[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

الشيخ التويجري والأستاذ النعمان والزمان والمكان

اليوم، وأنا أعيش حالة من حالات المحاسبة لنفسي، لا أجد لي مكاناً آوي إليه غير مكتبتي لأعيش مع ساكنيها، فهم من بقي لي، في أخرآيامي. وفيما أنا على الرفوف، أوقفني الفضول أمام ملف كان هاجعاً في زاوية من زوايا المكتبة في نعاس طويل لا عهد لي به منذ زمن. مددتُ يدي إليه فإذا أنا والشيخ أحمد محمد نعمان، رحمه الله، وجهاً لوجه. أخذته باحترام وتقدير إلى مكتبي وجلستُ وإياه ليُقرئني شيئاً من أيامه، من آلامه، من معانته.

وفيما أنا والنعمان والأيام في عتاب ذاتي،الزمان والمكان والإنسان والشباب والشيخوخة مادته،إذا نحن بأبي الطيب يردد على مسامعنا قوله:

إذا كان الشبابُ السُكْرَ والشيبُ هماً فالحياة ُ هي الحِمام

لحظتها شعرت أن النعمان يقول لي : أهذا هو الجواب؟ قلتُ له :لا أدري ولكن أَمَنْ قال :

الأليت الشباب يعود يوماً فأ ُخبره بما فعل المشيب

قد استلهم من قول أبي الطيب هذا المعنى، فأطلق أمنياته؟ ولكن بماذا سيخبر شبابه عن شيخوخته؟ ليته قال، وليتك يانعمان قلت!! فتراءى لي أنه يقول :هذه هي الحياة، تمر بنا لتعظنا ولكننا لانتعظ.

وعندما أردت الإنصراف خيِّل إليّ أنه يقول لي: أهناك لقاء غير هذا؟ فقلت له: إن مشاغلي كثيرة يانعمان، همومي أكثر. فالشيخوخة أوهنت عظمي. عندها تراءى لي أنه يقول لي: لمن ستتركني وهؤلاء الإخوة الموجودين معي في مكتبتك؟ أسنكون ميراثا ً نورث من بعدك؟ ومن الوريث؟ هل سيفهمنا؟ أم يضيق بنا ويرسلنا إلى الحريق، ليحرق مشاعرنا؟

عندها شعرتُ بمسؤوليتي من هؤلاء الإخوة، وخوفي على أدبهم وفكرهم وتجربتهم من يد عابثة لاتعرف قدرهم. فقامت في ذهني خاطرة مليئة بالحيوية تقول لي: ليست الرسائل شيئا ً يورَّث، حررها من مكتبتك قبل أن يقابلك الأجل، فما قيمة الأدب والفكر والتجربة إذا لم يتوصلوا وأديب اليوم والغد ومفكره؟ نعم، إذا لم يتواصل الأدب والفكر اتسعت الفجوات الفكرية فيما بين الأمس واليوم والغد، وتقطعت أواصر النسب بين فكر وفكر، وأدب وأدب، فالذي أوصل عالم الفضاء إلى الهبوط على صخور القمر هو مفكر الأمس البعيد وعالِمه ُ وتجارُبه.

كانت تلك مقدمة من كتاب "رسائل خفت عليها الضياع" للشيخ عبد العزيز بن عبدالمحسن التويجري - رحمه الله- النائب المساعد لرئيس الحرس الوطني الملكي السعودي. حيث يحتوي هذا الكتاب على العديد من الرسائل المختارة لعدد من الشخصيات الفكرية والأدبية والسياسية. ونجد من بين تلك الشخصيات الأستاذ أحمد محمد نعمان –رحمه الله- حيث سيرى القارئ أن الشيخ المرحوم عبدالعزيز التويجري بدأ مقدمته بتلك الهامة اليمنية المؤثرة التي إختارها من بين تلك الشخصيات والتي كان يسميها نعمان اليمن في رسائله، والتي أثرت عليه شخصياً في ذلك العتاب الخيالي الرائع، وشعوره بعد ذلك العتاب بالمسئولية تجاه تلك الرسائل، والخوف على ذلك الأدب من العبث، وإخراجه من إحدي زاويا مكتبته بعد ذلك النعاس الطويل ليرى النور . وربما قد حازت رسائل كلا الشيخ التويجري والأستاذ النعمان –رحمهما الله- النصيب الأكبر، حيث تحتوي على 14 رساله في ذلك الكتاب.

