تراثيات
سميت اليمن بهذا الاسم لأنها تلي يمين الكعبة
وسميت الشام كذلك لأنها عن شمال الكعبة
جزيرة العرب أرض مباركة، فهي مهبط الوحي ومنطلق الرسالة الاسلامية الكريمة، ومهد الحضارة الانسانية.
جزيرة العرب ودورات المناخ:
يقول العلماء الجيولوجيون والآثاريون: إن الأرض مرت بأربع دورات جليدية، تفصل بينها دورات دفيئة.
وآخر هذه الدورات الجليدية الدورة الجليدية الرابعة ويسميها العلماء دورة جليد فرم، بدأت من سنة 40000 قبل الميلاد وانتهت في سنة 18000 قبل الميلاد وكانت جزيرة العرب خلال هذه الدورة الجليدية الرابعة تعيش بأجواء رطيبة وامطار غزيرة في كل المواسم صيفاً وشتاءً وكانت الانهار الجارية المتدفقة بالمياه تخترقها من كل حدب وصوب، لذلك نمت فيها الحضارة الانسانية وازدهرت الحياة على ارضها، فعاش البشر في بحبوحة هنيئة من العيش.
فسبحان رب العزة والجلال القائل في محكم كتابه العزيز: "وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون" "سورة الانبياء: الآية 30".
وخلال هذه الدورة الجليدية الرابعة كانت اوروبا وكل الاجزاء الشمالية من الكرة الارضية مغطاة بطبقات هائلة من الثلوج تجعل حياة البشر في تلك الاجزاء من الارض تكاد تكون مستحيلة، اما الآن فالعالم يعيش اجواء الدورة الدفيئة الثالثة التي بدأت في اعقاب الدورة الجليدية الرابعة "دورة جليد فرم" حيث عادت اوروبا إلى حالتها الطبيعية التي كانت عليها في الدورة الدفيئة الثانية حيث اصبحت ممطرة خصيبة ذات مناخ معتدل رطيب وانهار جارية.
بينما تحولت ارض الجزيرة العربية تدريجياً إلى صحارى بسبب تغير المناخ إلى حار جاف قليل المطر، وبسبب هذا التحول في المناخ اصبحت الحياة صعبة فتدفقت موجات البشر "الكنعانيين والعموريين والاكديين والبابليين والاشوريين والكلدانيين" من جزيرة العرب إلى الاقطار المجاورة التي اطلق عليها الغربيون مصطلح "الهلال الخصيب the fertile cerscent" فصنعوا على ارض هذه الاقطار حضارات فجر التاريخ القديمة التي وصل إلينا الكثير من اخبارها ومعلوماتها.
ولقد اشار القرآن الكريم إلى "جنات عدن" في الكثير من آياته البينات.
واشار الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، في حديثه الشريف الذي رواه الامام احمد بن حنبل في كتابه "المسند" ورواه كذلك أبو عبدالله الحاكم النيسابوري في كتابة "المستدرك على الصحيحين" فقد ذكرا ان رسول الله، عليه الصلاة والسلام، قال: "لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وانهاراً" ومعنى كلمة "تعود" أنها كانت فيما مضى مروجاً وانهاراً.
زمن الفِطَحْل: الصخور رطبة والسيول عارمة
تذكر العرب في موروثاتها المتواترة ان هناك زمناً مر على الارض اسمه "زمن الفِطَحْل" وهو دهر موغل في القدم، كانت الاحجار فيه رطبة بفعل الامطار الهائلة والسيول العارمة.
قال عنه ابن منظور في "لسان العرب": الفِطَحْل- بكسر الفاء- على وزن الهِزَبْر: دهر لم يخلق الناس فيه بعد ايام كانت الحجارة فيه رطاباً. وصف صخور زمن الفِطَحْل راجز العرب الشهير رؤبة بن العَجَّاج السَّعدي بقوله: والصَّخرُ مُبْتَلّ كطين الوَحْلِ، وقال أبو حنيفة: عام الفِطَحْل، هو زمن الخِصْب والرِّيف. ووصفه الاخباريون العرب في كتاباتهم بأنه دهر الأمطار والسيول العارمة والخضرة الدائمة. والفَطْحَل- بفتح الفاء: هو اسم رجل ولقب مدح واشادة.
