هل خلقت الدساتير للدول أم للأقاليم والمقاطعات؟ إن ما اقره البرلمان الكردستاني في اربيل تحت عنوان " مشروع (دستور إقليم كردستان العراق) " يوم 24 يونيو 2009 يعدّ دستور دولة جديدة لم تعلن عن نفسها بعد، وهو دستور لا يوازي مشروع إقليم تابع للعراق..
وإذا ما اقّر طرح هذا الدستور للاستفتاء العام، وقبله الأكراد بلا أي تزوير أو أي تدخّل، فان معنى ذلك خروج إقليم عن جغرافية العراقيين كلهم.. وعلى الأكراد تحمّل مسؤوليتهم التاريخية والأمنية والسياسية والاقتصادية وسط هذه المنطقة.. ويعدّ هذا " المشروع " خطوة للانفصال.
فهل هذا هو ما يريده الشعب الكردي في العراق ؟ وهل تعد هذه الخطوة بمثابة منح حق تقرير المصير له في تأسيس وطن قومي كردي على التراب العراقي الذي يسعى البعض التخلي عنه ؟ وعليه، إن صدق المشرعّون، فقد انتفت الحاجة إلى الاتحادية والفيدرالية وبغداد المركزية، ولا يمكنهم أن يكونوا مسؤولين عراقيين في قلب بغداد! أو أنهم يتحدثون باسم العراق!
ثمة نقاط أساسية وردت في دستور كردستان، أود مناقشتها، كي يطّلع عليها كل الشعب الكردي:
إن ما ورد في ديباجة الدستور من نقد صارخ لكل الأنظمة السياسية التي حكمت العراق منذ تأسيسه، يعد تجنيا بحق قادة ومسؤولين وطنيين كانوا من نعم الناس في تعاملهم مع الأكراد الذين اشترك بعضهم في بناء العراق وإدارته وجيشه ومؤسساته وأحزابه ونقاباته، وإذا تجّنوا على حكومات سابقة كانوا يوالونها يوما ويتمردون عليها أياما، فلماذا تناسوا منح الشعب العراقي أي سمة ايجابية، بذكر أمجاده ونضالاته المشتركة معهم أنفسهم.. فضلا عن مواقف الشعب بكل أطيافه وسكانه وأعراقه من إخوتهم الأكراد.. ومدى الاختلاط معهم. الم يدفع كل العراقيين الأثمان الباهظة في الحروب والنكبات والكوارث والحصارات والغزوات ليس في القرن العشرين وحده، بل على امتداد مئات السنين ؟؟
يمكن من حق المواطنين الأكراد أن يتواجدوا على ارض هذا الذي يسمى إقليما....!
ولكن أن يقرّروا حدودا جغرافية للإقليم...!!، ويتدخلوا في شؤون غير محافظاتهم : اربيل ودهوك والسليمانية رغم تحفظنا على اربيل لكونها لحد عام 1962 كانت نسبة التركمان هي الغالبة، من خلال النفوذ والسيطرة غير الشرعية، وخصوصا على كل محافظة كركوك بكاملها، فضلا عن 13 قضاء وناحية من محافظات نينوى ودي إلى وواسط، أي عدم الاعتراف بالإدارة الحكومية لبغداد على هذه المناطق التي لم تزل شرعيتها قائمة
وإذا كانوا قد أكدوا على عدم جواز تأسيس إقليم جديد داخل حدود كردستان، فهم بذلك يريدون السيطرة على سكان سهل نينوى من المسيحيين العراقيين وعدم تشكيل إدارة ذاتية لهم، علما بأن الأكراد يسيطرون ألان على كل سهل نينوى باقضيته ونواحيه وبلداته وكلها تابعة إلى محافظة نينوى، بل وان الدستور اقر أن قضاء " تلكيف " كردي...!، علما بأن سهل نينوى يقطنه المسيحيون الكلدان والاثوريين مع انتشار اليزيديين في مناطق منه.
أما توصيف الدستور لشعب كردستان الذي يتكون، كما قال، من الأكراد والقوميات الأخرى: تركمان، كلدان، آشوريين، أرمن، وعرب.. فلقد أثار حفيظة العراقيين، إذ يشرّع لأول مرة دستوريا صفة (شعب) ويجبر الناس على إن يكونوا جزءا منه بالقوة، فهذا خطأ جسيم استدعى تدخل نيافة الكاردينال ايمانوئيل دلي كي يوّجه رسالته لأول مرة إلى المسؤولين الأكراد وهو ينتقد مثل هذا التشريع الذي يضم الكلدان لشعب كردستان بالقوة، ويعتبرهم من مواطني الإقليم، وكأنهم غير عراقيين.
5. ما معنى انه في حالة تنازع قوانين كردستان مع قوانين اتحادية، يؤخذ بقوانين كردستان ؟ إن الأكراد يقولون جهارا ويعلنون ذلك بكل صراحة: " لشعب كردستان العراق" الحقّ في تقرير مصيرهِ بنفسهِ... ويحقّ له إعادة النظر في إختيار وتحديد مستقبلهِ ومركزهِ السياسي في أكثر من حالة إنتقائية".. وهناك نصوص أُخرى تنحو أيضا بإتجاه الانفصال كليّا عن العراق، ولكن هناك إلحاحا كرديا على موارد العراق والمناصب في الحكومة العراقية الإتحادية، ولكن من دون أي تدخل من قبل الحكومة الاتحادية....! في أُمور الإقليم...!، حتى على مستوى الثروات الطبيعية والمياه والمعادن، والتي اعتبرها مشروع الدستور " ثروة قومية خاصة بالإقليم " من دون العراقيين.
إن مثل هذا التوصيف يعد خطوة غير مسبوقة، ليس في تاريخ العراق، بل في جميع فيدراليات العالم، إذ لا يمكن إن يتجرأ إقليم كي يمنح لنفسه صفة (الدولة) وهو يسمّي نفسه إقليما! إقليم له حكومةً تتألف من وزارات ومؤسسات وقوات مسلّحة (بيشمركة) منتظمة وأجهزة (اسايش) أمنية خاصة بها، وسياسة لا يتدخل بشأنها المركز أبدا، في حين يشارك الأكراد في الحكومة الاتحادية بمناصب غاية في الحساسية والأهمية، إن أهم أسباب إثارة النقمة العراقية عليهم إنهم يمتلكون الإقليم وذلك من حقهم إن كانوا مشاركين، ولكنهم يستحوذون على العراق وذلك ليس من حقهم إن كانوا شبه مستقلين!
أتمنى على كل الإخوة الأكراد مسؤولين ومواطنين إن يعيدوا النظر في دستورهم، إذ إنهم بذلك يرتكبون خطأ جسيما بحقهم وحق العراق.. إن محاولة فرضهم الأمر الواقع ستنعكس سلبا على مستقبل العراق كله من شماله حتى جنوبه.. إن الشعب الكردي بحاجة ماسة إلى العراق حاضنة له.. وسيسجل التاريخ يوما إن هناك من توقع الكارثة،! وان تاريخا عراقيا مشتركا عاش بين العراقيين آلاف السنين.. لا أود أن ينقطع أبدا حتى لو كان لفسحة من الزمن.
*كاتب وباحث عراقي