وإليكم إحدى رسائل الأستاذ النعمان للشيخ التويجري والتي تحكي بسرعة قصة التشرد الطويل والمعاناة القاسية من أجل الحرية والسعادة لليمن والتي بدأ مقدمتها مستنشدا بأخيه وزميل دربه وكفاحه ونضاله الشهيد محمد محمود الزبيري وتقول:
ايها الأخ الحبيب والإنسان العجيب الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري
تالله لاأدري ماذا أرد به على التحيات التي تغمرني بها وتمطرني بشآبيبها، والمشاعر الحميمة الصادقة والعواطف النبيلة التي لاعهد لي بها.

حقاً لاأدري ماذا أرد به على ذلك.. إلا أن أنشدك ماأنشده أخ لي من قبل هو الشهيد محمد محمود الزبيري، شاعر اليمن حين تشرد منها بعد أحداث اليمن التي أطاحت بالإمام يحيى عام 1948=1368 ه ولجأ إلى باكستان وظل فيها حائراً ضائعاً لايعرف أحداً، ولايعرفه أحد، حتى أمتدت إليه من وراء الغيب يد الأخ العربي المسلم عمر بها الدين الأميري، سفير سوريا آنذاك في باكستان، فأنشده الزبيري:

ياجنة ً رَحبتْ بي بعد أن مُلئت على دنياي من هول ونيران
يامهجة ً وسعتني بعد أن جحدت اسمي بلادي وأحبابي وخِلا ّني
نزلتٌ منها بأرجاء مباركة كريمة الظل تواسيني وترعان
ماضاق من هول جرحي طبها الشافي ولاتقلص عني ظلها الحاني
آوت جراحي وأشواكي وكارثتي وأدمعي وتباريحي وأشجاني
فنلت أضعاف دنياي التي ذهبت واعتضت من وطني عنها بأوطان

وهأنذا منذ تشردت عام 1936م=1356ه، اي منذ نصف قرن وفررت إلى مصر في عهد الإمام يحيى معارضاً بعض كبار موظفيه الذين كانوا يحكمون اليمن باسم الإمام حكماً طائفياً بغيضاً قاسياً..لقد كنت أنشر في الصحف باسم مستعار وأصدر نشرا خاصة أسجل فيها المظالم التي يُنزلها بالرعية أولئك الموظفون، ويبيحون للعسكر من القبائل أعراض الناس وأموالهم ودماءهم، مما اضطر معظم الرعية إلى الهجرة من اليمن ولم يبق سوى المستضعفين من الرجال والنساء والولدان (لايستطيعون حيلة ولايهتدون سبيلا).

وبعد عام 1944م=1364ه، حين فررت مع الأخ الزبيري إلى عدن لمعارضة نظام الإمام يحيى وتأسيس (حزب الأحرار) وإصدار صحيفة (صوت اليمن).

وبعد قيام حركة 1948م=1368ه، التي فشلت بقيادة عبدالله بن احمد الوزير وأنتصر فيها الإمام أحمد، فأعدم منهم كثيراً ممن أدينوا بمباشرة قتل الإمام يحيى، وبالتآمر عل القتل، واعتقلت مع المعتقلين سبع سنوات في سجون "حجه" حتى عفى عني الإمام أحمد، لأنني لم اكن مشتركاً في قتل ابيه ولامتأمراً على القتل، وقد أطلق كلمته الشجاعة في وجوه المحرضين له على القتل(الله أن نأخذ إلامن وجدنا متاعنا عنده).

وبعد حركة1955م=1375ه، التي قام بها سيف الإسلام عبدالله وإخواته ضد أخيهم الإمام أحمد ففشلوا وقتلوا.
وبعد حركة 1959م=1379ه التي قام بها بعض القبائل بقيادة شيخ حاشد حسين بن ناصر الأحمر، وولده حميد مع أحد مشايخ بكيل، وهو الشيخ عبداللطيف بن راجح ففشلوا وأعدمهم الأمام أحمد.

