آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

إيران والقضية الفلسطينية.. التقية الكبرى والخذلان المقيم

مقدمة: "بعد جريمة إسرائيل الأخيرة بهجومها على اسطول الحرية المتوجه المتوجه لكسر الحصار عن قطاع غزة ثار العالم الإسلامي وغير الاسلامي.. عدا إيران. إذ غالبا ما تتأخر في مثل هذه المواقف.

وفي الوقت الذي بزغ فيه نجم تركيا انطلق خالد مشعل إلى اليمن وليس إلى طهران.. قد يبدو الأمر غريبا بعض الشيء على الكثيرين الذين لم يطلعوا بعد على حقيقة موقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية من قضية فلسطين، وهو ما سنعرج عليه في هذه التناولة وان بشيء من الاقتضاب. مع التطرق باقتضاب كذلك، إلى حقيقة المواقف الإيرانية من قضايا عربية واسلامية أخرى".

المعروف أن جمهورية الخميني قامت منذ اللحظة الأولى على إعلانها تبني القضية الفلسطينية والهتاف حولها.. لكن هذا الأمر ليس موجوداً إلا في مخيلة وكالات الأنباء العالمية العملاقة التي يديرها الصهاينة والتي منها تستقي كافة وسائل الإعلام عناوينها الإخبارية على مدار الساعة.. هذه الوكالات الإخبارية تحرص بشكل كبير على تغطية حقائق عدة منها أن إيران الثورة مثلما أغلقت السفارة الإسرائيلية في طهران، كما أُعلن في أيامها الأولى، فإنها في أقل من عام أفرغت التمثيل الدبلوماسي الفلسطيني من محتواه، وخرج السفير الفلسطيني هاني الحسن من طهران يتيماً ذليلاً بلا حول ولا طول. "في يونيو 85، وقتال "أمل" للفلسطينيين في بيروت كان قد بلغ ذروته(1).

وبينما تكلّم مختلف رموز النظام، منتظري ورفسنجاني وخامنئي، فإن الإمام التزم الصمت. وقيل وقتئذ إنه معتكف في الأيام العشرة الأخيرة من شهر رمضان. ولما انتهى الصيام خرج الإمام من اعتكافه، وألقى خطاباً في (حسينية جمران)، بعد صلاة العيد. وفيما توقع منه كثيرون أن يعلن موقفا تجاه ما يجري في لبنان، فإن الإمام لم يشر إلى الموضوع من قريب أو بعيد، وكان جل تركيزه في الخطاب على دلالة المظاهرات المؤيدة للحرب مع العراق، التي خرجت في يوم القدس (آخر جمعة في رمضان)"(2).

يقول فهمي هويدي: "كنت أحد الذين استمعوا إلى خطبة الإمام في صبيحة ذلك اليوم (20 يونيو) ولم أستطع أن أخفي دهشتي من تجاهله لما يجري في لبنان، ليس فقط لأن الفلسطينيين هم ضحيته، ولكن لأن الجاني منسوب إلى الشيعة. ونقلت انطباعاتي إلى صديق خبير بالسياسة الإيرانية، فكان رده أن الإمام له حساباته وتوازناته"(1)..

خرج الفلسطينيون من لبنان أذلة صاغرين بعد أن كانت بيروت تمثل لهم نقطة إعداد وتدريب للعمل الفدائي، وكذا السياسي، فانتقلت منظمة التحرير إلى تونس، حيث تجمد نشاطها الفدائي تماماً هناك، فيما تحول بقية الفلسطينيين في لبنان إلى مأساة إنسانية موزعة على مخيمات البؤس والشتات. علماً أن للخميني رأياً حول القدس والمسجد الأقصى مفاده تَرْكُ الصهاينة حتى يدمروا المسجد الأقصى تماماً لأن ذلك برأيه هو السبيل الوحيد لتوحيد المسلمين ضد اليهود!

في العام 1986م ظَهَر أن هناك علاقة سرية بين إيران وإسرائيل بواسطة ما عُرف، كما أسلفنا، بفضيحة "إيران جيت" أو "إيران كونترا ".. علماً أن إيران الشاه كانت قد دفعت لإسرائيل 500 مليون دولار مقابل أسلحة، لكن ثورة الخميني قامت قبل وصول الأسلحة، حسب ما هو معلن، وحينها قيل بأن إيران طلبت الـ500 مليون دولار من إسرائيل، لكن الأخيرة رفضت. ومن يومها لم يطالب الإيرانيون إسرائيل بسنت واحد من ذلك المبلغ، ولو من باب التغطية.. وتزامنت تلك الفضيحة مع فرقعة "آيات شيطانية" لمؤلفها الإيراني سلمان رشدي الذي أهدر الخميني دمه ورصد مكافأة مليونية لمن يقتله. وقد نجحت هذه الخطة إلى حد بعيد. حيث أن الناس الآن لازالوا يتذكرون كتاب سلمان رشدي فيما انضمت فضيحة "إيران كونترا" إلى قافلة النسيان!

دور إيران الثورة لم يكن سوى امتداد لإيران الشاه. ولكن بأسلوب أشد دهاءً. حيث لم يؤدِّ هذا الدور "الإسلامي الغيور" إلا إلى سحب البساط من تحت أصحاب القضية الرئيسية (الفلسطينيين). وكذا تفتيت منظمة التحرير وتقسيمها إلى فصائل. ثم الحيلولة دون أن يكون للدور العربي فعالية في أجندة الصراع وخصوصاً دور مصر. التفاصيل الكاملة تجدونها في قلب كل فلسطيني عايش الصدمة الأولى لهذا الدور. وبالإمكان فتح أية مواقع للمقاومة الفلسطينية على الإنترنت.