موقع جزيرة العرب: تقع جزيرة العرب في الجزء الجنوبي الغربي من قارة آسيا، يحدها من الغرب البحر الاحمر "يسمى قديماً بحر القلزم"، ومن الشرق الخليج العربي وخليج عُمان، ومن الشمال نهر الفرات وبادية الشام، ومن الجنوب خليج عَدَن وبحر العرب.
وجزيرة العرب هي في الحقيقة شبه جزيرة، اذ ان الماء لا يحيط بها من جهتها الشمالية، ولكن الجغرافيين العرب الاقدمين سموها مجازاً باسم جزيرة.
ولا يوجد على الكرة الارضية شبه جزيرة تماثل شبه جزيرة العرب حجماً، فمساحتها تعادل ربع مساحة قارة اوروبا وثمانية اضعاف مساحة الجزر البريطانية.
اقسام جزيرة العرب: تنقسم جزيرة العرب إلى خمسة أقسام هي: تهامة، والحجاز، ونجد، واليمامة، واليمن. ومن ضمن هذه الاقسام الخمسة توجد صحارى مترامية الاطراف تكون الجزء الاكبر من ارضها.
اليمن: وتقع في الطرف الجنوبي الغربي لجزيرة العرب، وتعرف عند المؤرخين القدامى من يونان ورومان وفرس وعرب باسم "اليمن السعيد"، وهي اخصب اقليم في جزيرة العرب، ومركز التجارة العالمي في عصور التاريخ القديمة، وقامت على ارضها ممالك عربية قديمة عدة ذات حضارة راقية في كل مجالات الحياة.
وفي اليمن السعيد الخضراء، قال أحد شعراء العرب الاقدمين:
هي الخضراء فاسأل عن رباها
يخبرك اليقين المخبرونا
ويمطرها المهيمن في زمانٍ
به كل البرية يظمأونا
وفي أجبالها عز عزيز
يظل له الورى متقاصرينا
واشجار منورة وزرع
وفاكهة تروق الآكلينا
اليمن في المعاجم والقواميس العربية:
سميت "اليمن" بهذا الاسم لانها تلي يمين الكعبة، كما قيل لناحية الشأم شأم لانها عن شمال الكعبة، ولهذا قالوا سهيل اليماني لانه يرى من ناحية اليمن، ولما وفد على النبي، صلى الله عليه وسلم، وفد اليمن قال: أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوبا وارق أفئدة، الايمان يمان والحكمة يمانية. ويقال: رجل يمان منسوب إلى اليمن، كان في الأصل يمني، فزادوا ألفاً وحذفوا ياء النسب. اليماني واليمانيُّ: المنسوب إلى اليمن، والمؤنث اليَمَانِيَة واليَمَانِيَّة. يمن الله فلاناً: جعله مباركاً فهو ميمون والجمع ميامين. والميمون: ذو اليمن، واليمن هو البركة، واليمين: القسم والجمع ايمان وايمن.
اليمن في المصادر والمراجع القديمة:
ذكرت المصادر والمراجع القديمة في التاريخ والادب والشعر العربي ان اسم اليمن جاء من اليمن والبركة والسعادة، بسبب خصوبة ارضها وكثرة ثرواتها التجارية وعيشة أهلها الرغدة الهانئة.
وفي الكتابات السبئية جاء اسم اليمن مدوناً باسم "يمنت" أو "يمنات" وهو قريب جداً كتابة ونطقاً من اسمه العربي المتداول منذ عرب الجاهلية إلى اليوم ونعني به اسم "يمن".
واطلق مؤرخو اليونان والرومان القدماء على بلاد اليمن اسم بلاد العرب السعيدة "Arabia felix".
