أرشيف الرأي

المشكلة الاقتصادية والجذر السياسي*

يشكل الاقتصاد حجر الزاوية في تطور وتقدم المجتمعات البشرية.. ومنذ الأزل كان الإنتاج السلعي والتبادل هما الأساس الذي يبنى عليه اقتصاد هذه المجتمعات غير أن الوجه الآخر للإنتاج والتبادل والمتمثل في العلاقات التي تحكم هذه العملية (والتي يطلق عليها علاقات الإنتاج) يمثل المنهج السياسي والأخلاقي في النظام الاجتماعي الذي يدير هذه العملية برمتها.

وإذا كان مستوى الإنتاج والتبادل تقيسان مستوى التطور المادي والتقني الذي وصل إليه اقتصاد المجتمعات فإن علاقات الإنتاج بهذا المفهوم تجسد البنية السياسية والثقافية والأخلاقية والقانونية التي ينمو فيها الاقتصاد.

وفي التجارب الإنسانية للتطور الاقتصادي وتقدم المجتمع لا يمكن عزل وجهي العملية عن بعضهما البعض أي أنه لا يمكن الحديث عن تطور حقيقي ومستمر لقوى الإنتاج دون تفاعل ايجابي للمنهج السياسي والأخلاقي الذي يجعل التطور برمته في خدمة كل المجتمع وتلبيه حاجاته المادية والروحية.

ولو أن التطور اقتصر على قوى الإنتاج المادية دون حاضن سياسي وأخلاقي وقانوني يعمم الفائدة على كل المجتمع وبحيث يشعر أبناء المجتمع أن هذا التطور قد انعكس على تحسين حياتهم المعيشية، فإنه لن يلبث أن يتوقف عن حدود معينة، ذلك أن هذا الحاضن السياسي والأخلاقي والقانوني أو ما يسمى بعلاقات الإنتاج سيقوم عند درجة معينة بوظيفة معاكسة من حيث إحجامها عن توفير المناخ الملائم لتوسيع العملية الإنتاجية أو توفير الحوافز للإنفاق على التطور العلمي والتكنولوجي أو الاستهتار فيها والتوقف من ثم بعملية التطور عند مستويات متدنية يصبح معها من غير الممكن توسيع قاعدة الإنتاج على نطاق واسع الاقتصاد الذي يتحرك في مثل هذا النطاق الضيق يأخذ بالتراجع في النمو بل ويقتصر في نموه على المؤشرات الكمية دون أن يأخذ ذلك النمو صورة التنمية الاقتصادية والاجتماعية بمفهومها الشامل الذي يوفر الشروط الضرورية والكافية لانتقال الاقتصاد من طور إلى طور ومعه حياة المجتمع بصورة عامة.

وعندما يجري الحديث عن علاقات الإنتاج باعتبارها العلاقات التي تنتظم في إطارها حياة المجتمعات بشرائحه وفئاته وطبقاته المختلفة يمكن الحديث عن أنماط متعددة من هذه العلاقات كانت بطبيعتها انعكاساً لطبيعة النظام السياسي والاجتماعي السائد، فهناك علاقات الإنتاج التي تجسد استغلال جزء من المجتمع للجزء الآخر وفي حين يكون الجزء المستغل (بكسر العين) وهو مركز النفوذ السياسي والاقتصادي والفكري أي أن هذا الجزء يجمع بيده أدوات النفوذ التي تجعل عملية التطور الاقتصادي محكومة بشروط استمرار هذا النفوذ الأمر الذي يجعله يدور في حلقة مفرغة تنتهي في نهاية المطاف إلى تفريع الاقتصاد من عوامل وشروط نموه الحقيقي وتبديد مكونات التراكم فيه من خلال إصفاف حوافز الاستثمار لضمان نجاح عملية إعادة الإنتاج الموسع، وهناك علاقات الإنتاج التي تعكس نطاقا مغلقا تتولى فيه الدولة إدارة القسم الأكبر من النشاط الاقتصادي، وتنعدم في مثل هذا النظام المغلق الحوافز الاقتصادية للتطور الشامل حيث يؤدي إلى تدخل الدولة بأدوات إدارية في توجيه النشاط الاقتصادي بدلا من الأدوات الاقتصادية والمالية تكريس النزعة الإرادوية في تقرير الأهداف الاقتصادية مما يفسد عمل الآلية الاقتصادية ومحركاتها في قيادة العملية الاقتصادية برمتها.. وتتراجع هنا مع المدى الكفاءة والفعالية الاقتصادية وتنخفض معدلات الإنتاجية بما يرافق ذلك من تبديد الموارد والإتكالية والفساد وضياع فرص النمو والتطور مع ما يؤدي إليه هذا الوضع بعد ذلك من انتشار لرقعة الفقر وانعدام قدرة الدولة على تقديم الخدمات الاجتماعية الضرورية للمجتمع.