فجائع مثل هذه سرعان ما يدحرها الإنسان عن ذهنه متعوذاً بالله من الشيطان وهمزه ولمزه ونفحه ونفثه،وسيردد في نفسه اسطوانات القيادات الإيرانية بأن مثل هذا الكلام إنما هو من تدبير الصهيونية العالمية لشق صف المسلمين. لكن الحقيقة هي الحقيقة وإن كانت مؤلمة. ومن جوانب تلك الحقيقة أن صبحي الطفيلي نائب رئيس حزب الله (سابقاً) خرج عقب الإعلان عن انتصار حزب الله في جنوب لبنان صائحاً: إنها لعبة.. اتفق الحزب مع اليهود على حماية شمال إسرائيل، وتم تبادل أسرى عاديين ليس من بينهم فلسطيني واحد، وجميعهم تبقى من فترة أسْرهم يوم أو يومان.. ما فعله نائب رئيس حزب الله يشبه إلى حد بعيد ما قام به أول رئيس لإيران بعد قيام ثورة الخميني وهو "الحسن بني الصدر" الذي جأر من هول "إيران جيت" وصرح بها لمجلة "المجلة" السعودية الصادرة في لندن. ثم أخرج ما تبقى من تفاصيل الفضيحة في برنامج "زيارة خاصة" الذي بثته قناة الجزيرة 1 ديسمبر 2000. ومما قاله بني الصدر في البرنامج: "في اجتماع المجلس العسكري أعلمنا وزير الدفاع أننا بصدد شراء أسلحة من إسرائيل، عجباً كيف يعقل ذلك؟! سألته: من سمح لك بذلك؟ أجابني: الإمام الخميني. قلت: هذا مستحيل!! قال: إنني لا أجرؤ على عمل ذلك وحدي، سارعت للقاء الخميني، وسألته: هل سمحت بذلك؟ أجابني: نعم. إن الإسلام يسمح بذلك. وأضاف قائلاً: إن الحرب هي الحرب. صعقت لذلك. صحيح أن الحرب هي الحرب ولكن أعتقد أن حربنا نظيفة. والجهاد هو أن تقنع الآخرين بوقف الحرب، والتوق إلى السلام. نعم، هذا الذي يجب عمله وليس الذهاب إلى إسرائيل وشراء سلاح منها لمحاربة العرب، لا، لن أرضى بذلك أبداً. حينها قال لي: إنك ضد الحرب وكان عليك أن تقودها لأنك في موقع الرئاسة".

أما عن الدور الإيراني السوري فقد كان بمثابة "المقص" للنضال الفلسطيني(1)، وكل هذا يقودنا إلى حقيقة بقاء العلاقات المتينة بين كل من إيران وإسرائيل بعد قيام ثورة الخميني والدور الذي لعبته إسرائيل في ترجيح كفة إيران في حرب الخليج الأولى بضرب المفاعل النووي العراقي 1981 ودورها في حرب الخليج الثانية بحجزها الطائرات العراقية المقاتلة. ثم دورها في الغزو الأمريكي البريطاني مارس 2003. كل هذا يحدث في ظل تصريحات القادة الإيرانيين المساندة للقضية الفلسطينية، والفلسطينيون أنفسهم هم أفضل من يفتينا حول حقيقة هذه التصريحات، بعيداً عن حصر أية مساندات فعلية من قبل إيران للفلسطينيين.

في هذا السياق من المفيد أن نستشف المعاني الكثيرة المكنونة بين هذه السطور القليلة للكاتب الفلسطيني "عبدالباري عطوان" في معرض تعليقه على موضوع "إيران والقضية الفلسطينية" يقول عطوان: "بخصوص الموقف الإيراني الرسمي الراهن تجاه القضية الفلسطينية الذي يقوم على عدم معارضة اتفاق أوسلو وعملية التسوية، فهو موقف غامض وغير مفهوم، فليس هناك أسهل من الرفض وإدارة الظهر لقضية ما، ولكن التحدي الحقيقي هو في العمل ووضع برامج بديلة مضادة لإفرازات التسوية المفروضة. إن الخلل في اعتقادي، ليس في أوسلو فقط، بل الخلل في الظروف المحيطة بالقضية الفلسطينية التي أفرزت الاتفاق. وتتحمل إيران مسؤولية كبيرة في هذا الإطار تماماُ مثلها مثل أية دولة عربية أخرى. نريد أن نتحالف مع إيران، ولكن على أي أساس ووفق أي تصور؟ وفق برنامج عملي محدد ومدروس، أم وفق مفهوم اللامبالاة والوقوف موقف المتفرج؟! هناك 650 مليار دولار تستثمر في الخارج، من قبل الدول العربية،بينما عمال الأرض المحتلة يتوقون إلى العمل في إسرائيل لبناء المستوطنات وتنظيف مراحيض اليهود". يضيف عطوان: يتطلب إفشال اتفاق أوسلو آلية عملية، لما قبل الإسقاط ولما بعده. فاللافت أننا لم نسمع أو نقرأ عن أي برنامج عملي للذين يريدون إسقاط أوسلو حول كيفية إدارتهم الصراع بعد سقوطه. مثلاً، هل هناك قاعدة عربية جاهزة ومهيأة لانطلاق عمل عسكري؟ وهل هناك قدرة مالية وإعلامية وسياسية لدعم انتفاضة في الداخل؟! أنا أعتقد أن اتفاق أوسلو المليء بالثغرات والعيوب، خلق واقعاً فلسطينياً على الأرض. وبغض النظر عن ضعف هذا الواقع وهشاشته فهو أفضل من لاشيء خصوصاً هذه الأيام ونحن نتابع عمليات الطرد المتواصلة والمنظمة للفلسطينيين من ليبيا ودول عربية أخرى، وإغلاق جميع الدول الأبواب في وجوههم. إن عملية النضال عملية مستمرة، ولن نتوقف عند أوسلو. والشعب الفلسطيني الذي تتفاقم معاناته، والذي بات واعياً لكل ما يجري، يجب عدم التعامل معه كشعب قاصر غير مبدع ومبتكر لوسائل النضال والمقاومة".