ويرى بعض المتخصصين في لغات العرب الاقدمين، ان الكثير من الاسماء في بلاد اليمن مبنية من الافعال، كأسماء الاماكن والقبائل والافراد، وهي ظاهرة شائعة في لغات عرب اليمن الاقدمين كالمعينيين والسبأيين والحميريين، لذلك فان اسم "اليمن" هو باللغة العربية جاء من الفعل المضاريع "يمُنُّ" وماضيه "منَّ" أو من الفعل المضارع "يمنن" وماضيه "مَنَن". ومعاني هذه الافعال ومشتقاتها تعني الفائدة والمنفعة والخير والبركة.
مملكة معين
يرجح بعض المؤرخين أن أصل المعينيين يرجع إلى الأكديين. والأكديون هم من أقدم القبائل العربية التي نزحت من جزيرة العرب. ويرجح علماء الآثار والجيولوجيا والتاريخ أن سبب هجرة هذه القبائل من جزيرة العرب، هو تغير المناخ حيث انتهت الدورة المناخية الممطرة الخصبة (الدورة الجليدية الرابعة) ودخلت الكرة الأرضية في الدورة الدفيئة الحارة (الدورة الدفيئة الثالثة)- الدورتان الجليديتان الأولى والثانية متلاصقتان لا يفصل بينهما دورة دفيئة- وبسبب تغير المناخ إلى حار جاف أصبحت أرض الجزيرة العربية مجدبة شحيحة الأمطار طاردة للسكان، بينما الجهات الشمالية المتصلة بجزيرة العرب تحسنت بيئتها وذابت عنها صفائح الثلوج، أما أوروبا فأصبحت خضراء ممطرة معتدلة المناخ حيث ذاب أكثر جبال الثلوج الهائلة التي تغطي أراضيها.
ولما نزحت هذه القبائل العربية من جزيرة العرب استوطنت في بداية هجرتها على ضفة نهر الفرات الغربية، في الأرض الممتدة بين مدينة دير الزور ومدينة هيت المتاخمتان لبادية الشام، ثم فيما بعد انحدرت مجاميع كبيرة جداً من هذه القبائل العربية إلى جنوب العراق واستوطنت بلاد ما بين النهرين ميسوبوتاميا (Mesopotamea) واستقرت في جنوب العراق ما بين نهري دجلة والفرات، واختلطت هذه القبائل بالسومريين السكان الأصليين وعاش ابناؤها تحت حكم دويلات المدن السومرية "السومريون من الأعراق القديمة المتوطنة بجنوب العراق منذ فجر التاريخ و إلى الآن لم يتوصل العلماء إلى نسبهم ومكان قدومهم الأصلي" وبعد مضي قرون عدة كون أبناء هذه القبائل العربية المهاجرة لهم عدة ممالك بالعراق على أنقاض الدويلات السومرية، وتسموا باسم الأكديين نسبة إلى عاصمتهم مدينة أكد الواقعة جنوب العراق، ومن أشهر ملوكهم الذين وصلت الينا أخبارهم مكتوبة على الرقم الطينية هو الملك الأكدي سرجون الأول الذي دام حكمه 56 سنة (من سنة 2340 ق.م إلى سنة 2284 ق.م) حيث كون له امبراطورية عربية كبيرة هي الدولة الأكدية.
ويرجح معظم المؤرخين وعلماء الآثار أن الأكديين والكنعانيين والعموريين والبابليين والأشوريين والكلدانيين أصحاب دول وحضارات فجر التاريخ يرجعون بأصولهم إلى القبائل العربية القديمة التي اصطلح المؤرخون العرب على تسميتها ب¯ "القبائل البائدة" مثل عاد وثمود والعمالقة ومدين وحضرموت وطسم وجديس وجرهم الأولى التي كانت متوطنة في جزيرة العرب على زمن الدورة المناخية الممطرة "الدورة الجليدية الرابعة التي بدأت من سنة 40 ألف ق.م وانتهت في سنة 18 ألف ق.م".
