشن ضد المدنيين العراقيين من قبل جهات عديدة. وهنا يجب التنبيه إلى حقيقة معروفة لمن له صلة بمتابعة احداث العراق وهي ان عمليات المقاومة لا يمكن عدها، لاسباب عديدة منها تعدد الفصائل وعدم وجود تنسيق كامل بينها مما يجعل معرفة العدد الدقيق امرا بالغ الصعوبة، كما ان هناك عمليات يقوم بها افراد وليس فصائل وهي عمليات ليست بالقليلة ولا تدخل في حساب عدد العمليات.
ب – بعد عام 2006 وعندما بدات أمريكا وإيران باستخدام ادواتها – المناجذ النائمة أو جواسيسها داخل بعض الفصائل – وكان تصنيع الصحوات من اهم ما استخدم، وبعد ان نجحت الصحوات في اضعاف المقاومة، ارادت أمريكا وإيران أعطاء انطباع بان الوضع يتجه للهدوء من جهة، وتحميل المقاومة مسئولية الجرائم ضد المدنيين العراقيين والتي كانت ترتكبها فرق الموت وتنسبها للمقاومة من جهة ثانية، فامرت فرق الموت بالتوقف عن شن هجمات ضخمة ضد المدنيين، وهكذا انخفض عدد الضحايا المدنيين من حوالي 200 إلى 300 ضحية يوميا إلى بضع عشرات، وهذا الانخفاض قلل اعمال العنف دون ادنى شك وهي اعمال الاحتلال وليس المقاومة.
ج – يجب الاخذ بنظر الاعتبار ان انسحاب القوات الأمريكية إلى قواعد خارج المدن قلل من قدرة المقاومة على تنفيذ عمليات ضدها.
د – ان تقوية الجيش وقوات الشرطة والامن التابعة للاحتلال قد ادى إلى احداث تغيير في طبيعة المواجهات ا لعسكرية. فبدلا من مواجهات مباشرة ومستمرة حتى عام 2007 اخذت المقاومة تنفذ عمليات تحاول من خلالها ابقاء حالة المقاومة قوية لكنها تتجنب تقديم خسائر كبيرة امام قوات مهما كانت ضعيفة فان عددها الكبير يشكل مشكلة احيانا. كما ان العمل الاستخباري الأمريكي قد تحسن بعد سقوط الكثير من عناصر الفصائل التي تفسخت وانقسمت وانتجت الصحوات وهؤلاء اصبحوا عيونا ضد المقاومة وكانوا خطرين لانهم كانوا في صفوف المقاومة.
ه – ان تنامي التأثير الرسمي العربي على فصائل معينة قد ادى إلى تراجع عملياتها وزاد من احتمالات انخراط تلك الفصائل في العملية السياسية. وهنا لابد من التطرق إلى ظاهرة افساد خطيرة حصلت للمقاومة وهي ان الدعم المالي لبعض الفصائل الاسلاموية قد ادى إلى افساد الكثيرين ممن جاءوا بدافع الجهاد لكنهم وقعوا في فخ البحبوحة المالية والترف المالي. ويكفي هنا ان نذكر باسف شديد ان بعض الفصائل تخلت عن الجهاد عمليا واخذت تشتري افلام عمليات جهادية تقوم بها فصائل فقيرة لا تملك المال ويهمها مواصلة الجهاد حتى لو نسبت عملياتها إلى غيرها، فالمهم بالنسبة لها هو القيام بالعمليات وليس من قام بها، ولاجل مواصلتها لشن هجمات كانت تقبل ببيع افلام عملياتها - لفصائل نعرفها جيدا ونملك معلومات دقيقة موثقة عن ذلك - للحصول عل مال يمكنها من مواصلة الجهاد.
ان السؤال المهم هنا هو هل كان دعم انظمة عربية ماليا لفصائل معينة خطة مدروسة لافسادها وافساد من تستطيع من المقاومة؟
و – في حين ازداد البذخ المالي لبعض لفصائل رغم انها صغيرة عدديا راينا الحرمان من الموارد المالية يزداد بالنسبة لفصائل اخرى رغم انها كبيرة عدديا ومتطورة نوعيا.