ويخلص "عطوان" إلى القول: "إن إيران تستطيع أن تقود تياراً عربياً إسلامياً قوياً لمواجهة إسرائيل ومخططات أمريكا، ولكنها يبدو، ولأسباب داخلية، لا تريد ذلك، وحتى تريد فإن الصورة ستكون مختلفة كلياً "(1).

إيران والقضايا الإسلامية

طيلة ما يقرب من عقدين في خضم الأزمة السودانية كانت إيران تمد متمردي جنوب السودان بالأسلحة، وتبث أخبار ذلك التمرد في تلفزاتها على أنه "الثورة الإسلامية في جنوب السودان"، وكذا إمداد إيران الصرب بالنفط والغاز أثناء إبادتهم لمسلمي "البوسنة والهرسك"، وقبله دور أحمد شاه مسعود في نقل أفغانستان من حالة الحرب إلى حالة الاحتراب.. آخر هذا المسلسل كان في "دارفور" حيث أفاجأ مؤخراً ورود تصريحات لمسؤولين إيرانيين ينفون تورطهم في دعم متمردي "دار فور"!

إيران و"الشيطان الأكبر"

سبق التنويه إلى حجم الخدمة التاريخية التي قدمها الأمريكان للإيرانيين بإزاحة نظام صدام حسين لتسهيل مهمة التوسع الإيراني غرباً باتجاه الوطن العربي، وكذا إزاحتهم لنظام طالبان تسهيلاً للزحف الإيراني شرقاً باتجاه آسيا الوسطى.

والمعروف هو أن إيران الخميني انطلقت في خطابها السياسي من ثوابت عدائية تجاه الولايات المتحدة، ووصفها ب"الشيطان الأكبر" الأمر الذي فرضت معه الولايات المتحدة عقوبات وهمية على إيران. ولندع تكملة الحديث على كتاب "أمريكا وجماعات الإسلام السياسي"، حيث يقول عرض للكتاب نشرته مجلة العربي في عددها (514) الصادر بتاريخ سبتمبر2001 في معرض كلامه عن سياسات الولايات المتحدة تجاه إيران: "فإدارة كلينتون كانت الإدارة الأمريكية الوحيدة التي قررت مجابهة إيران بدلاً من محاولات استمالتها. وشنت منذ عام 1995 حربا اقتصادية وسياسية ضد النظام الإيراني. واتهم الرئيس الأمريكي إيران بلعب دور نشيط ضد عملية السلام بين العرب وإسرائيل، وأنها تؤيد الإرهاب الدولي، وتسعى للحصول على أسلحة نووية. وبذلك أصبحت، على حد قوله، خطراً يهدد العالم برمته. هذا بينما كانت الصادرات الأمريكية إلى إيران قد ازدادت بشكل مطرد في أوائل التسعينات، وبلغت بليون دولار في 1993. وكانت الشركات الأمريكية أكبر مشتر للنفط الإيراني. واحتلت أمريكا المركز الثامن لأكبر المصدرين إلى إيران. ولهذا السبب اتهم الأوربيون الولايات المتحدة بالنفاق في تعاملها مع إيران. لكن كلينتون أعلن في إبريل 1995 الحظر الكامل على التجارة وعلى الاستثمارات الأمريكية في إيران، ثم أصدر قوانين عقوبات شاملة في أغسطس 1996 لمعاقبة الشركات الأجنبية التي تستثمر في إيران أكثر من 40 مليون دولار (....).

ويؤكد الكتاب أن "الخطر الإيراني ليس أكثر من خرافة ومبالغات تتجاوز الحقيقة. فالواقع أن اللغة الثورية للجمهورية الإسلامية لم تجد تعاطفاً لدى الشيعة في المنطقة، ولم تحقق نفوذاً سياسياً واضحاً في المنطقة. بل خفت بريق رجال الدين داخل إيران نفسها. ومع انتخاب محمد خاتمي رئيساً في مايو 1997، تقدم بمبادرات تصالحية مع الولايات المتحدة وأعلن احترامه لشعب الولايات المتحدة العظيم. وعمل خاتمي ببطء على إعادة السياسة الخارجية الإيرانية إلى طبيعتها، وعلى إعادة الروابط القوية بجيران إيران العرب، وخاصة المملكة العربية السعودية ومصر. ووصف كلينتون انتخاب خاتمي بأنه مشجع للآمال. هذا في الوقت الذي يشكو فيه حزب الله اللبناني من انخفاض الدعم المادي الإيراني، بينما تعتمد حماس، في تمويلها على الفلسطينيين أنفسهم. كما صرح الرئيس (الأسبق) رافسنجاني عام 1996 بأن إيران تعارض الإرهاب ولو كان من حماس".

