آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

شخابيط في الحضارة اليمنية.. السَّدُّ.. والكعدَة والقِشوَة!

عبدالكريم نعمان الفضول

شخبطة أولى!...
يقول إبن خلدون في المقدمة السادسة من تاريخه عن العمران والاجتماع البشري: "...والإنسان مدني بالطبع"!.. ويضيف عندما يصل إلى تعريف الحضارة بفتح الحاء وكسرها كما حكي الأصمعي هي "التفنن والترف في كل شئ.." والترف لغة هو النعمة ولقد كان حازما ومستبصرا برفض الميتافيزيا تدخل الغيب.

بمعنى في تغيير الأحداث في الواقع، وما وراء القوانين الطبيعية ونواميس الكون ويصر على ابتناء الحضارة من خلال تأسيس العلوم، والاعتماد على الفلسفة التجريبية.

و في مكان آخر يؤكد على ضرورة بناء الحكم الحضاري على القوانين، والرئاسة، كما يؤكد على ضرورة ظهور الكاريزم أي القدوة كضرورة تاريخية من أجل التغيير في طريقة بناء الدولة والحكم ضمن المحتوى الكلي لعناصر الحضارة الذي يستلزم العمل فيه بتؤدة وإصرار عجيبين، وهو يضع الفوارق بين القوانين العقلية، والتي يسميها قوانين العقلاء أو السياسة العقلية، وبين القوانين الإلهية التي يسميها القوانين الدينية أو السياسة الدينية، ومن ذلك فإنه يميل كثيرا إلى أن السياسة العقلية تعمل غالبا في المساحة المدنية للمجتمعات؛ أي في إدارة شؤون الناس المدنية اليومية؛ أي أنه ينحاز إلى قوانين السياسة وفق الواقع وضرورات المصالح واستحسان المقاصد، عندما يصرح فيقول: ".. فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين مفروضة كما كان الشأن عند الفرس وغيرهم"!

و لكن ما هو تعريف الحضارة؟

في اللغة العربية؛ فإن الْحَضَاْرَةَ - بالفتح والكسر تعني الإقامة في الحضر. والمعروف أن مظاهر العلم، والفن، والأدب كانت في الحضر على اختلاف الزمن والجغرافيا وديمغرافية الأرض. والحضر خلاف البدو، والحضارة خلاف البداوة أو البادية. ويقال الحاضر فهو المقيم في المدينة، والبادي هو المقيم في البادية.

و إذا ذهبنا أكثر فأنا سنجد أن الحضارة في لغتنا العربية الجميلة ترتبط بالحضر والعمران، وأن المصطلح اللغوي بذاته يحمل المعنى الاجتماعي للكلمة!

ويختلف المفكرون في تعريفهم للحضارة. ولعلي أستطيع أن أقول إن الحضارة هي المحصلة الجماعية المتراكمة لتجارب أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب، حين تفعل العقل في البحث عن مخارج أزمة، أو استجابة في مواجهة تحد تاريخي يشكل مأساة، إن لم يستجاب لتلك المواجهة! إذن فإن هناك مواجهة تاريخية لجهة توظيف العقل الجماعي، والجمعي لفعل جماعي وجمعي لأمة ما، أو شعب ما، في مواجهة تحد لأزمة جامحة، أو تحد لمأساة جائحة!

و على أساس هذا التوظيف للعقل الجماعي والجمعي لتنفيذ فعل جماعي وجمعي، فإني أزعم أن الحضارة بمعناها الحركي الديناميكي والمستمر يمكن توصيفها على الترتيب التالي:

أولا: أن الحضارة شروط أخلاقية، ومادية في حياة الأمة والشعب، تخضع لتوازن يحفظها من الانحراف، والميل عن استقامة خطها المتصاعد؛ إذ أنه باختلال أحد الشرطين تنحرف وتميل تلك الحضارة عن جانب لصالح جانب آخر.

وثانيا: أن الحضارة عمل اجتماعي؛ أي أن إنجاز أي مشروع حضاري يتلازم بالضرورة مع التفعيل للعقل الجمعي، والفعل الجمعي، الاجتماعي للأمة...

و ثالثا: أن الحضارة هي البيئة المدنية التي تحفظ على الناس إنسانيتهم، وكرامتهم باعتبار أن الشخصية الاعتبارية لحضارة أمة هي مجموع أفراد المجتمع في جغرافية الدولة، والحضارة، التي بدورها كحق مدني إنساني عام أن تمنح تلك الدولة، هذا الفرد الضمانات الكفيلة التي تتركه في النهاية ترسا من تروس تحريك المجتمع، والتاريخ، والحضارة، كل من موقعه.

وأخيرا: فإن الحضارة هي طور من أطوار التاريخ، التي يمر بها أي شعب وأمة كما يؤكد إبن خلدون أن للامة أطوارا كتلك التي يمر بها الإنسان كحي من الأحياء!