اذن وفي ضوء ما تقدم فان الانخفاظ في عدد العمليتا نتج عن عدة اسباب منها:
- توقف الكثير من عمليات قتل العراقيين من قبل فرق الموت.
- تراجع الادوار القتالية لبعص الفصائل التي انقسمت وتعرضت لعملية تشرذم مخطط لها.
- نشوء الصحوات على انقاض بعض الفصائل الاسلاموية وقيام الحزب الاسلامي بدور خطير في تمزيق تلك الفصائل وانشاء الصحوات التي سحبت عشرات الكوادر منها وضمتها للاحتلال.
ان الملاحظات السابقة ضرورية للوصول إلى الرقم التقريبي للعمليات العسكرية للمقاومة منذ عام 2007 وحتى الان، فاذا اخذنا تصريح قائد عسكري أمريكي في عام 2009 قال فيها (ان عدد عمليات الارهابيين تبلغ 700 عملية في الاسبوع)، فاننا امام حالة جهادية رائعة وعالية الفعالية لان 100 عملية في اليوم انجاز عسكري وسياسي كبيرين جدا وندرك اهمية هذا الرقم حينما نتذكر ان الثورات المسلحة التي عدت رائدة كالثورة الفيتنامية والثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية وغيرها لم تكن تقوم بعمليات يومية غالبا بل كانت تقوم بعمليات موسمية كعملية كل اسبوع أو اثنتين كل شهر، وعلى من يريد التاكد من هذه الحقيقة عليه ان يعود لقراءة تاريخ هذه لثورات. هل مائة عملية في اليوم مؤشر إلى حالة انتصار وتقدم؟ ام انها دليل على تراجع؟ يقينا ان عمليات المقاومة اكثر من مائة عملية في اليوم والمواطن العراقي داخل العراق يعرف ذلك جيدا لانه يسمع أو يرى الهجمات التي تقع يوميا وفي اكثر من مكان أو يرى اثارها على الارض، ويكفي ان نشير إلى ان قوات الاحتلال والحكومة العميلة محرم عليها الخروج إلى الشوارع الا بعد اعداد مسبق وتهيئة قوات ضخمة.
ولنفترض بان المقاومة لا تقوم باكثر من 10 عمليات في اليوم فان هذا الرقم كاف تماما لوضع أمريكا بين خيارين احلاهما مر فاما ان تبقى في العراق وعندها عليها تحمل ظاهرة اقتربها من الانهيار داخل أمريكا لاسباب تتعلق بالاستنزاف المالي والبشري الهائلين، أو ان تنسجب وعندها عليها ان تتحمل حكما قاسيا عليها من الشعب الأمريكي والراي العام بانها هزمت شر هزيمة. مامعنى وصول أمريكا إلى حافة الانهيار، وهو امر اصبح رسميا ومعروفا بعد تفجر الازمة المالية وكشفها عن اخطر العيوب البنيوية في النظام الراسمالي الأمريكي والعالمي؟ ان المعنى الابرز والاهم هو ان المقاومة العراقية قد افشلت خطة غزو العراق والقت بأمريكا في مستنقع مميت وتركتها هناك تواجه خيارات كلها مدمرة وسلبية، رغم ان سلاحها مازال قاتلا ومن الخطأ مواجهته جبهيا – اي وجها لوجه – بل يجب مواصلة منع خروج أمريكا من المستنقع وتعريضها للمزيد من الغوض في المستنقع حتى تقر بالهزيمة.
اما القسم الثاني وهو كيفية الحاق الهزيمة بأمريكا فمنذ البداية قلنا، وكررنا القول، بان هزيمة أمريكا في العراق على يد المقاومة العراقية لن تكون بالضربة القاضية بل بتجميع النقاط، فما معنى ذلك؟
في الملاكمة هناك نوعان من الانتصار الاول الانتصار بالضربة القاضية التي تطيح بالخصم على الارض بضربة قاسية تفقد الخصم توازنه رغما عنه. ولكن هناك حالة في الملاكمة لا يستطيع احد اطرافها الحاق الهزيمة بخصمه بضربة واحدة لقوة الخصم، لذلك يصبح ممكنا الحاق الهزيمة به بتجميع النقاط دون اسقاطه ارضا.