أساليب لإلهاء النُّخَب

كيف لا تجد مثل هذه الحقائق طريقها إلى الإثراء في ساحة العلن؟ يمكننا تعليل ذلك بأن نعرج على جملة من الأمور التي أجريت لإبعادنا عن اكتشاف حقيقة "التقية الكبرى"، ومنها أنه منذ منتصف التسعينات وحتى الآن برزت على سطح الحوار الفكري والثقافي حركة مناهضةٌ لما يسمى ب "التفسير التآمري للأحداث" وأن هذا النوع من التفسير ليس إلا خدعةً تمارسها الأنظمة العربية لصرف الشعوب عن معاناة الداخل، وشغلها عن المطالبة بالإصلاحات السياسية والاقتصادية اللازمة في تلك البلدان..

هذا الطرح، وإن كان سليماً، ووجد له صدى حقيقياً في أوساط الطلائع المثقفة؛ إلا أنه من جهة أخرى، يسهم في تمرير المخططات دونما خوف من وجود حركة مؤسسية بإمكانها كشف هذه الأشياء. خصوصاً وأنّ ثمةَ عاملين يسهمان في ضمان عدم الكشف سواء قبل تنفيذ المخطط أو أثناء التنفيذ أو بعد عملية المرور. هذان العاملان هما:

أولاً: تدويخ الحركة السياسية بسيل من الأحداث والتصريحات اليومية المتتابعة والمتدفقة عبر الإذاعات والقنوات الفضائية والصحف وشبكة الإنترنت وحتى "الموبايل"، في توجيهٍ مُحْكَم يضمن صناعة معطيات عدة تقضي بالمحللين والمهتمين إلى استخلاصات منطقية في الظاهر لكنها مشوشة في حقيقة الأمر، ما يقلِّصُ فرص القبض على الهفوات الصغيرة في خضم هذا التدفق والمؤدية إلى كشف خيوط الحقيقة كما هي. لا كما تُسْمَعُ من أفواه الفضائيات.. هذا الأمر أدى إلى تناسخ دائرة التحليل والمحللين، واتساعها، دونما ثمر حقيقي في اليد.

ثانياً: الندوات المتواصلة وحلقات الحوار وورش العمل وبرامج القنوات التي ترسخ هذا المنهج التحليلي، وتعزز المضيَّ في أتونه، وبمنهجيةٍ معدّةٍ سلفاً تؤثر في نتائجه، بلا ريب، طبيعةُ المحاور، وطريقة إدارة الحوار، وهوية أشخاصه.
إلى ذلك انهالت نظريات عدة عقب انهيار الاتحاد السوفيتي تتحدث عن نهاية التاريخ لـ"فرانسيس فوكوياما" وصراع الحضارات لـ"صموئيل هنتجنتون" وغيرها من نظريات انداحت تحت عباءة العولمة، كلها نتهي إلى أن الصراع في الألفية الجديدة لن يكون على أساس أيديولوجي فكري أو ديني. واندفعت الكثير من النخب المثقفة في العالم تؤيد هذا الطرح وتسبح في تياره.. فيما تُدار اللعبة الحقيقية على أساس إيديولوجي محض. علماً أن بنيامين نتنياهو - رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق– أصدر أمراً يقضي بعدم النشر عن أي تعاون عسكرى أو تجاري أو حتى زراعي بين اسرائيل وإيران، لكي يمنع محامي الدفاع في قضية رجل الأعمال اليهودى ناحوم منبار المتهم بتصدير مواد كيماوية إلى إيران من كشف معلومات خطيرة تلحق الضرر بأمن اسرائيل وعلاقاتها الخارجية، وكان أمنون زخرونى المحامى يريد أن يثبت أن منبار ليس الوحيد الذى يقوم بممارسة تجارة السلاح مع إيران، وأن هناك شبكة علاقات واسعة لإسرائيل رسمياً وشعبياً مع إيران(1).

طالما والسيناريو المرسوم يعتمد في أساسه على الكذب.. فإن التطبيق اليومي لهذا السيناريو لن يكون سوى ممارسة التصريحات الكاذبة يومياً يتداول على حبكها مختلف الأطراف على شاشات التلفاز وأوراق الصحف. ما يهمنا هو أن هذا كله ربما كان السبب الأساس وراء نسيان النخب السياسية والثقافية لطبيعة الدور الإيراني الخميني في المنطقة وأطوار تَحَقُّقه. وهو ما يلزمنا استعادته معاً وبشكل مبسط حتى لا يتفاقم ابتعادنا عن كُنْهِ ما يدور.

