قبل عشرين عاماً تم إعادة تحقيق الوحدة اليمنية وأعلنت معها التعددية السياسية وحرية التعبير وارتبطت الوحدة بالتعددية والتنوع وحرية الرأي والرأي الآخر فخرجت الأحزاب من تحت الأرض وأعلنت عن نفسها ومارست نشاطاتها وانتشرت الصحف والمجلات والآراء مثل الفطريات وليس كل الفطريات ضارة فهناك فطريات نافعة وتخدم صحة الإنسان وبالتالي فطريات الصحف وحرية التعبير خدمت المجتمع.
وترافقت التعددية السياسية وحرية التعبير مع دفع أثمان وتكاليف الوحدة في الجانب الاقتصادي نتيجة دمج النظامين الشطريين السابقين فارتفعت الأسعار وتدهور سعر صرف العملة الوطنية أمام الدولار واستمر ذلك الانخفاض فقيل يومها: "لا يجمع الله بين عسرين: عسر الاقتصاد وعسر تكميم الأفواه" فظل سقف حرية التعبير مرتفعاً لكنه منفلت في الوقت نفسه دون ضوابط ولا نعني بالضوابط الانتقاص من سقف الحرية ولكن تهذيبه وتنقيته من الشوائب المضرة وظل كل حزب وتنظيم سياسي وأي شخص بيده مفاتيح المال من أي اتجاه كان يصدر صحفا متعددة ومجلات ومنشورات وتناولت الكتابات كل شيء بالطيب والبطال فمست الأشخاص والمؤسسات والوطن والوحدة الوطنية ونبشت ملفات وطعنت أعراض وقيل ما لا يقال وأصبحت الصحف بمختلف ألوانها متنفسا يقدح ويمدح دون ضوابط أو رادع.
وعندما تأزمت الأوضاع قبيل حرب صيف 94م وارتفع الاحتقان أطل الشيطان بقرونه فكان للصحف الحزبية والأهلية الصادرة عن الأحزاب والأفراد والشخصيات الظاهرة والمستترة دور كبير في رفع درجة الاحتقان في المجتمع وفتحت الملفات الشائكة وتم تناول الأوضاع والأحداث وخلفياتها بشراسة ونبشت مصائب وكوارث الماضي وتم استدعاء الملفات والأضابير وتبادلت "الأطراف المعنية" في البلاد إطلاق قنابل وصواريخ الكلمات دون رادع من ضمير ولا قانون ولا حتى خشية على السلم الأهلي والاجتماعي فانفجرت البلاد وكانت حرب صيف 94م المشؤومة التي دمرت اقتصاد البلاد وأصابت العباد بصدمة سياسية واجتماعية كبيرة مازالت آثارها الكارثية حتى اليوم، صحيح أنها ثبتت الوحدة وانتصرت الوحدة على المشروع الانفصالي الصغير لأنه جاء مناقضاً لتربية الناس السياسية والثقافية ولناموس حياة اليمنيين الذين عشقوا الوحدة وناضلوا من أجلها وقدموا قوافل الشهداء؛ لكن آثارها أصابت الاقتصاد وأدمت الكثير من الناس وأصابت الوحدة الوطنية بشروخ بحاجة إلى ترميم وإصلاح بمشرط جراح حاد وإن أدمى وأوجع ولكنه مطلوب الآن والآن بالتحديد وليس إذا يا قوم.
وعقب دحر المشروع الانفصالي الصغير بدأ الحديث عن ضيق هامش الديمقراطية وحرية التعبير وظلت أمور الصحافة والإعلام تسير بنفس الوتيرة التي أسست بها الصحف وجرى الحديث على استحياء بضرورة تحول الصحف الحزبية والأهلية إلى مؤسسات صحفية ولكن دون سن تشريعات ودون تهيئة الأرضية لذلك..
واستمرت بعض الصحف والصحفيين في صراع مستميت لإبقاء سقف الديمقراطية وحرية التعبير منفلتاً دون أن يلتفت العقلاء في الأحزاب والسلطة إلى التنبيه بضرورة تحويل الصحف الحزبية والأهلية إلى مؤسسات صحفية وظلت عملية إصدار الصحف سهلة فأنشئت صحف من قبل مختلف "الأطراف المعنية" وبدأت عملية القذف والتشهير والسب العلني واستهدفت شخصيات سياسية وإعلامية وتناولت بعض الصحف أعراض الناس دون رحمة ولا رادع من ضمير وأخلاق وهبطت رسالة الصحافة إلى الحضيض فاستبدلت الأقلام بالأحذية ومقارعة الحجة بالحجة ب"اللبج" فضرب عدد من الكتاب الصحفيين وهشمت وجوههم وكسرت أذرعهم حتى وصل الأمر أن تم (...) على بعضهم ولم يتنبه العقلاء في أحزاب المعارضة والسلطة إلى ضرورة لجم ذلك الانفلات بتحويل الصحف الحزبية والأهلية وتلك التي تفرخ من قبل الأطراف المعنية في البلاد إلى مؤسسات صحفية منضبطة تحكمها ضوابط وأخلاقيات.
وها نحن بعد عشرين عاما نعود إلى المربع واحد في الحديث عن تحويل الصحف إلى مؤسسات ولكننا هذه المرة نسمع ونقرأ عن جدل ساخن حول قانون الصحافة والإعلام الذي ينشد تحويل الصحافة إلى مؤسسات منضبطة ونسمع ونقرأ عن مجلس أعلى للإعلام وعن اكتتاب عام للمؤسسات الصحفية فهل يساعد النقاش والجدل على إخراج القانون إلى حيز الوجود وتحويل الصحافة وبالذات الحزبية والأهلية إلى مؤسسات وتحرير المؤسسات الإعلامية الرسمية من تدخل الدولة والحكومة من خلال اعتمادها على نفسها اقتصادياً ومالياً من خلال الاكتتاب العام فيها.
انتظرنا عشرين عاماً فهل يعملها عقلاء المعارضة والسلطة ويدفعون باتجاه حسم النقاش والجدل وإخراج قانون للصحافة بشكل متوازن يلبي طموحات الجميع وتتحول الصحافة إلى مؤسسات أسوة ببقية الدول وفي مقدمتها دول الجوار؟