لماذا أزعجكم، وهل هناك علاقة ووشيجة بين تلك المقدمة وبين القشوة (البرمة) اليمنية، والكعدة اليمنية، و لماذا أكلف نفسي وإياكم عناء السفر بهذا التمهيد الفلسفي التاريخي، وكل الموضوع سيدور حول القشوة والكعدة؟!... و لكن تذكروا هذا التمهيد في نهاية المقالة!

أتصور أن كلا منا يعرف الكعدة والقشوة لأنهما؛ مفردتان من مفردات الحياة اليومية في معظم قرى اليمن، بل وأرجح أن لها تاريخا قد يعود إلى السد في مآرب الحضارة، والإنسان، والحياة، والدولة، والشورى!

وكانت معرفتي بالقشوة والكعدة في سن مبكر من سني الصبا، بيد أن تلك المعرفة كانت معرفة عابرة لا تمت إطلاقا للأسئلة المتفلسفة التي هي أول واصل وحبل كتابة هذه الخواطر في مقالتنا هذه. والقشوة فلسفة كنت قد عرفتها لأول مرة في مخبازة الشيباني في عدن وكنت أيامها في الإبتدائية في مدرسة الجمهورية الليوي الواقعة على نهاية مدينة الشيخ عثمان قبل أن تصل إلى المملاح القديم. أما الكعدة فكانت معرفتي بها في القرية، إلا أن العلاقة الفلسفية والتاريخية بالكعدة اليمنية والسد وحضارة اليمن كانت في مارب أيام كنت مهندس وزارة الداخلية كمدير للمشاريع أيام القائد محمد عبدالله صالح - كنا ندعوه بهذا اللقب... حيث اختلطت بغير قليل من الناس هناك.

وقد أتاحت لي تلك الفرصة أن أزور موقع السد القديم، وقد شدني حقيقة نظام الري الراقي الذي يسهم توزيع المياه اللازمة لسقي الأراضي لأنحاء هائلة المساحات. وقد ألهمتني تلك الزيارات لكتابة مقالات فنية هندسية حول ذلك!

وكان اللقاء التاريخي والفلسفي بيني وبين الكعدة حين نزلت ضيفا على إحدى القبائل. كانت الكعدة تتوسطنا، وكان لزاما على الساقي أن "يركي الكعدة من جحرها كيلا تقتفد فيندهق" البن أو قهوة القشر المهيل لتضيع في الرمال!

وأنا لست متخصصا في تأريخ تطور القشوات والكعد، ولكنه ذاك السؤال الفلسفي والحضاري الذي شغلني أبدا، فأحزنني أيما حزن، وآلمني أيما ألم، فأبكاني... ولطالما تركت المخبازة جائعا، حين يكون أصدقائي قد "شنطفوا اللحمة والمرق حتى حوائج اللحمة بشحارة القشوة، وقشوشوا الرشوش، وقشقشوا اللحمة حتى نخاع العظام".. هذا إذا لم "يفقشوا" القشوة حق الشيباني الذي يجمع قيمة "قشوته" على قيمة الوجبة... وآنئذ يبدأ الصياح والمضاربة والهزورة.. ولكن الله سلم ببعض المفارعين عيال الحلال، وكفى الله المؤمنين القتال!

و السؤال الذي ضيع اللحمة على أخيكم هو.. لماذا لا تقدم القشوة إلا داخل مطيبة مذحلة!

أو برتن مدلقف يركيله منسب متقتفدش!
لماذا لم نستطع أن نصنع مجلسا وجحرا للقشوة، وكرسيا للكعدة، وبشرط أن يكون جزءا تصميميا وتنفيذيا من القشوة نفسها، والكعدة نفسها؛ بحيث لو وضعناها "توقف سوى بلا مراكي".. أي أن المركا يكون جزءا لا يتجزأ من القشوة أو الكعدة نفسها!؟

وأتصور أن أغلبنا إن لم يكن الجميع يعرف الكعدة والقشوة ( البرمة ) على وجه الخصوص لحضورها التاريخي، واليومي تقريبا إذا ما فتح الله عليك بقيمة غداء في إحدى مخابز أحد الشيبنة جمع الجموع للشيباني المنتشرة في اليمن كلها تقريبا! وعلى امتداد السبعين عاما الماضية!

ولعلي لن أبالغ إذا قلت أن "الشيبنة" هم أول من وحد اليمنيين في المخبازة على عزومة صيد مشوي مع الرطب أو الرشوش، أو فتة موز أو تمر مع قشوة تلتهب بلحم طلي ثكلته أمه بعد أن ذهب فداءا للملاجع التي "تبرطمت" من الانتظار للمباشر الذي تأخر ولم يرع ذمة في المنتظرين!

الشيباني يقدم لك قشوة المرق داخل مطيبة غريق تحتضن نصف كرة القشوة أو تزيد عنها قليلا اي انه "يركيله" كي لا تقتفد فوقنا فتحرق الملججين الملتفين حولها استعداد للانقضاض عليها فيصيبونها ما اصاب حمارا دخل مسجدا من "الدكم والزبط والجحاف".