ثورة الخيميني وأبعاد اللعبة

وفقاً لما سبق يمكننا الآن تفسير أبعاد هذا المخطط وجذوره، وكيف أنه كان ثمرة الصراع العربي الإسرائيلي متمثلاً في الحرب ما بين إسرائيل ومصر عبدالناصر. تلك الحرب التي ألْهَمَت العقلية الإسرائيلية بضرورة نقل القضية من إطارها الفلسطيني والعربي إلى نطاق إسلامي تتبناه دولة ذات ثقل حضاري مثل إيران. وتتوفر عوامل نجاح هذا المشروع مع تنامي المد الإسلامي لتيار الإخوان المسلمين بعد نكسة حزيران 1967 ثم التلويح الذي أعلنه الملك فيصل بن عبدالعزيز 1973 بقطع النفط عن دول الغرب ما لم تكف عن دعم إسرائيل.. و"إيران الشاه" غير مؤهلة للقيام بهذا الدور في ظل كونها، وبالبنط العريض، شرطي أمريكا في المنطقة، والحليف الواضح لإسرائيل. ما يستدعي إيجاد صياغة أخرى للنظام في إيران تقوم على أساس ديني. وتمتد في احتوائها للشعوب العربية تحت مظلة الغيرة للإسلام، والعداء السافر لليهود وأمريكا.. وسرعان ما دارت المشاورات على قدم وساق لتحقيق هذه الصياغة، ليتم الإعلان ما بين عشية وضحاها عن قيام الجمهورية "الإسلامية" في إيران التي قامت، أول ما قامت به، بحادثة حصار السفارة الأمريكية وإغلاق سفارة إسرائيل في طهران، وإعطاء مفاتيحها لمنظمة التحرير الفلسطينية..

طار أبو عمار إلى طهران على أجنحة الفرح الغامر، فور إعلان قيام الثورة، لتعترضه ثلاث طائرات حربية وهو لم يزل في الهواء..هذا الاعتراض لم يكن يحمل أية علامات للترحاب بل تضمن في طياته رسائل الفرملة. ولندع "بني صدر" يكشف لنا جانباً من ملابسات قيام الجمهورية الخمينية، حيث يقول في نفس البرنامج في الجزيرة: "جاء موفدون من البيت الأبيض للقاء الخميني في "مافلي شاتو" منفاه في فرنسا، واستقبلهم آنذاك إبراهيم يزدي، الذي كان وزيراً للخارجية في حكومة مهدي بازاكان. في طهران عقد اجتماع ضم السفير الأمريكي في طهران من جهة، ومهدي بازاكان الذي أصبح رئيساً للوزراء، و"موسوي أردافيلي" أحد الملالي الذي أصبح بدوره رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، خرج المجتمعون باتفاق يقضي أن يتحالف رجال الدين والجيش من أجل إقامة نظام سياسي مستقر في طهران".
وفى تصريح لآية الله روحاني الذى كان ممثلاً للخميني في واشنطن، عندما كان الأخير في فرنسا، يقول: "أنا مقتنع بأن أمريكا أعطتنا الضوء الأخضر" مقابلة مع صحيفة "باري ماتش"، نقلاً عن "ويل للعرب" لعبدالمنعم شفيق ص 18. والدليل على هذه العلاقة رفض أمريكا لاستقبال رجلها الأول في المنطقة الشاه رضا بهلوي وذلك بعد الإطاحة به عن طريق الثورة 1979، وتم استقباله في مصر.

وعندما سئل أبو الحسن بنى الصدر في نفس البرنامج عن أحد الأشخاص في صورة بيده؛ قال: "كان أحد مستشاريّ في السياسة، لقد اغتيل. كان يعرف كثيراً عن أسرار العلاقة بين رجال الدين والمخابرات الأمريكية". وعندما سئل أيضاً هل كانت هناك محادثات كثيرة بين الملالي والأمريكيين سرياً؟ قال أبو الحسن بني الصدر: "نعم، نعم، كانت هناك لقاءات كثيرة أشهرها لقاء أكتوبر المفاجئ، والذي جرى هنا في باريس، ووقعت اتفاقات بين جماعة ريغان وبوش وجماعة الخميني". وقال في نفس المقابلة: "عقد اجتماع بين جماعة "ريغان - بوش" وجماعة الخميني عقد ذلك في باريس، وكان هناك اتفاق، وفي مذكراتي اليومية أُدوِّن ذلك ليكون الشعب على اطلاع، بعدها كتبت للخميني لإطلاعه على هذه المعلومات، ولم أكن أصدق أنه كان على علم بذلك، كنت أظن أنه خارج اللعبة، إذن كيف تفسرون إطلاق الرهائن عشية أداء الرئيس "ريغان" اليمين الدستورية؟!". وقال: "كان رضا باسنديدي ابن أخ الخميني، جاء إلى (مدريد) للقاء مسؤولين أمريكيين، ثم عاد إلى إيران وطلب مقابلتي، وقال لي إنه كان في "مدريد"، وطلب الأمريكيون لقاءه، وأعطوه اقتراحات مشروع جماعة "ريغان – بوش" وقال لي: إذا قبلتها سوف يلبي (ريغان) جميع طلبات إيران عندما يصلوا إلى السلطة، وهددني إذا رفضتها، بالتعامل مع خصومي السياسيين. هل تتصورون أن ابن أخ الخميني يخرج من إيران دون إذن عمه؟! لم يقل لي أنه خرج من إيران للقائهم، قلت: ربما كان في زيارة إلى أوروبا، وبعدها قرأنا في الكتاب أنه كان مدعواً لذلك".

وقال عن الخميني: "كان يريد إقامة حزام شيعي للسيطرة على ضفتي العالم الإسلامي، كان هذا الحزام يتألف من إيران والعراق وسوريا ولبنان، وعندما يصبح سيداً لهذا الحزام يستخدم النفط وموقع الخليج الفارسي للسيطرة على بقية العالم الإسلامي، كان الخميني مقتنعاً بأن الأمريكيين سيسمحون له بتنفيذ ذلك، قلت له: إن الأمريكيين يخدعونك. ورغم نصائحي له ونصائح الرئيس عرفات، الذي جاء يحذره من نوايا الأمريكيين، فإنه لم يكن يريد الاقتناع"(1).