المقاومة العراقية وهي تعرف طبيعة القوة الأمريكية العامة المالية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية وغيرها، لم تقع في وهم انها تستطيع الحاق هزيمة عسكرية في معركة نظامية حاسمة، بل كانت تعرف ان النصر يتحقق فقط عن طريق انهاك أمريكا وتعريضها لاستنزاف مستمر وطويل يوصلها إلى حافة الانهيار في الداخل، الامر الذي يجعل قيام المقاومة بتجميع نقاط لصالحها هو الطريق الوحيد للنصر بعد اقتناع أمريكا بان مواصلة غزو العراق فيه خسارة كبيرة وقد تكون خسارة مدمرة وليس فيه ربح حقيقي وهو ما كانت تريده من وراء الغزو.
الان وصلت أمريكا إلى مرحلة العجز التام عن تحمل مواصلة الحرب والغزو ليس لنقص في معداتها العسكرية ولا نتيجة تراجع تفوقها التكنولوجي بل لانها وصلت إلى طريق مسدود يمنعها من تحقيق الانتصار، وهذا ما نراه تحديدا منذ الازمة المالية، ونحن اكدنا بوضوح بان عام 2008 سيكون عام الحسم وبالفعل فانه كان عام بدء تفجر ازمات أمريكا الداخلية والتي اجبرت بوش على توقيع الاتفاقية الامنية تمهيدا للخروج، من جهة، وكوسيلة للبحث في امكانية البقاء بعد اعادة لنظر في اساليب تقليل الاستنزاف وهو اهم اسباب الفشل الأمريكي، من جهة ثانية، والبحث عن اساليب استخبارية فعالة تحل محل الوسائل العسكرية في اضعاف المقاومة، وهو ما اكدت عليه الادارة الأمريكية في عام 2009 من جهة ثالثة. و لكن ورغم كل محاولات أمريكا الالتفاف على مسالة اقرار الهزيمة فان المشهد العراقي والمشهد المواجه له وهو المشهد الأمريكي يقدمان لنا الوضع الدقيق، فصورة أمريكا واضحة وهي الفشل في تحقيق ايا من اهدافها الستراتيجية – باستثناء التدمير المادي للعراق وهو تدمير يمكن معالجته – وصورة المقاومة العراقية وتبدو فيها انها مازالت تقاتل وتستنزف أمريكا بقوة وفاعلية ونجحت في حماية نفسها ونهجها الجهادي وتحملت مالم تتحمله اي مقاومة اخرى من تضحيات وضغوطات ومحاولات اختراق أو اندساس، وبدت في العام الثامن للغزو فتية ونشيطة وقادرة على مواصلة النضال المسلح حتى تصرخ أمريكا تاوها.
ان ما عرضناه ليس سوى بعضا من انتصارات وانجازات المقاومة العراقية وكل واحد منها يكفي لوضعها في اعلى مقامات التاريخ، وبفضل تلك الانجازات فان العرب العراقيون يصنعون تاريخ العالم ويساهمون في تقرير مسارات البشرية.
ما معنى المثل الذي استخدمناه؟ المعنى الكبير الذي نفهمه من المثال هو ان طلقة واحدة للمقاومة العراقية يوميا قادرة على انارة درب التحرير وناجحة في ابقاء أمريكا قلقة ومعرضة للاستنزاف القاتل، فلتكن لدينا اكثرمن (طلقة) يوميا – بالمعنين المعروفين لمعنى الطلقة، وهما طلقة مقدمات الولادة والطلقة بمعنى الرصاص، ولنبق طلقاتنا تدوي يوميا من بنادقنا ومن اصوات الجيل الذي يولد في لهيب الثورة المسلحة. لا خيار لنا الا النصر ولا شيء غير النصر.
*كاتب وسياسي عراقي
كتبت في نيسان – ابريل 2010