وبعد حركة 1963م=1383ه، والتي قام بها بعض الضباط والقبائل والتجار بمساندة فعلية وتحريض صريح وتدخل سافر من مصر في عهد الرئيس عبدالناصر وقد تصدرها المشير عبدالله السلال والدكتور عبدالرحمن البيضاني.

وبعد الخلاف مع الرئيس عبدالناصر وانصاره عام 1966م=1385ه، ورفضه نصحي ورأيى ومصارحته لي بقوله(أنت مش حتقنعني لاشعراً ولانثراً) تم اعتقالي في مصر عاماً و22 يوماً في زنزانة مغلقة، مع المجموعة الكبيرة التي بلغ عددها نحو ستين شخصاً، مدنيين وعسكريين.

وبعد حركة المشايخ عام 1967م=1386ه، ضد العسكريين وإعفاء المشير السلال من رئاسة الجمهورية، وقيام مجلس جمهوري يمثل رئاسة الدولة ويتألف من القاضي عبدالرحمن الإرياني والأستاذ احمد محمد نعمان والشيخ محمد على عثمان، وقد أعلنت استقالتي من عضوية المجلس حين رُفض رأيي في المصالحة الوطنية ووقف الحرب الأهلية بين أنصار الملكية والجمهورية.

وبعد حركة التصحيح التي قامت عام 1974م=1394ه، بقيادة المقدم إبراهيم الحمدي وبعض الضباط والمشايخ، وأعلنت هذه الحركة إقالة أعضاء الحزب الجمهوري وإلغاء المجلس نفسه وتعليق الدستور وتجميد مجلس الشورى.

نعم هأنذا بعد التشرد الطويل والمعناة خلال تلك الأحداث والحركات اخترت المقام بجوار بيت الله الحرام، بين أهلنا وأبناء عمومتنا وجيراننا الأقربين، حراس الحرمين الشريفين والمقدسات الإسلامية من آل الملك عبدالعزيز آل سعود، الذي تعلقت به آمالنا وأمال العرب والذي أنشده شاعر اليمن الزبيري قصيدته الشهيرة:

قلب الجزيزة في يمينك يخفقٌ وهوى العروبة من جبينك يُشرقُ
ولَعمْر مجد المسلمين لأنت في أنظارهم أملٌ منير شيقٌ

إلى أن قال:
إن الجزيرة شرقَها وجنوبَها وشمالها حَرمٌ بوجهك مونقُ
وحدّت ونفخت في أرجائها روحاً تخب بها البلاد وتُعنقُ
وإليكّ ياأسدَ الجزيرة خفقة من قلبِ صّبٍ لم يزل بك يخفقُ
ناءت بمحملها حنايا لوعتي وهفت إليك بها القوافي السُبَّقُ
يمنية ٌ مكية ٌ نجدية ٌ قل ماتشاء فنحن لانتفرّ قُ

أخي: إنني لاأستغرب كل مالقيتٌه وألقاه منك، فالشيء من معدنه لايستغرب، وأنت إنما تعبر بتلك المشاعر والعواطف عن أخلاق ابن الصحراء، وعن البلد العربي الذي تنتسب إليه، والدولة التي ترتبط بها، والقيادة الرشيدة التي تنتمي إليها وتتجند معها، كما أنك تعبر عن رجالها الذين لايٌتبعون ماأنفقوا مناً ولا أذى، والذين يعطفون على كل من تنكر لهم الدهر وأدار لهم ظهره، ولو كانوا ممن يجحدون ويتنكرون:

خذوا الحق الرفيع من الصحاري فإن النفسَ يُفسدها الِرجامٌ
وكم فقدت جلالتها قصورٌ ولم تفقُد مروءتَها الخيامُ
وبعد فإني أعرف كل المعرفة أنه ليس لك ذاكرة تحفظ بها ماتفعله وأنك تنسى كل ماتقدمه من خير، وتصنع من معروف، وماتسدي من جميل، لأن ذاكرتك غارقة في هموم الأقربين والأبعدين.. وخيالك يحلق دائماً في سماء لايرقى إليها الملهمون حتى ليكاد من لايعرفك حق المعرفة، ولايدرك مافي أعماق نفسك، يظنك بدوياً ساذجاً وأميا لايقرأ ولايكتب.

