رغم استمتاعي بجمال الأجواء الباردة في مدينة لندن -يوليو 2010م- خلال قضاء فترة إجازتي، إلاّ أني استمتع أكثر وأنا أبحث في أمهات المراسلات الخارجية للحكومة البريطانية بين الفترة 1930م - 2002م عن منطقة الخليج العربي، ومن خلال قراءتي خرجت بقناعة وجزم أن دول مجلس التعاون الخليجي العربي، تعتبر حتى يومنا هذا هي التجربة التكاملية العربية الوحيدة التي كتب لها البقاء والاستمرار، واستطاعت تجاوز كل المعوقات والأحداث التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، خاصة في موضوع فرض سيادة القانون، وتعميق الاستقرار السياسي، وحكام الخليج اختاروا إستراتيجية إيجابية قائمة على تعزيز علاقات التعاون والتشاور والتفاهم مع دول المنطقة، مع تجاوز الإيديولوجيات القومية والمذهبية المنتشرة في المنطقة.
ومن هذا الاطّلاع خرجت بقناعه أن (اليمن) بعد الوحدة نجحت بقيادة وبرغماتية “الأخ الرئيس” في تحقيق الاستقرار السياسي لليمن، ولعل آخرها دعوته لأطياف العمل السياسي اليمني بتشكيل حكومة وحدة وطنية. واستقرار اليمن مهم لأنه صمام أمان لجنوب الجزيرة العربية من أي خلل أو تأثير في المستوى الأمني أو الاقتصادي الذي سينعكس إيجابًا أو سلبا على دول الخليج العربي، خاصة وأن اليمن ظل محل نقاش وجدل منذ إنشاء مجلس التعاون الخليجي عام 1981م، وظلت علاقة اليمن بمجلس التعاون الخليجي تراوح في مكانها بين صعود وهبوط، وهو ينتظر قرارًا تاريخيًّا مهمًّا حتى يتوج (المادة الرابعة) من النظام الأساسي لمجلس التعاون في أسمى معانيها، ويسهم بدعم الاستثمارات الخليجية لخلق فرص الاندماج اليمني في الاقتصاد الخليجي، وخلق فرص العمل لليمنيين في داخل أرضه، ويسهم في توطين أبنائه داخله.
ومن مبدأ المسؤولية، ومن مبدأ الترابط وحسن الجوار، فإن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود جسّد أقواله وأفعاله روحًا للتعاضد والترابط مع (اليمن)، ونحن الجارة الكبرى، خاصة وأن تحركات الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود تنبع من تاريخنا الإسلامي، فحين أقبلت قبائل قحطان مع عدنان قبل 14 قرنًا في عام الوفود على الرسول المصطفى محمد -صلى الله عليه وسلم- مؤمنين بنبوته، ومصدقين برسالته، وقد هلّل وجهه الكريم، واستبشر فرحًا حين رأى وفود أهل اليمن من الأشعريين، والحميريين، وزبيد، وكندة، والأزد، وهمدان وهم قادمون إليه، ومبايعون له ومنضمون، وقال فيهم حينها رسولنا الكريم: (أتاكم أهل اليمن، هم ألين قلوبًا، وأرقّ أفئدةً)، ومنها ما هو موصول لحديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال: لما قدم أهل اليمن على رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في المدينة، ورفع صوته الكريم وقال: الله أكبر (جاء نصر الله والفتح)، جاء أهل اليمن، فقال أصحابه: (وما أهل اليمن) فقال -عليه الصلاة والسلام-: (قوم نقية قلوبهم، ولينة طباعهم، الإيمان يماني، والفقه يماني، والحكمة يمانية)، وقال كذلك -عليه الصلاة والسلام-: (إنهم مني وأنا منهم).
إن اليمن اليوم وبعد كل المآسي من حروب الحوثيين الستة ومحاولات فك الارتباط في الجنوب، يظل حلمنا العربي بأن اليمن عاد إلى العالم العربي والإسلامي (متماسكًا) بالوحدة التي تحققت له مرة أخرى في أيار (مايو) 1990م، عاد بدولة حديثة موحدة عمّقت الجوار الجغرافي مع دول الخليج العربي بالواقع الاجتماعي والثقافي، ووصلت إلى حد التماثل في أجزائها، مثل القيم الاجتماعية والتركيبة المدنية والقبلية، خاصة وأن المواطن اليمنى هو من أرومة القبائل العدنانية والقحطانية، وهم الأكثر اندماجًا اجتماعيًّا في محيطه الخليجي من العمالة الأجنبية، ولم تتمكن الأحداث السياسية التي عكّرت صفو العلاقات لفترات متفاوتة من الزمن أن تفسد تلك الأحاسيس البشرية الطبيعية والتلقائية بينهم. وتبرز مصداقية هذا التوجه في دلالات ومغزى توقيع البلدين على الخرائط النهائية للحدود، ما يدل معه على أن اليمن والسعودية قد طوتا مسألة الحدود نهائيًّا، وأغلقتا هذا الملف بكل موروثاته ومنغصاته لتتفرغا لقضايا التنمية، منتصرتين لآمال شعبيهما، اللذين قدما المثال والقدوة في إنجاز الحل التاريخي لقضية الحدود، وذلك عن طريق الحوار والتفاهم الأخوي.
لقد بات واضحًا أن هناك حِراكًا رصينًا سياسيًّا يقودنا بشكل طبيعي إلى أهمية إغلاق دائرة التكتل الاجتماعي والاقتصادي لجزيرة العرب بانضمام (اليمن) على مراحل لمجلس التعاون الخليجي ليكتمل الترابط، ولتشكيل كتلة موحدة، لها أبعادها الإستراتيجية في ظل التطورات التي تشهدها الساحة الدولية، خاصة وأن اليمن الذي تمتد حدوده شمالاً وشرقًا داخل الربع الخالي بين السعودية وسلطنة عمان، ونشترك معها في (نهر جوفي)، يبشر بمستقبل المياه لدينا في الخليج إلى حد (التضخيم)، حسب وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، والتي أشارت إلى أن هناك اكتشافًا عظيمًا للمياه الجوفية، وتم تصويرها على أنها تساوي الكميات المتدفقة من مياه النيل مدة 300 عام، وهذا غير أن (اليمن) له إطلالة من الغرب والجنوب على البحرين (العربي المفتوح والبحر الأحمر)، وهذا له مزايا بحرية وأهمية جيواستراتيجية، وهو همزة الوصل بين قارتي آسيا وإفريقيا من زاوية القرن الشرق الإفريقي.
ختامًا إن أبناء الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود قد عقدوا (العزم) بوفود من التجار والمستثمرين السعوديين لنكون مشاركين مع اخوتنا في إعمار اليمن بناء وتشييدًا، ومصنعين لمنتجاتها الزراعية ومستكشفين لمعادنها ومصدرين لثرواتها السمكية.