اعلم أعزك الله أن النظام الذي لا يستطيع أن يمد سلطته لحماية مواطنيه المحاصرين تحت فوهات مدافع فئة متمردة أغلقت الطرقات واحتلت مباني الدولة من إدارية وتعليمية وثقافية بل وعسكرية وتعتقل أفرادا من الجيش النظامي..
وترتهن شيوخ القبائل وأفراد القبائل، وتهزم أعتى وأخص قوات ذلك النظام، هو نظام قد وهن العظم منه وأشتعل رأسه شيبا وألم به البركنسون والخرف. وهو نظام أصابه الداء، وتسرطن داخله كل جراثيم الهلاك والفناء، واشتبهت عليه الأمور، التي وضع نفسه فيها ولا أحد غيره!
والمشكلة كلها تنحصر في كلمات قليلة وبسيطة:
اغتيال العقل في اليمن.
وينضوي تحت هذا العنوان الرئيس العديد من مسلزمات البقاء الإنساني في اليمن. وثق جيدا أنه إذا اغتيل العقل أو قل نوم أو خدر يضيع الحوار الهادئ والمتزن والوقور، وتلغى الحريات بمعناها الأوسع والشامل والإنساني.
وما حرية الصحافة وحرية التعبير والقول، والحريات المدنية الأخرى إلا شجون للشجرة الكبيرة التي أمست غريبة والتي نسميها الحرية بمعناها الرائع الذي يسع الناس باختلاف مشاربهم الفكرية، واختلاف أطيافهم التي تحتضن كل حزب، وتباين منابعهم الإنسانية، وهي الشجرة التي من العقل أن يستجم في ظلالها وأفيائها من أراد أن يفعل، دون محاباة ورشوة وتملق ووساطة وتفضيل لقريب وتفضل لغريب، وغمز ولمز وقسر وقهر ونهب وسلب لمجالس الناس أي ناس الذين احتبوا فيها لحق لهم في الاستظلال تحت الشجرة!
اختلط الأمر على الرئيس بين شيخ القبيلة والرئيس الذي استأجره الشعب وبايعه الناس على الحفاظ أساسا على حقهم في ممارسة الحرية في حياتهم، وعلى ممارسة حياتهم بحرية، تضبطه كحاكم استأجره الناس وتضبطهم السماء..
واختلط الأمر عليه حين تعود على الرئاسة فاستساغ اللبن والعسل واستكره الفطام، ونسي أنه كبر وشاخ عن ذلك، فتكبر وتجبر وكبر الأمر عليه حين رأى على الحقيقة صدق ذلك، فغلظ عقله واحتبلت الأوهام في تصوراته للأشياء حوله فصورت له استحالة قبول الحقيقة على نفسه ذلك المنتهى.
ساق مخرجات التبريرات أمام نفسه بعقلية شيخ القبيلة الذي يكون شيخا مدى حياته ولا تنتهي مشيخته إلا بمماته وتوريث ولده تمشيا مع تفسيرات العقلية القبلية، واختلط الأمر عليه أنه يعيش في عصر تختلف معاييره ومقاييسه عن انتماءات الفكر القبلي والعشائري، وأن نظرية الزمن تفترض أن القطار يسير إلى محطة النهاية ولن يوقف القطار أو الفكر التوريثي القبلي. وهل يستطيع هو أو غيره أن يسقط نظرية الزمن، أو يوقف سير القطار إلى محطة الصيانة في النهاية؟
وظل على امتداد حكمه من 1978 وإلى الآن يوازن الأمور على أساس حفظ التوازنات بين مشائخ القبائل لكسر عصيهم من جانب، وبين القبائل من جانب آخر لإضعافها بتغذية وإشباع السلبيات الدخيلة على أعراف القبيلة في تاريخنا الممتد في ساحاته مناهزا الثلاثة ألف سنة وزيادة. وسلك مسلكا جد خطير وشائك عندما أوهم نفسه وأوهمه من حوله أنه بذلك يضمن الذمم بالولاء وهو لا يعلم شاء أم أبى أنه فقط يستأجر الذمم لا يشريها؛ والاستئجار عقد منفعة ينتهي بانتهاء مدة العقد!
وحين يحاول المؤرخ أن يجتهد في دراسة الشورى أو الديمقراطية في التاريخ فإنه لا يغفل البتة عن الإشارة إلى أن أقدم مؤسسة ديمقراطية في تاريخ مسيرة الإنسان على ألأرض وجدت بكل إرهاصاتها في (القبيلة). وقد تحدث في ذلك كثير من المصادر وعلى رأس القائمة الموسوعة البريطانية. ولكن الأمر اشتبه عليه، فاعتقد أن تلك المؤسسة القبلية كتاريخ يمكن أن تنسحب إلى واقع القرن الحادي والعشري؛ فوقع ما وقع من إشكالية الأزمات التي تستغرقنا محاولين إنقاذ ما يمكن إنقاذه وتغرقنا جميعا. هو رجل لا يريد حل الأزمات بل إدارة الأزمات؛ لأن إدارته لها يطيل رحلة العسل واللبن. ولذلك تراه ينتقل من مربع لآخر بين هدنة هنا وحرب هناك !
وما سمعناه مؤخرا عن التعبيرات والتوصيفات الجديدة بين الناس وفي الصحافة المحلية والعربية والدولية، يتفصد له الجبين خجلا، حين نسمع من سيطرة الحوثيين على نصف شمال الشمال إن صح التعبير والتوصيف!
السؤال المشروع أن نطرحه هو... من هو الدولة ومن هو المتمرد؟
وإذا لم يتم تحريك الشارع ويتحرك الشعب في كل اليمن بمظاهرات سلمية وإضرابات عن الأعمال فأني على شبه يقين أن هذا النظام لن يوصلنا إلى محطة الصيانة بل إلى "خزيمة"!
ولا عزاء للشعب المسكين الراقد.
من شهادات الشيخ المهندس
عبدالكريم عبدالله عبدالوهاب نعمان