ولن يغيب عن ذهني قول أحد مواطنيك من كبار الكتاب والمفكرين، بعد أن قرأك وعرفك حين قال:"رجل هذه أفكاره وأراؤه وتلك سماوته وآفاقه، كيف يتلاءم مع المجتمع الذي يعيش فيه..إنه انفصام في الذات وعذاب شديد؟"
كم أخجل حين أتهم ذاكرتك بالنسيان وأضايقك بهذا الإتهام!! ولكنه الشعور الأخوي الصادق، ومعذرة إذا كان ذلك قد يؤذيك.

أخي: ثق أني منذ عرفتك وصحبتك لاأكابد همومي وغربتي وشيخوختي، وتنكر الجاحدين والحاقدين من أبناء وطني..لاأكابد ذلك في يقظتي ومنامي الإوجدتك تكابد معي أكثر مما أكابد، وتشاركني همومي وآلامي فأجد في ذلك العزاء كل العزاء..

هذه هي الحقيقية التي أوصلتني إليها تجربتي معك..فإن صديقاً يدفع به القدر ليأخذ بيد إنسان عند حالة اليأس هو نوع من ألطاف الله وكرمه باليائس.كما هونوع من توفيق الله سبحانه لمن يحيى الأمل في نفس البائس.

وإذا الصنيعة ُ صادفت أهلا لها دلت على توفيقِ مُصطنِع اليدِ

أخي: لقد بلغت من االعمر مايقارب ثمانين عاماً، وهذه الأعوام الطويلة التي فيها الخطأ والصواب والتي خرجت فيها يوم شبابي من وطني أولاً بمفردي عام 1936م=1355ه، وثانياً عام 1994م=1364ه، أي بعد ثماني سنوات مع أخي الزبيري نطلب الحرية والسعادة والعدالة والمساواة لشعب الحضارات ومهد العروبة اليمن السعيد.
هذه الأعوام الطويلة كم كابدنا فيها الجوع والضنك ومرارة الحياة!! ولكن من أجل اليمن هان علينا كل شئ.
هانت علينا السجون وهانت علينا الحياة.. لقد سقط الزبيري، زميل العمر والكفاح، مضرجاً بدمائه جثةً هامدة لاحركة فيها ولانبض.. سقط بين يديّ وأمام بصري برصاص الغدر والكفر والجحود.. وعلى يد من؟؟ على يد من أراد لهم الحياة من أبناء وطنه، ولونطق دمه لقال:(أريد حياته ويريد قتلي)!. واليوم وأنت البقية الباقية الذي مازال يحتال في بري وتكرمتي، وينفرد بمشاطرتي الهموم في هذه الحياة.. اليوم ولاأدري ماذا يأتي به القدر.. قد نفترق غداً أوبعد غد في طريقنا إلى الله. ولكن فراق لايخذله جحود أونكران لآمالنا في كرم الله ورحمته التي وسعت كل شيء.

أخي: إذا قرأت هذه الرسالة فلا تأخذها عاطفة لشيخٍ هرم "بلغ من الكبر عتياً"، أو تظن أن إرادته قد نحتها الدهر وعصف بها الزمن، أبداً..أبداً.. إن الإرادة والإيمان لايضيعان في وحشة الطريق وضبابه عند الرجل المؤمن والشجاع.

اليوم، ويدي صفر من نتيجة آمالنا الكبار التي سقط من أجلها الشهداء في اليمن، وفي الوطن العربي الكبير وسائر أقطار الإسلام، لاشيء أقول إلا: اللهم لطفك ورحمتك بعبادك الضعفاء!