وغالباً ما يصنف النظام السياسي الذي يحتضن هذا النوع من علاقات الإنتاج بالنظام الاستبدادي الذي تصادر فيه الإرادة الشعبية وتغيب فيه الديمقراطية التعددية والتداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة فالسياسة إقتصاد مكثف كما يقال، وهي بهذا لا يمكن أن تنشئ اقتصاداً مستقلاً عن منهجها في الحكم، فالواقع في حركته هو معادل موضوعي لمخرجات الاقتصاد في نهاية المطاف وأسلوب التعاطي مع هذه المخرجات وكيفية توظيفها وتوزيع ثمارها إن شروط التطور الاقتصادي في ظل هذه الأنظمة يجري قمعها لصالح الحفاظ على مكونات النظام السياسي ونخبه، فالسياسات التي تتبعها في غالب الأحيان في إدارة الاقتصاد تتجه إلى إضعاف الاقتصاد في خلق قوى اجتماعية بوزن سياسي يجعل منه قوة حقيقية في المعادل السياسي العام ولذلك غالبا ما تعمل على تهميش القطاعات الاقتصادية وتفكيك الروابط الداخلية فيما بينها وفرض نمط من الأنظمة الإدارية والمالية والقانونية التي تكبل الاقتصاد بقيود تبقيه في حالة من الضعف العام ولا عجب أن ترى العاملين في حقل النشاط الاقتصادي من رجال أعمال وقادة قطاعات وغيرهم في وضع هامشي بالمقارنة مع غيرهم من الفئات الأخرى ذات النفوذ السياسي والاجتماعي والعسكري، الأمر الذي يعكس مكانة الاقتصاد عند هذه الأنظمة الاستبدادية في تقرير مستقبل هذه المجتمعات ويؤدي إلى الخلل العميق في توزيع الثروة الذي يترتب على السياسة الانتقائية التي تمارسها هذه الأنظمة وعلى وجه الخصوص النمط الأول إلى استقطابات اجتماعية حادة تفرز في نهاية المطاف غنى فاحشاً وفقراً مدقعاً ويتركز الغنى الفاحش في فئات محدودة من ذوي النفوذ والفساد والامتيازات الضخمة، بينما يعم الفقر المدقع أغلبية المجتمع وتغيب في هذه المجتمعات الطبقات الوسطى أو غالباً ما تكون هامشية وضعيفة الأمر الذي يفقد هذه المجتمعات توازنها، وتتجه بسبب هذه الحالة الاستقطابية الصراعية إلى إنتاج عوامل الاحتقانات وبؤر التوتر السياسي والاجتماعي وحينها تتجه الأنظمة إلى القيام ببعض الإصلاحات استجابة لضغوطات المؤسسات الدولية و هذه الإصلاحات تقتصر على بعض الإجراءات الإدارية والمالية على النحو الذي لا يتحمل عبء هذه الإصلاحات غير الطبقات الفقيرة ناهيك عما يترتب على ذلك من تدمير لقطاع الأعمال التقليدي الذي يعول عليه من الناحية العملية في تطوير الإقتصاد وحمايته وهناك النمط الثالث وهو الذي يجسد المناخ الديمقراطي حيث تكون الإرادة الشعبية حاضرة بقوة في صياغة النظام السياسي والتداول السلمي للسلطة، وحيث تصبح تلبية حاجة المجتمع الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية والروحية هي الهدف الأساس الذي تتنافس عليه الأحزاب وتعمل من أجله باعتبار أن مستوى تحقيقة يعد المعيار الفعلي لوصول هذا الحزب أو ذاك إلى الحكم، وفي هذه الظروف فإن تنوع هذه الحاجة