ورأينا ان هذه القبائل العربية القديمة لم تبد أو تهلك أو تنقرض كما هو شائع عند مؤرخي العرب الأقدمين، لكنها هاجرت عندما مسها الحر والجفاف من جزيرتها إلى البلدان المجاورة وتغيرت مسمياتها في تلك البلدان، فالأكديون سكان العراق بعد قرون كثيرة من استقرارهم بالعراق نزح قسم منهم إلى جنوب جزيرة العرب تحت ضغط القبائل الجبلية المتبربرة التي تعرف ب¯ "قبائل الكوتيين" المنحدرة إلى العراق من جهة الشرق من جبال زاغروس. ويذكر التاريخ كما هو مدون على الرقم الطينية أن القسم الأكبر من الأكديين بقي في العراق وتمكن في نهاية المطاف من طرد القبائل الكوتية الهمجية، أما القسم الذي نزح من الأكديين إلى جنوب الجزيرة العربية فقد كونوا لهم مملكة ذات نظام حضاري متطور، لأنهم بالأساس أصحاب خبرة ومعرفة حضارية سابقة في أمور الزراعة والكتابة والبناء والتعمير جلبوها معهم من بلاد ما بين النهرين "ميسوبوتاميا" (Mesopotamea) وأطلقوا على مملكتهم التي انشأوها اسم "مملكة معين" نسبة إلى اسم عاصمتها مدينة معين التي تقع خرائبها اليوم إلى الجنوب من مدينة الجوف اليمنية "تقع مدينة الجوف شرق اليمن وجنوب منطقة نجران".
ولقد قامت هذه المملكة في بداية تأسيسها بين مدينة نجران ومدينة حضرموت، واستمرت هذه المملكة من سنة 1300 ق.م إلى سنة 650 ق.م، وامتد سلطانها إلى معظم أجزاء جزيرة العرب، وخلال فترة حكم المعينيين كانت الزراعة متقدمة وأنظمة الري متطورة، وكانت تجاراتهم وبضائعهم تنتقل على الطرق البحرية والبرية بكل يسر وسهولة، ساعدهم على ذلك موقع دولتهم الستراتيجي المهم الواقع على ملتقى دروب التجارة العالمية في ذلك الزمان، وساعدهم كذلك نفوذهم وقوتهم العسكرية وجاليتهم التجارية في بلدان التوريد والتصدير للمنتجات والبضائع على اختلاف انواعها واشكالها كالروائح والطيوب والتوابل والحرير والعاج والعقيق والمعادن والأسلحة والأخشاب والملابس.
ولقد تم العثور على الكثير من الكتابات المعينية المكتوبة بالخط "المسند" - سمي بالمسند لأن أحرفه تشبه الخطوط المستقيمة المستندة على بعضها البعض- وهي من أقدم الكتابات العربية المعروفة، وكان لهذه الكتابات بعد ان تمكن العلماء من قراءتها، الفضل الكبير في بيان حضارة العرب في ذلك الزمان، وجاء في تاريخ هذه الدولة المعينية ان الحكم فيها كان وراثياً وعدد ملوكها الذين حكموا هو 26 ملكاً، ومن اسماء ملوكهم نذكر لكم الأسماء التالية: الملك "قه إيل" والملك "صدق إيل" والملك "صادق إيل".
ومعنى كلمة "إيل" هو "الله" ما يؤكد لنا أن هؤلاء القوم في ذلك الزمان القديم كانوا يعرفون اسم الله سبحانه وتعالى، ومعنى الاسماء في لغتنا الحالية: "وقاه الله" و"صدقة الله" و"صادق الله".
وفي الأخير شاخت هذه الدولة وترهلت ودبت في جسمها عوامل الضعف والانحلال بسبب اهمال ملوكها لأسباب القوة والمنعة وانغماسهم بحياة الترف والراحة، وركون شعبها إلى حياة الرخاء والرغد وجمع الأموال وبناء القصور، كل هذه العوامل ساعدت جيرانهم السبئيين على الانقضاض عليهم والاستيلاء على دولتهم، فانقرضت وزالت مملكة معين التي دام حكمها من 1300 ق.م إلى 650 ق.م وحل محلها مملكة سبأ "وسيأتي الحديث عن مملكة سبأ".
*باحث في التاريخ والتراث