فعالم الأقوياء والسّفهاء والمجانين والمتطرفين والحاقدين والدجالين والمنافقين والعصابات الإرهابية والزعامات الصارخة المجنونة التي خرجت من المجهول في القرن العشرين، والتي لانعرف من أين أتت وفي أي تربة نبتت.. هذا العالم بكل هذه الفئات يكاد يعصف بإيمان أشد الناس إيماناً، ويزلزل يقينهم كما زلزلت البأساء والضراء أنبياء الله ورسله(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين أمنوا معه متى نصر الله)..(أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون)..

(حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا)..(وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون باله الظنونا*هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً)..(يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولاتياسوا من روح الله إنه لايياس من روح الله إلاالقوم الكافرون)..

أخي: سأودعك بهذه الرسالة.. ومن يدري، فقد تكون وداعاً للحياة غداً أوبعد غد.. إنه قدر لامهرب منه ولايخافه إنسان عاقل(وماتدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس باي أرض تموت).

وإذا لم يكن من الموت بدٌ .. فمن العجز أن تموت جبانا

أما أنت والمكان والزمان اللذان أنت فيهما فلا شيء استطيع أن أقوله وأفعله إلا أن أسأل الله سبحانه أن يرينا الصواب، ويرينا مواضع أقدامنا في دروب خطرة ووعرة. فإن الكثيرين في مختلف أقطارنا العربية يمشون، وعلى أعينهم سحاب، حتى لم يعودوا يبصرون مواقع أقدامهم من شدة الظلام والزحام.. ونصيحتي إليك أن تقول لنفسك ما أقوله لنفسي: كفى أيتها النفس فرحاً، وكفاك ركضاً وزحاماً وآلاماً في هذا العالم المجنون والزمن الرديء، وليس في هذه النصيحة ضعف إرادة وإيمان، ولاقنوط ويأس، وإنما هي ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.

خذ لنفسك ايها الأخ، في آخر العمر مكاناً ترى فيه الله وترى فيه نفسك وتحاسب هذه النفس.. وإن استطعت أن تكتب تجربتك، فلعل حائراً بهتدي بها(ولئن يهدي بك الله رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس). وقد تقول لماذا أنت يانعمان لاتكتبها؟ ولقد ألححت علىّ كثيراً أن أكتب مذكراتي.. وجوابي عن هذا السؤال هو أني كلما هممت بكتابة مذكراتي تموت الكلمات في فم القلم وتتجمد أناملي وترتعش يدي خوفاً من محاصرة الذكريات والأحداث والآلآم والأحزان التي لاتحتملها شيخوختي وأعصابي.

( وهنا يعلق الشيخ التويجري على ذلك النص ويقول: رحمك الله يانعمان، إنك تملك نفساً طاهرة وقلباً أشبه مايكون بقلب طفل صغير.ماأكثر ما مسحتُ دموعك عينيك عند موقف مؤثر تقرأه عن إنسان مظلوم أوبائس. أشهد لك بذلك وأعتز كل الإعتزاز برسالتك هذه التي تشحنها نصحاً. لقد نصحت فأبلغت، ولكن وقد ألزمني أبو الطيب بقوله:

وقيدت نفسي في هواك محبة ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا
أقول ماأكثر القيود الكريمة-يانعمان-التي أشعر أن التحلل منها هزيمة للأخلاق!).

إنني أترك كل شيء، فليظلمني، من يظلمني، سامحه الله، وليذكرني بالخير من يذكرني، جزاه الله خيراً، فالمذكرات في فهمي هي نوع من الظلال والقذف والظلم وعرض النفس وتزكيتها والإساءة إلى الموتى وإيذائهم وجرح مشاعر من ينتمي إليهم من الأحياء.