هكذا كانت ملابسات قيام الجمهورية الإسلامية في إيران. مع العلم أن عقيدة الشيعة ترفض المشاركة في أى عمل سياسي أو السعي لإقامة دولة لهم إلا على يد إمامهم المسردب وكان هذا رأى الخمينى نفسه، الذى قال عنه حسين علي المنتظري، رئيس مجلس خبراء الدستور والمرشح السابق لخلافة الامام الخميني، في مذكراته التي نشرت مؤخراً: إن الإمام الخميني أصر في حوار معه جرى في بداية الستينات على ضرورة الانتظار وحرمة اقامة الدولة في (عصر الغيبة) أو إقامتها على أساس الشورى، وإنه أكد على ان المذهب الشيعي يرى ضرورة كون الإمام معصوماً ومنصوباً (من الله) وأن المسؤولية تقع على عاتق الناس في زمان الغيبة، ويجب علينا إعداد الظروف المناسبة لظهور الإمام الغائب. وعندما قال له المنتظري: هل يعني ذلك أن يعيش الناس (في عصر الغيبة) في هرج ومرج؟ قال الامام الخميني: "لقد أتم الله النعمة، وهذه مسؤولية الناس الذين يجب عليهم توفير الشروط المناسبة لظهور الامام (صاحب الزمان) إذ أن الإمام حسب رأي الشيعة يجب ان يكون معصوماً ومنصوباً فقط".

وكان معظم فقهاء الشيعة إلى وقت قريب يحرِّمون إقامة الدولة (في عصر الغيبة) وظل مرجع كبير عندهم هو الخوانساري الذي توفي عام 1405ه - 1985 يصر على ضرورة انتظار الامام الغائب (محمد بن الحسن العسكري) وعدم جواز تطبيق الحدود الشرعية، أو التدخل في الشؤون السياسية.

ويعزو المنتظري اثارة الخلافات الطائفية بين الشيعة والسنة إلى عملاء للمخابرات البريطانية، وينقل قصة عن ظروف كتابة الشيخ النوري الطبرسي لكتابه "فصل الخطاب في اثبات تحريف كتاب رب الأرباب" الذي جمع فيه أحاديث موضعة، بأن موظفاً في السفارة البريطانية في بغداد كان يتزيا بزي رجال الدين ويدفعهم لكتابة هذه الكتب، ليلقي التفرقة بين المسلمين، كما يذكر قصة اخرى عن وقوف عملاء للمخابرات البريطانية وراء خطيب اعتاد على قراءة مقتل الزهراء، صباح كل يوم في مسجد قريب من السفارة العثمانية في طهران، وذلك من أجل إلقاء الخلاف بين الدولتين العثمانية والإيرانية(1).

ومن ناحية، يقول عبدالمنعم شفيق في كتابه "ويل للعرب" ص17: "لقد أعطى الخميني عام 1984 الضوء الأخضر لإجراء محادثات سرية مع الولايات المتحدة بواسطة اسرائيل، و أوضحت التقارير الصادرة حول "إيران جيت" المدى الذى وصله الخمينى من الإتفاقيات السرية مع الأمريكيين، لقد انهار المشروع بأكمله عندما قرر آية الله حسين علي منتظرى إدانة الاتصالات السرية بين طهران وواشنطن لتنتهى المسألة بإبعاد منتظري من طهران" ا. ه نقلا عن الصحفي الإيراني أمير طاهري، "الشرق الأوسط"، عدد (6986). ويقول أيضاً: في عام 1986 قام مستشار الأمن القومى الأمريكى "بد مكفارلن" بزيارة سرية لطهران وحضر والوفد المرافق له على متن طائرة تحمل معدات عسكرية لإيران، وجلب الوفد معه كعكة صنعت على شكل مفتاح كرمز لمفتاح الصداقة بين البلدين، كما قدموا إنجيلاً يحمل توقيع الرئيس ريجان، وكان الكشف عن هذه الزيارة هو ما أثار القضية التى عرفت وقتها ب"إيران جيت"(2) واستمرت العلاقات السرية مع أمريكا "الشيطان الأكبر" بعد موت الخمينى في عهد رفسنجاني حيث تم التنسيق بينهما خلال حرب الخليج الثانية، وكانت الفرصة مواتية للقضاء على العراق العدو اللدود لإيران. ثم كان الانفتاح الأكبر في عهد محمد خاتمي، حيث تحولت العلاقات بينهما من السر إلى العلن لأول مرة منذ قيام الثورة الخمينية. وفي ذلك قال السفير الأمريكى السابق في قطر "جوزيف جوجاسيان": "إن الرئيس الأمريكى سيلغي قرار حظر تعامل الشركات الأمريكية مع طهران قبل نهاية العام المقبل 1999. ولفت إلى أن كلينتون وضع على الرف قراراً كان أصدره الكونجرس يمنع تعامل شركات غربية مع إيران، مشيراً إلى أن هذا القرار سينتهى تلقائياً عام 2001، وأعرب عن اعتقاده أنه لن يتم تجديده، وقال إن الشركات الأمريكية ستعود قريباً للعمل فيى إيران"(1). أعقب ذلك تقديم الرئيس الأمريكى بل كلينتون اعتذارا لإيران في أبريل عام1999 من ظلم السياسات الأمريكية تجاهها.