المجتمعية وتعددها وتجددها باستمرار تدفع إلى خلق الحوافز لتطوير القوى المنتجة للاقتصاد وتأمين شروط عدة بمعدلات عالية أو مقبولة لتوسيع قاعدته الانتاجية، كما أن تحسين شروط ونوعية الخدمات الاجتماعية للمجتمع تصبح المعادل الموضوعي للتطور الاقتصادي وتصبح العلاقة الجدلية بين هذين المكونين الأساسيين للتطور العام تعبيراً عن السياسات الاستراتيجية للنظام السياسي والنخبة الحاكمة، ولا يختلف هنا الاشتراكي الديمقراطي عن الرأسمالي المحافظ عن الليبرالي، فيما يخص نقطة الانطلاق في تقرير المبادئ الأساسية لبرامجه وسياساته والكامنة في التفاعل الإيجابي مع حاجات الناس باعتبارهم مصدر السلطة غير أن التمسك بهذه القاعدة الأساسية لا يعني بأي حال من الأحوال أن التعاطي معها يتم من خلال منهج فكري ومعرفي واحد بل وأدوات اقتصادية ومالية ذات بعد واحد ففي هذا السياق تتفاوت المناهج والأدوات الجزئية عند هؤلاء، ولا يكتفي كل منهم بالدفاع عن منهجه نظريا ولكن من خلال العمل على تحقيق أكبر قدر من الرخاء أو تلبية الحاجات وتأمين شروط التطور، ورأينا كيف عمد منهم الليبراليين الجدد إلى تصفية جذور الفكر الاشتراكي في التجارب الاقتصادية الرأسمالية الناجحة من منطلقات أيديولوجية بحتة والدليل على ذلك ما أسموه بالإصلاحات التي لم تصمد أمام وقائع الحياة في تلك البلدان ، فالأدوات الاقتصادية والمالية لا تعمل بمفردها وإنها بالاستناد إلى سياسات واستراتيجيات تأخذ بعين الاعتبار فلسفة الحكم عند النخب التي تصل إلى سدة الحكم بواسطة الانتخابات كتعبير عن الإرادة الشعبية، وباختصار يمكن القول أن الاقتصاد هو الوجه الآخر للنظام السياسي والإجتماعي السائد وكيفما يكون هذا النظام يكون الاقتصاد بمعنى أن النظام السياسي الملائم الذي يعبر عن إرادة الشعب والمجتمع هو الذي يستطيع أن ينتج الشروط الضرورية لنمو وتطور الاقتصاد تطورا طبيعيا ويحقق التنمية الشاملة والمتوازنة لأنه ينمو تحت رقابة المجتمع وبمشاركته ووفقاً لحاجته، وطبعاً هذا لا يعني أنه ينمو ويتطور بدون مصاعب أو تحديات فالمصاعب والتحديات تظل قائمة ومصدرها عوامل أخرى مرتبطة بالموارد وتكوينات رأس المال والسوق والتأثيرات السلبية للأزمات المالية والاقتصادية العالمية، ولكن ما قصدناه هنا هو أن النظام السياسي والاجتماعي الذي يقمع حريات المجتمعات ويمارس التسلط لا بد أن ينتهي به المطاف إلى توظيف مقدرات المجتمع الذي يحكمه لصالح سلطته والنخب التي تلتف حواليها وتكونها وتصحب إدارة الاقتصاد محكومة بعوامل مختلفة تماما عن عوامل الكفاءة حيث يتحكم الفساد والمحسوبية في مفاصل الإدارة الاقتصادية وما يرافق ذلك من تبديد للموارد والطاقات، أي أنه يمارس في نفس الوقت قمع الاقتصاد باعتباره الجسم الحي في تطور الشعوب والحلقة المكملة في عملية القمع التي تمارسها هذه الأنظمة على كل شيء.

