قضايا كثيرة هامة وحساسة تهم كل أبناء اليمن بمختلف انتماءاتهم وشرائحهم وبيئاتهم الجغرافية، ولا علاقة لها بالسياسة والرأي والرأي الآخر، ولا بالأحزاب وكتاكيتها وديوكها ودجاجها، ولا تدخل مربّعات الخلافات ودهاليز المُماحكات والمناكفات والكولسة..
لكنها لم تحسم من عشرات السنين لا من قبل السياسيين ولا من قبل التكنوقراط، ومع مرور الوقت تتحوّل إلى مشاكل حقيقة يهدر الجميع الوقت والإمكانيات بشأنها، وكوارث تهدد حياة ووجود اليمن بمن فيه، كأننا -نحن أبناء اليمن- لا زلنا نقف في مربّعات العناد بغباء مفرط حتى فيما يتعلق بالقضايا التي تهدد وجودنا وتنذر بتشتيتنا "شذر مذر" - كما يُقال، وكأنه حق علينا "وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل"؛ لأنهم كفروا بالنعم.
ومن القضايا الهامة والحساسة، ترشيد استخدام المياه ومنع الحفر العشوائي، وهي قضية لا علاقة لها بالسياسة وألاعيبها والكولسة ودهاليزها، لا من قريب ولا من بعيد. فكم عقدت من أجل قضية أزمة المياه في اليمن من المؤتمرات والدورات وورش العمل، وكم صدرت بشأنها من القرارات والتوصيات المحلية والدولية، وكم قرأنا تحذيرات بأن أزمة المياه في اليمن ستؤدي إلى صراعات وحروب، وهي من الأسباب الرئيسية لزيادة الفقر والبطالة والفوضى لتناقص الإنتاج الزراعي وغياب الصناعات، وأن صنعاء ستصبح في فترة تتراوح بين خمس وعشر سنوات أول عاصمة في العالم من دون مياه، إذ تجف فيها الآبار الجوفية شيئا فشيئا، كما في مناطق أخرى من اليمن..
وتزداد أزمة المياه تفاقما عاماً بعد عام، وتشتد في فصل الصيف من كل عام. فكل الدراسات والتقارير تتحدّث عن أسباب الأزمة، وتبيّن طُرق مُعالجتها، وهي بين يدي المختصين، وفي أدراج الوزارات والمؤسسات المعنية، ويعرف نتائجها وتوصياتها كبار السياسيين وصغارهم، والأرقام توضح كل شيء، ولا نحتاج إلى إعادة استعراضها هنا للتخويف والتحذير من كارثة حقيقية ومؤكدة ستحل باليمن بمدنه المختلفة؛ كون موارده المائية شحيحة جدا، ولأنه يقع تحت خط الفقر المائي، ويعد من أكثر الدول جفافاً في العالم، إذ أن 125 مترا مكعبا من المياه متوفّرة لكل يمني سنويا فقط، بينما يبلغ المعدل العالمي 7500 متر مكعب لكل شخص في العالم، وذلك لعدم وجود أنهار في اليمن، إضافة إلى التكوين الجيولوجي البركاني الصلب وقلّة هطول الأمطار الذي لا يتعدّى متوسطه بين 50-100 ملم/سنة، وفي ظل تدني كميّة التغذية للمياه الجوفية وزيادة كميّة السحب منها.
وتؤكد الدراسات أن نسبة العجز المائي في اليمن تصل إلى 70 بالمائة، وهذا يبيّن حجم خُطورة الوضع المائي الذي سيُسبب كارثة ستقضي على الأخضر واليابس، إذا لم تتخذ الإجراءات الحاسمة لتلافي المشكلة، ومنها مُعالجة مياه الصرف الصحي والتوسّع في بناء الحواجز والسدود والاستفادة المباشرة من تلك المياه وتحلية مياه البحر والمياه الجوفية المالحة، والاستفادة من الطاقة المتجددة، واستخدام كل الوسائل لترشيد استخدام المياه، واتخاذ الإجراءات الصارمة لمنع الحفر العشوائي.
حقيقة لسنا بحاجة إلى دراسات وتقارير وورش عمل ومؤتمرات لمناقشة أزمة المياه في اليمن وأسبابها وطُرق معالجتها، فقد أشبعت الأزمة دراسة ونقاشا، وخرجت كل المؤتمرات والندوات وورش العمل بكل التوصيات والمُعالجات، وجاءت التقارير الدولية والتحذيرات واضحة وشفافة. وكل الدراسات والتقارير التي تناولت أزمة المياه في اليمن تؤكد أن ندرة المياه ستسبب مشاكل لا يمكن التنبؤ بها، أو ضبطها في المستقبل، وسيأتي اليوم الذي يخيّر فيها اليمنيون -برفع الخاء- بين تناول القات وبين إعطاء مياه الشرب لأطفالهم، وهو قريب جداً، ولست مع من يقول إن الحكومة اليمنية بين المطرقة والسندان، فإذا حاولت تخفيف زراعة القات ومنع دخوله المُدن إلا يومي الخميس والجمعة كون القات سببا رئيسيا لتفاقم أزمة المياه في اليمن، فستواجه ردود فعل عنيفة من قبل منتجي القات ومستهلكيه.
وإذا لم تقم بذلك فستواجه قريباً تظاهرات عنيفة للمطالبة بالمياه، لكني من دُعاة البدء باتخاذ إجراءات صارمة وحاسمة وقويّة تتعلق بضرورة ترشيد استخدام المياه ومنع الحفر العشوائي، ومنع دخول القات المُدن، ما عدا يومي الخميس والجمعة، من خلال قرارات جريئة ومؤلمة وتنفيذها بالقوّة الرادعة التي لا ترحم، وليكن شعار الحكومة من الآن وصاعداً فيما يتعلق بأزمة المياه "ترشيد استخدام المياه ومنع الحفر العشوائي.. قرار والصميل جنبه"، ومنع دخول القات المُدن ما عدا يومي الخميس والجمعة "قرار والصميل جنبه"، فهل نحن فاعلون؟ وهل نحن قادرون على مواجهة قضايانا المصيرية الأخرى بنفس الطريقة؟
"قرار والصميل جنبه" هنا سوف نتحوّل إلى يمن ديمقراطي موحّد متطوّر ومزدهر؛ بغير ذلك سنظل في أسفل قائمة الدول بكل شيء، وغارقين في أوحال الفقر والجهل والبطالة والحروب والصراعات، وإذا لم نمت بالرصاص والقتل والأمراض الفتاكة -وما أكثرها في بلادنا وأولها السرطان بسبب تناول القات وانتشار السموم التي تستخدم لتسريع نمو القات- سنموت عطشاً وسينطبق علينا "تعددت الأسباب والموت واحد".