ومثلما أعلنت إيران منذ الأيام الأولى لقيام الجمهورية الإسلامية عزمها على تطبيق مبدأ تصدير الثورة إلى الخارج؛ فإنها أعلنت كذلك، تنصُّلَها من "معاهدة أرضون" الحدودية التي تم توقيعها بين الدولة البهلوية والعثمانية لترسيم الحدود مع العراق، الأمر الذي اندلعت بسببه حرب الخليج بين البلدين، واستمرت ثماني سنوات، التهمت خلالها مليون قتيل من الجانب العراقي وحده، لكنها كانت مفيدة جداً للجمهورية الإسلامية الوليدة إذ وحدت صفوف الإيرانيين وثبتت دعائم الثورة، ووضعت حداً للمذابح الدامية التي ارتُكِبَتْ فور قيام الثورة.. وفي ذلك يقول الكاتب "محمد حسنين هيكل" في كتابه "مدافع آية الله": "عندما قامت الثورة في إيران توقفت أعمال اللجان (التفاوضية) فجأة وأحس العراقيون أنهم نفذّوا الجزء الخاص بهم في اتفاقية الجزائر، لكنهم لم يتسلموا الجزء المقابل الذي يستحقون ولم يجدوا أي تشجيع من خلال كلمات " الخميني " أو أفعاله، فهو كما كان متوقعاً، لم يقم بإعادة الثلاث جزر في الممرات الغربية مضيق هرمز - أبو موسى - طنب الكبرى والصغرى - إلى أصحابها العرب، وهي التي استولى عليها الشاه بشكل غير شرعي قبل أن تسحب بريطانيا حمايتها عنها عام 1971 وقد وجهت السلطات العراقية نظر حجة الإسلام محمود دعائي -أول سفير للنظام الثوري بعث به الخميني إلى بغداد- إلى كل هذه التعقيدات، وكذلك وجهت نظره إلى النشاط الذي يقوم به حزب الدعوة ولم يكن لذلك كله صدى. ومن الأشياء التي سببت القلق للرئيس صدام حسين وزملائه، تلك المضامين الكامنة في برقية بعث بها الخميني رداً على برقية تهنئة أرسلتها حكومة العراق بمناسبة نتيجة الاستفتاء الذي صدّق بمقتضاه الناخبون على الدستور الإسلامي الجديد، وبعد أن قّدم الخميني الشكر للعراقيين في عبارات غامضة أنهى برقيته بالكلمات التالية "والسلام على من اتبع الهدى". وكان هذا هو التعبير الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام، يستعمله لمخاطبة الجماعات غير الإسلامية في الجزيرة، وكان من المستحيل تصوّر أن الكلمات لم يتم اختيارها عن عمد. يواصل هيكل: وهكذا فإن النتيجة الوحيدة التي يمكن استخلاصها أن الخميني كان يعتبر أعضاء الحكومة في بغداد من المشركين"..

ويضيف: "وأحست الحكومة العراقية حتماً أنه يتم تحريض الجماعة الشيعية ضدّها، واتخذت تدابير حازمة لحماية الدولة من التمزق، ورحل إلى إيران الشيعة الذي يعيشون في المناطق الحساسة على الحدود المجاورة، وقد لاقى نفس المصير عدد من قادة الشيعة من أماكن أخرى في البلاد (...) وتصاعد التوتر على الحدود ووقعت بعض الصدامات المسلحة، وقد صرح بني صدر بعد أحد هذه الصدامات بقوله "إذا استمرت الاستفزازات العراقية فأنا لا أستطيع أن أمنع جيشي من الزحف على بغداد". وكان العراقيون واثقين أن إيران ستعاني من انهيارات في الداخل أو أن النظام الحالي سيحل محلّه نظام عسكري يدرك حقيقة الموقف العسكري ويكون على استعداد للسعي من أجل السلام. يمكن لأي شيء أن يحدث بطبيعة الحال. لكن ليس من المحتمل أن تكون القوتّان الأعظم على استعداد لاتخاذ موقف المشاهد أبداً من انهيار إيران، وذلك لأهميتها الاستراتيجية كما أن أي نظام عسكري لن يكون أكثر استعداداً للمهادنة من حكومة رجال الدين.

ويضيف هيكل: "ويؤمن الخميني بالإسلام كحقيقة عالمية وقوّة موّحدة تطغى على القومية لكن بلداً مثل العراق يستند على فكرة القومية، من أجل بقائه يصبح مهدداً بالمخاطر بدونها. فإذا ما استبعدت الفكرة القومية فسيتفتت العراق سنة وشيعة وأكراد، وربما إلى أقسام أصغر. وبنفس الطريقة يوجد أناس في الجناح الآخر من الهلال الخصيب كلهم لهفة للقضاء على مفهوم القومية العربيّة، وعلى تقسيم المنطقة إلى دويلات صغيرة يهودية ومارونية وعلوية ودرزية،.. هكذا.. وهذه ليست بفكرة جديدة. لكنها على طرف النقيض من كل ما حاربت من أجله حركة القومية العربية خلال هذا القرن"(1).