إن الاقتصاد لا ينمو إلا في بيئة تتميز بالحرية والمبادرة والمشاركة السياسية الحقيقية للشعوب في بناء أنظمتها السياسية واختيار حكامها، وهذه الحقيقة ليست في حاجة إلى إثبات بعد أن أكدت تجارب الأنظمة المستبدة أن الاقتصاد كان أول ضحية لها حيث جرى توظيفه لخدمة الاستبداد وقواه المتسلطة فكم من مجتمعات أفقرت وهي تنام على ثروات وموارد كان من الممكن أن تشكل قاعد قوية لاقتصاد مزدهر ومتطور وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الفكر السياسي للتخلف الاقتصادي والاجتماعي يضع النظام السياسي في صدارة العوامل المسئولة عن التخلف الاقتصادي ولذلك فإنه لا عجب أن نشاهد اليوم أن كل البلدان التي تصنف في قائمة الدول المتخلفة هي ذات أنظمة سياسية استبدادية غير ديمقراطية.

إن اليمن هي واحدة من هذه الدول التي كان فيها الاقتصاد ضحية النظام السياسي، فعلاقات الإنتاج التي تكونت في ظل هذا النظام كانت إنعكاساً مباشراً للنزعة التسلطية للقوى التي استأثرت بالحكم ومعه توجيه مسار الاقتصاد لخدمة هذا التسلط مما أفقده القدرة على فتح آفاق النمو والتطور على قاعدة تلبية الحاجات المتجددة والمتنوعة للمجتمع فالقوى التي استأثرت بالحكم كان لابد أن تتجه نحو الثروة لتطور موقعها في الحكم ومن خلال ذلك تصبغ تحالفاتها الاجتماعية والسياسية حيث شكلت هذه الدائرة الأولى في تحالفات الدفاع عن هذا النظام ونخبة حكمه القوة الأساسية في تشكيل نمط الاقتصاد وتقرير مساراته وكانت بصماتها واضحة في هذا المجال من منطلق الإدراك الواضح لحقيقة العلاقة بين السياسة والاقتصاد، وبهذا المفهوم أخذ الاقتصاد يتبع المصالح المباشرة لهذه القوى لا يستطيع أن يتحرك خارج أو بعيداً عن هذه المصالح وكلما رتبت الحاجة الاجتماعية مساراً مختلفاً من نوع ما جرى قمع هذا المسار بأدوات إدارية أو اقتصادية أو غيرها من الأدوات.. وهكذا كان من الطبيعي أن نضع هذه القوى الاقتصاد في مسار مختلف بل ونقيض لحاجة المجتمع للتطوير والتنمية وذلك انسجاماً مع مصالح القلة ، الأمر الذي أخذ معه الاقتصاد يتحرك بلا أفق، وينكمش إلى داخل المساحات التي تتحرك فيها مصالح هذه القلة.

ومثلما أصبح الاقتصاد رهينة مصالح هذه القوى فإن الانفتاح السياسي أصبح هو الآخر مرهونا بمدى استعداد هذه القوى على توسيع رقعة المشاركة الاقتصادية، لقد أخذت هذه العلاقة الجدلية تفرز منظومة واسعة من المشاكل والتعقيدات التي تضع البلاد على طريق خطير سيصعب الخروج منه بدون تضحيات ضخمة فيما لو أوغل السير فيه.

وليس من الصعب اليوم ملاحظة حجم المأزق الاقتصادي الذي وصل إليه البلاد كنتاج للأزمة السياسية الوطنية متعددة الأوجه التي غرقت فيها البلاد، ولن يكون مجديا الحديث عن حل المشكلة الاقتصادية بالصيغة دون البدء بالأسباب التي أوصلت الاقتصاد إلى هذا الوضع والتي تكمن في طبيعة النظام السياسي الذي يرهن مسارات الاقتصاد لمصالح منتسبيه وإعادة بناء مكونات هذه العملية في حركة دائرية أشبه بالحلقة المفرغة التي لا تنتج سوى التخلف والمزيد من العوامل المكرسة له.

إن المشكلة الاقتصادية في ظروف لا يمكن النظر إليها على نحو مستقل عن الجذر السياسي الذي أنتجها على هذا النحو كمعادلة لطبيعة النظام السياسي والاجتماعي السائد، ولذلك سيتعين على الباحثين النظر إلى هذه المشكلة في صلتها بالوضع السياسي الذي تتراجع فيه الحريات وما أصاب المشروع الديمقراطي من خذلان وما تتعرض له البلاد من انزلاق نحو العنف ناهيك عن المركزية السياسية التي تعد المشكلة الأم في منظومة المشكلات المتعددة التي تشهدها البلاد.

* ورقة مقدمة لندوة التحديات الاقتصادية ومستقبل اليمن

زر الذهاب إلى الأعلى