آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

كيف جلس صبي على 90 ألف وثيقة؟

رغم كثرة التسريبات التي منيت بها أسرار الحكومة الأميركية فلم يحدث مثل هذا السيل الهائل من الأسرار التي فضحت مؤخرا، والنظام الأميركي يعاني أصلا من كثرة الثقوب القانونية والمنافسة الحزبية التي تشجع على الاعتراض والنقل والفضح المتعمد. ورغم كثرة ما انفضح في الماضي بسبب سرقة الحقائب، ونسيان الملفات في المطاعم، وأقراص الكومبيوتر في سيارات التاكسي، فكل ذلك لم يرق إلى فضح أرشيف كامل من معلومات عسكرية وأمنية هائلة كما حدث هذه المرة.

تسعون ألف وثيقة سرية كلفت الأعداء ما لا يزيد على دولار واحد لإنزالها عبر الكومبيوتر، وأصبحت الآن تحت الفحص الدقيق لمئات الموظفين المختصين في إيران وباكستان و«القاعدة» وطالبان وروسيا وكل من عنده اهتمام بالحرب أو شيء من الفضول.

والمفاجأة الأكبر أن المتهم بتسريب جبل الوثائق هو شاب عسكري صغير في الثانية والعشرين من عمره يعمل محلل معلومات في الجيش الأميركي. فكيف صار شاب بتجربة محدودة محللا لبيانات ومعلومات استخبارية معقدة محتوياتها سياسيا واجتماعيا وعسكريا؟ بل وكيف صارت مثل هذه الكمية الهائلة والحساسة من المعلومات في يده؟ ويقال إن سبب جرأته على فضح المعلومات السرية أنه تأثر بآراء الخصوم التي يفترض أنه يحللها ويعالجها، فانقلب السحر على الساحر.

نحن نعلم أن أهمية المعلومات مسألة وقتية محدودة، وربما لم تعد مهمة كما أوحى بذلك أكثر من مصدر أميركي حاول أن يخفف من خطورة المشكلة، لكن يحيرنا سؤالان، الأول حول الكفاءة؛ عندما يعهد لشاب جاهل تحليل بيانات معقدة في حرب خطيرة. والثاني حول السرية في حرب تعتمد كثيرا عليها خصوصا أن الأطراف الأخرى ميليشيات تعمل تحت الأرض، لا جيوش نظامية على أرض مكشوفة. فإذا تمكن شخص واحد بسهولة من إرسال تسعين ألف وثيقة إلى موقع إلكتروني مفتوح فهل هناك احتمال أن آخرين أرسلوا آلاف الوثائق أيضا إلى أشخاص مجهولين؟

أهمية المعلومات ليست فقط الوثائق بل سلسلة من المعالجة من حيث المعرفة والتحليل السليم الذي يؤدي إلى قرارات صائبة أو خاطئة. فالأميركيون بعد احتلالهم بغداد سارعوا إلى جمع أكبر كمية ممكنة من الملفات الأمنية والسياسية والإدارية للحكومة المنهارة حينها. وقد شحنوا آلاف الصناديق المملوءة بهذا الكنز المعلوماتي إلى قاعدتهم في العيديد، لكن تركوها جالسة في صناديقها هناك لثلاث سنوات لم يبال أحد بمراجعتها، لأنها تحتاج إلى ترجمة وفهرسة وقراءة وتحليل وتلخيص واستنتاج ثم قرارات. تلك الصناديق المكتنزة كانت تحوي في الحقيقة أسرار الحرب اللاحقة، فيها كانت كل المعلومات عن العراقيين والأجهزة الأمنية والعسكرية التي صارت جزءا من الحرب. بسبب الجهل بقيمة المعلومات صار الأميركيون مثل العميان لا يعرفون من وماذا وكيف، في حين أنهم ورثوا العراق من عهد صدام، الذي كان نظامه قد سجل ووثق بشكل لا يوازيه بلد آخر في العالم، كل ما يحدث ومن يتنفس.

زر الذهاب إلى الأعلى