يوم كنت طفلاً كنت أتردد كثيراً على مكتبة في بريدة اسمها «مكتبة النهضة» واليوم أجدني متحدثاً أو كاتباً حول ذات الموضوع، ويداخلني سؤال يحاول دفعي إلى نفق مظلم بسؤال : ماذا تحقق عبر أربعين عاماً أو تزيد ؟ فأتحرر منه بقراءة الوجه الايجابي للحياة وللمتغيرات وللانجاز، والاعتصام بالايمان الذي هو خير عصمة من اليأس والقنوط «اِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ اِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ» (يوسف: من الآية87).
وفي فترة من فترات تاريخنا المعاصر روجت وسائل الاعلام المجندة والمؤدلجة لمفردة «الثورة» خاصة في ظل الامتداد اليساري وحروب الوكالة بين الشرق والغرب والتي كانت بعض البلاد الاسلامية مسرحاً سهلاً لها.
الثورة هي انقلاب يستحضر أسوأ ما في الواقع ليؤلب النفوس والعقول على هدمه وتغييره، وغالباً لا تكون الصورة واضحة للبديل، فالجمهور الغاضب لا يفكر بعقله، ويكفيه أن لديه هدفاً يسير اليه بتغيير وضع ما، شاهدنا هذا في بولندا، وفي إيران، وفي العديد من الجمهوريات الآسيوية، وشيء منه نراه الآن في تايلاند وغيرها.
واذا كانت الثورة تهدف إلى الانتقال للأفضل، فليس هذا هو ما يحدث غالباً، الناس ضحت وانتهت ولم يعد بامكانها أن تأتي مرة أخرى لتعمل ثورة تصحيحية على ثورتها الأولى، أو تحاسب أو تطالب !
الثورة تجمع الصورة السلبية الفاقعة وتعممها وتشهرها وتتجاهل كل ما لا يتفق ورؤيتها، وتستثمر حالة اليأس من الاصلاح.
أما النهضة فهي على النقيض تستجمع الصور الايجابية والفرص المتاحة والأسباب الممكنة لتصحيح الواقع وتوظيف جوانبه الحسنة، ومعالجة أخطائه بصبر وأناة وحلم ورفق، ولكن باصرار ووعي، ووفق خطط مدروسة.
النهضة مفردة لغوية قبل أن تكون مصطلحاً، وهي تعني القيام من عناء أو من ضعف أو من قعود.
ويستخدم هذا التعبير من يدعو إلى تغيير يستلهم التاريخ ويحاول البناء على ذات الأسس السابقة وقد يدعو إلى تغيير يقتبس أو يستنتج تجربة بشرية مجتمعية أخرى، ومن يحاول ابتكار صيغة جديدة تسعى للمواءمة والتوفيق بين الانتماء العقدي واستلهام تجارب الأمم الأخرى للانتفاع بها، وهي صورة غير واضحة المعالم، بيد أن اتساع مفهومها والعمل على تحويلها إلى برامج واقعية قد يجيب عن الكثير من أسئلتها.
سؤال النهضة ليس جديداً ،ومع أن السؤال قديم الا أن الاجابات لم تغير الواقع.
هل ثم خلل في الاجابة، بمعنى أن المحللين والدارسين على مدى مائة عام فشلوا في التسلل إلى موقع العلة ومكمن الداء؟ أم ان المشكلة تكمن في أن الأمر لا يتطلب اجابات نظرية بحتة، بل أفعالاً واقعية ملموسة وقوة بشرية تمتلك الارادة والقدرة؟
بدلاً من الحديث المكرور عن المفردة، لماذا لا نتحدث عن المعارف والعلوم والأفكار العملية البناءة والتفصيلية التي تحمل الفرد أو المجموعة أو الأسرة أو الدولة على اصلاح ما.
انني أسجل هنا وفق رؤيتي الشخصية الناقصة تراجعاً مخيفاً في الهم الاصلاحي والنهضوي وتباطؤاً في تداول الفكرة والحديث عنها مما يثير التساؤل في طبيعة المرحلة التي تعيشها الأمة، وهل هي تتقدم أم تحافظ على مستواها أم تتراجع دون أن يكون هذا حكماً عاماً على امكاناتها وقدراتها، بل على هم النهضة ومداولة داء التخلف دون غيره من المجالات الحيوية المتفاوتة صعوداً أو هبوطاً.
قد يتضاعف عدد الأمة البشري وثرواتها الاقتصادية وقد يتزايد عدد المتعلمين والحاصلين على الشهادات العليا، وهذا لا يعني أن النهضة قادمة، ما دمنا لا نملك مشروعا له رؤيته ولا نستطيع قياس التقدم أو التخلف وفق معايير صحيحة.
مع الاحساس بانكسارات وفشل الاجابات فضلاً عن غياب الممارسات التطبيقية لمشاريع نهضوية عربية، اتسعت دائرة (المشروع الاصلاحي) وأصبحت كلمة «اصلاح» هي الأكثر شيوعاً.
والاصلاح كالنهضة هي مقولات ليس لها معنى خاص أو تعريف محدد، ويمكن النظر إلى هذا بايجابية باعتباره مدعاة إلى أن تلتقي عليها أطراف متباعدة، ويمكن اذا تم تطوير هذا الملمح أن يخفف من حالة التخندق والاصطفاف السلبي الفكري والطائفي والمناطقي للالتقاء على مقاصد شرعية أو مصالح حياتية.
ليكن الاصلاح اذن هماً عاماً نشيعه لدى العامة والخاصة، والسياسي والشرعي، ولدى أصحاب التوجهات المختلفة حتى تأتلف القلوب على مجموعة من المشاريع الاصلاحية والتنموية في البنية التحتية والتعليم والاعلام والصحة والاقتصاد وجوانب الحياة.
لنعد بالكلمة الجميلة الطيبة إلى «براءتها الأولى» ونزاهتها، ولنتصالح معها ونتقبلها بقبول حسن، بعدما كدنا نشرق حتى بذات المفردة، فضلاً عن أن نحولها إلى برامج عمل، ونتوجس من اشارة توحي بأن الحديث عن الاصلاح يعني أننا فاسدون !
وكأننا ملائكة يخلفون، أو جمهوريات مثل عليا، أو نماذج للعدل المطلق!
وكأن المجتمع وصل إلى قمة لا يحلم بما وراءها، وكفى بالمرء تخلفاً أن يظن بنفسه ذاك !
ولننطلق من قيمنا الربانية التي تشكل مرجعية عليا لهذا الاصلاح «وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ اِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ» (الأعراف:170).
وسلام على المصلحين الذين صفت سرائرهم، ونضجت عقولهم، وحسنت أخلاقهم، كثر الله قليلهم، وجمع شتيتهم، وهداهم صراطاً مستقيماً.