من لي؟ من يؤمنني من نفسي؟ كفى أيها الأخ عذاباً.. لن أكتب مذكرات. لن أجرح من جرّح نفسه، كما يتراءى لي. لن أحمل فاساً أهدم بها هذا وأعفي منها ذاك. رحم الله قومي وأهلى من يمنيين وغير يمنيين. لقد اختلفتُ كثيراً مع الآخرين، وحملتني تصوراتي على معاداة حكام بلدي من الأئمة وغيرهم، من أجل المستضعفين من شعب اليمن، وطال الخلاف ودخلت السجون وتشردتٌ، كما سجن وتشرد كثيرون من أهلي وأسرتي وغيرهم من الموطنين.. وآخر المطاف سجن عبدالناصر رحمه الله يوم وقفت أنا وزملائي ورجال الحكومة اليمنية- مدنيين وعسكريين- وقفنا ذاهلين مأخوذين أمام البوابة الكبيرة للسجون الحربية نقرأ على لوحة من النحاس مثبة على تلك البوابة( السجون الحربية للتأديب والتهذيب والإصلاح)! رحم الله عبدالناصر ماأطيبه وأخلصه!! والإنسان بشر والحاشية دائماً مؤثرة في الخير والشر"مااستخلف الله من خليفة إلا وله بطانتان بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله".

وأئمتنا في اليمن، رحمهم الله، عاشوا الحياة كما فهموها وكما ورثوها، بل وكما عاشها الحاكمون في الماضي، عاشوا تقاليدهم وعزلتهم.. أوحشتهم الحضارة المعاصرة التي لم يعرفوها ولم يألفوها، وشعروا أنهم غرباء عنها، وهكذا وقع الإنشقاق بين مفهوم ومفهوم وجيل وجيل.

(و يعلق الشيخ التويجري على ذلك النص: إنك يانعمان تبقى كبيرا كما كنت، تشهد لك بذلك سيرتك العطرة وروحك الطاهرة التي لم تلوثها الأحقاد ولا البغضاء والكره. إنك في آخر هذه الرسالة تطرح حقيقة بها تعتذر لأئمتك وتعلل الواقع الذي هم عليه في سياستهم من اليمن، إلى ماألفوه وورثوه وتعاقبت عليه أمم قلت عنهم إنهم لم يهضموا هذه الحضارة. إني واثق أن من يقرأ هذه الرسالة لن ينصرف عنها إلامترحما عليك وداعيا لك). رحمك الله يانعمان

واليوم، وبلدي الغالي قد دخل صراع العصر، أرجوا أن يحفظه الله، وأرجوا من الله أن يحفظ جزيرة العرب التي تتداعى الأمم على خيراتها كما تداعى الأكلة على القصعة والتي تقع مسؤوليتكم أنتم عليها بالدرجة الأولى.. ومن في اليمن وغيرها من شعوب الجزيرة هم إخوانكم وأبناؤكم وآباؤكم، كما أنكم أنتم لهم كذلك، فتعاونوا وتراحموا فيما بينكم وكونوا عوناً لبعضكم بعضا!!

أخي: خذ هذه الرسالة دعوة مخلصة ومودعة أيضا لما يقال عنه "سياسة" فقد ودعتٌها كما ودعها وأستعاذ منها الشيخ محمد عبده حين قال:(أعوذ بالله من السياسة ومن لفظ السياسة ومن معنى السياسة ومن ذكر السياسة ومن كل بلد تذكر فيها السياسة ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس).

وأؤكد لك، ياأخي، أني كما ودعت السياسة ودعت كل شيء، ولم يبقى غير غربتي مع نفسي ومع الناس ومع الزمان والمكان!!

( ويعلق الشيخ التويجري ويقول: هذه هي الحياة، يانعمان، وهذا أنا وأنت "مشيناها خطى كُتبت علينا" وإلى أين وصلنا، وإلى أين أخذتنا؟ هذا الذي جاء التعبير عنه متأخراً، وبعد ماذا؟ بعد أن نفذ فينا كل شيء وفرغ قدحنا شعرنا بالظمأ).

حفظك الله لي أخاً باراً رآني حين تخطتني العيون، وأحسن ظنه بي حين ساءت بي الظنون، وعرفني حين تجاهلني الكثيرون، ومد يده إلى يدي يوم مرت بي الحياة والناس مُعرضون، وأنا واقف حائراً لاادري أي طريق آخذها.. مرة أخرى حفظك الله ورعاك!!

أخوك أحمد محمد نعمان

جنيف 10-شوال-1405ه=27يونيو1985م"

https://nashwannews.com/ar/secontna/uploads/old/dir/images/2010/7/3/1278949632.jpg

زر الذهاب إلى الأعلى