اي ان القشوة يحتاج لها الي مركى. والمركى هذا هو عبارة عن مطيبه مذحل وفي كل مرة تذهب الي نفس المقهى تأتي القشوة وتحتها مطيبة مختلفة.. وذلك لان القشوة لا تقف مستوية أبدا الا وهي داخل تلك المطيبة "الملعفزة والمذحلة" والا ستسقط سقوطا يجعل من حولها ممرجا ب"الهرد الذي بين المرق". والمعروف ان الهرد لا يرتاح له الدوبي كائنا من كان حذافة ومهارة وكياسة في تنظيفه.

و كلما تكسرت قشوة في المقهى يقفز فوقك الشيباني سع المجنون ثم تبدأ المفاوضات علي قيمة القشوة وتنتهي القضية بالشجار والمضرابة أو الصياح الذي يرتفع فوق صياح الزباين والمباشرين ثم يتقدم المفارعون بعدما انكسرت القشوة والكعدة.

قد يرى البعض منا أن موضوع القشوة والكعدة أتفه من أن يقرأه عاقل، بيد أن العاقل هو الذي يجب أن يقرأ هذا المقال ويجيب على التساؤلات المطروحة من بداية المقال حتى نهايته!

سقطت التفاحة على رأس إسحاق نيوتن، فسأل ذلك السؤال التافه الذي غير قوانين العالم؛ وسؤال اينشتاين عن إبرة البوصلة غير الكون والدنيا!

و هو نفس السؤال الفلسفي والحضاري الذي طالما شغلني أيضا وهو إذا كنا نحن بناة أقدم وأضخم وأروع سد بهندسة شيدت أدق نظم الري.. لماذا أولا تركنا فأر الإهمال يحيل الجنتين قفارا؟! ربما.. لأن برلمان بلقيس كان سع برلمان علي!

و ما يحدث الآن في الوطن هو ان القشوة بلا مجلس، والكعدة بلا كرسي، ولن نفلح البتة، الا اذا سائلنا انفسنا اين العقل اليمني الخلاق الذي لم يستطع ان يصمم وينفذ للقشوة مجلس وللمعدة كرسي، حينها ستعرفون لماذا تقتفد القشوة وترتمي الكعدة!..

"مسكيناش نتوطف لعكبار"، ونحن بناة ذلك السد الهائل الأعجوبة.. شيء مخزي حقا!

ولماذا بعد انهيار السد لم نعد بنائه إذا كنا بٌناته!؟ ولقد ينتابني أحيانا شك مزعج يصور لي أن بناة السد من الصين من قوم يأجوج ومأجوج!

إذن يبدو لي أن هناك علاقة فلسفية ووشيجة حضارية بين.. (أزمة انهيار السد، ومأساة القشوة والكعدة!) من جانب.. وبين قدرتنا على تحقيق استجابات حتمية لتحد حضاري تاريخي، وفلسفي في نفس الوقت، والانسياق باتجاه الأمور الطبيعية لفكر الإنسان السوي في الاستجابة التلقائية لتحدي المأساة والأزمة، اللتين وقعتا مصادفة أو عن خطأ في فلسفة التصميم ذاته من العقل الذي توقف عن الإبداع وهو يدعي الإبداع من جانب آخر؟!

سؤال طامح وجرئ جارح.. يحتاج استجابة طامحة وجارحة في آن واحد!

ونحن لن نحل الأزمة التي تجتاحنا الآن! وتهدد اليمن بكاملها إلا إذا عرفنا إجابة تلك الأسئلة!

وعسى أن هناك من يفهم أن: القشوة والكعدة، وإجابة السؤال عن السد، ما هي إلا إعادة بناء، أو تكرار سقوط حضارة الإنسان في بلاد أقدم سد وديمقراطية في الدنيا!

شخابيط على جدار الوحدة

ما الذي جعل بيت لقمان يتركوا "الجبلي" الهارب من الإمام يطبع جريدته في مطبعتهم. انه حب اليمن. ويدور التاريخ دورته فإذا بعماد لقمان وكريم نعمان تزاملهم المصادفة التاريخية فإذا بنا ليس صديقين بل آخين. وحين التقيته في أمريكا احتضن لقمان الفضول في الجيل الثاني وبكينا بعد ما يقرب من ثمان وعشرين عاما.

ما الذي جمعني بذاك الرجل في تعز وما الذي ترك الدمعة تنهال منا. انه الحب والإخاء والصدق والنقاء.. انها اليمن التي وهبتنا ذلك الإحساس النبيل والجميل. اليمن بكل ما فيها من حرب وحب من حسن وقبح من كل المتناقضات. واذا بنا نرمي الحديث بِلا أعِنةٍ أو لعنةٍ تقتل روحنا التي التقت من بعد طول شقا وعناء.

زر الذهاب إلى الأعلى