لكن واقع الحال هو أن أمريكا بدت أمام العالم أجمع وكأنها داعمة للجانب العراقي دون الإيراني. ووحدهم "السوفييت" كانوا يفقهون حقيقة اللعبة التي ظلت غامضة رغم تكشف بعض خيوطها؛ كضرب إسرائيل للمفاعل النووي العراقي 1981، وكذا "فضيحة إيران جيت" لكن سيل التصريحات الإيرانية ضد أمريكا سرعان ما يطمس أي أثر لتلكم الدلالات والمؤشرات، علماً بأن "السوفييت" قاموا ببعض المناوشات ضد إيران حو إلى بحر قزوين، لكن الولايات المتحدة وإيران نجحتا تماماً في تحييدهم عن ساحة الصراع، وذلك بإدخالهم في أتون مواجهة مع مليشيات الجهاد الإسلامي في أفغانستان.

احتشدت الدول العربية، وفي مقدمتها دول الخليج، في دعم العراق. وتركت الحرب بمجملها صورة سلبية عن إيران لكن غزو العراق للكويت 1990 أحدث نقلة كبرى تكفّلت بمسح تلك الصورة التي خلفتها الحرب. وكذا أسهمت في إحداث التقارب بين إيران والعرب. كما أسهمت إيران بدور فاعل في الحرب على العراق، وذلك بحجز الطائرات الحربية العراقية. وفور تحرير الكويت تم التوقيع بين البلدين (الكويت، إيران) على معاهدة عسكرية لم توقع الكويت مثلها مع أشقائها في دول مجلس التعاون العربي علماً أن اتفاقية استقلال الكويت تحظر عليها توقيع مثل هذه الاتفاقيات دون موافقة من الجانب البريطاني الذي كان الكويت واقعاً تحت انتدابه.

كل هذا، وإيران في وسائل الإعلام العالمية هي العدو الأكبر لأمريكا والغرب. فيما الولايات المتحدة الأمريكية في نظر وسائل الإعلام الإيرانية هي "الشيطان الأكبر". لكن "الشيطان الأكبر" قام على مدى عقد التسعينات وبداية هذا العقد، بتقديم خدمات جليلة لإيران. منها، كما أسلفنا، إزالة العقبة الكؤود من أمام إيران والمتمثلة بالنظام العراقي ثم قام بإسقاطه كلياً في العام 2003 وسَّلم "عدوه الإيراني الحميم" مقاليد العراق.

وبسرعة البرق، وبعد سقوط مبرر بقاء القوات الأمريكية في الخليج (بسقوط نظام صدام المهدد لأمن دول الخليج) تمّ النفخ في بالون "الملف النووي الإيراني" في بوشهر (على سواحل الخليج) وذلك لكي يظل مبرر بقاء القوات الأمريكية قائماً. بل وليكون البرنامج النووي الإيراني هو فتيل المواجهة المفضي، في اعتقادي، إلى اجتياح إيراني للخليج بحجة السيطرة على أماكن القواعد الأمريكية هناك، والتي قد تكون يومئذٍ انسحبت تدريجياً وبشكل غير معلن. من هنا ندرك ملابسات المناورات التي أجرتها إيران في ابريل 2006 وأعلنت فيها توصلها إلى أسلحة جديدة. في حقيقة الأمر لم تكن أسلحةً جديدةً ولاهي رسالة للولايات المتحدة، كما صوّرتها وسائل الإعلام، بقدر ما كانت المناورات رداً على بيان القمة العربية الختامي بالخرطوم والذي أشار لأول مرة إلى تضامن العرب مع دولة الامارات العربية المتحدة في نزاعها مع إيران حول الجزر الثلاث!

***

قد يبدو الكلام السابق غريباً على الطلائع المثقفة حديثة العهد بواقع السياسة. فيما يتم إيهام الرأي العام العربي (عبر تحليلات تُوصَفُ بالخطيرة) أن الهدف النهائي من عمليات الإضعاف والشرذَمة والابتزاز الذي تقوم به أمريكا في المنطقة هو دفع العرب للتطبيع الكامل مع إسرائيل بينما هذا الهدف قد تحقق منذ العام 1992 سواءٌ على صعيد السر أو العلن. ولو كان العلن المتبقي هو المطلوب لما كان عسيراً على الآلة الإعلامية العربية والأمريكية، على حد سواء، التمهيد له وإعلانه، وفتح السفارات، ومكاتب التعاون، وتبادل الزيارات؛ لكن ذلك ليس المطلوب الآن، إذ، وبرغم تطبيع بعض الأنظمة، إلا أن تطبيع الشعوب أمرٌ متعذر، والحالة المصرية، وبرغم كونها أول دولة طبعت، خير دليل على ذلك.. ثم إن تحقيق التطبيع الكامل سيمثل حجر عثرة أمام قيام "دولة إسرائيل الكبرى" من الفرات إلى النيل، وهي ليست خيالاً في ذهن أعداء إسرائيل، ولا مداداً على صفحات "التلمود" اليهودي، بل هدفاً يسعى إلى تَنَزُّلِهِ على الخارطة بشكل مدروس. وهو ما لن يتم حدوثه إلا وفق وضعٍ مضطربٍ تندلع فيه بؤر شتى للحروب في المنطقة. فيما تكون الشعوب العربية واقعة تحت نير الزحف الفارسي، الذي سيُعمل السيف في رقاب "قتلة الحسين".

إنها "التقية الكبرى"، يميط فَهْمُهَا اللثامَ عن كافة نقاط الغموض، ليس على المستوى المحلي فحسب، بل على واقع اللعبة الدولية برمتها، على نحوٍ جلي.

زر الذهاب إلى الأعلى