آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

صحة الرئيس المصري

مع تضخم دور الرئيس واتساع صلاحياته وتركز السلطات في يديه، أصبح الحديث عن صحته أمراً في غاية الخطورة والحيوية... فقد غدت تلك الصحة بمنزلة «صحة وطن».

إذا كنت من هؤلاء الذين يتابعون ما ينشر عن مصر في وسائل الإعلام العالمية بانتظام، فلا شك أنك تعرف أن هذا البلد العريق، الذي حفر مكانة فريدة في تاريخ العالم بحروف من نور، والذي يضج بتفاعلات 80 مليون مواطن، ويحمل تطلعاتهم وآمالهم، لم يعد يظهر في الأخبار، في الفترة الأخيرة، إلا عندما يأتي الحديث عن صحة شخص فرد واحد.

تنخرط مصر في نزاع خطر على حقها في مياه النيل، وتتحول إلى ورشة لمداولات دبلوماسية متلاحقة لحسم الخطوة المقبلة في مشروع تسوية القضية الفلسطينية، وتشهد حركة بناء وتوسع نشطة، وتئن تحت وطأة فساد ثقيل، وتغلي بالحوادث والصراعات على الصعد كلها، لكن العالم لم يعد يراها غالباً سوى من ثقب شديد الضيق، ولا يعرف لها قصصاً سوى ما يتعلق بصحة الرئيس.

منذ خضع الرئيس مبارك لعملية جراحية لاستئصال الحوصلة المرارية، في أحد المستشفيات الألمانية، في شهر مارس الماضي، والإعلام العالمي، ومن خلفه مراكز البحوث وأجهزة الاستخبارات والحكومات، لا ينظر إلى مصر إلا من باب سؤال ضيق متكرر عن صحة الرئيس، وعن قدرته على استكمال فترة ولايته الراهنة، واحتمال ترشحه لولاية جديدة، أو اسم من سيخلفه.

تكتب الصحف العالمية كل يوم قصصاً عن الحالة الصحية للرئيس مبارك، وتكرر دوماً عبارات محفوظة عن 'ثلاثين عاماً في الحكم'، و'82 عاماً من العمر'، و'متاعب صحية أثرت في النشاط الرئاسي'، وأخيراً تختم تقاريرها بالحديث عن 'الغموض والانسداد والسيناريوهات المرعبة'.

لم يعد الأمر يتعلق بثلاث أو أربع صحف ومحطات فضائية عالمية، تبدي اهتماماً بالشأن المصري على خلفية اهتمامها بالشؤون الدولية، التي تناسب طبيعة جمهورها المتوزع على قارات العالم كلها، ولكن وكالات الأنباء المحلية في بلدان بعيدة، والصحف الهامشية في الدول محدودة الجغرافيا والأثر، والقنوات التلفزيونية التي تخدم سكان مناطق محددة بعينها، والمواقع الإلكترونية الإخبارية، ومواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات، كلها أصبحت تنظر إلى مصر، وتبث وتنشر قصصاً عنها، لكن أغلبها يتعلق بصحة الرئيس.

كبلد مركزي عريق ممتد في الزمان، يخرقه نهر يحمل الماء والحياة، تظل القدرة على ضبط الري وتنظيمه عنواناً للنظام العام وشرطاً رئيساً للاستمرار، ويظل تركز السلطة في يد قوية وقادرة أمراً حيوياً. ولذلك كانت مصر عنواناً رئيساً وأنموذجاً واضحاً على تركز السلطة في يد الحاكم على مر العصور، قبل أن تأتي ثورة 23 يوليو 1952، وزعيمها الكاريزمي جمال عبدالناصر، فتمنح من يشغل منصب الرئيس صلاحيات هائلة لا يحدها حد، ولا يؤطرها قيد، سواء بنص الدستور، أو بتأويله وما يترتب عليه من قوانين ولوائح، أو بالأمر الواقع.

ومع تضخم دور الرئيس واتساع صلاحياته وتركز السلطات في يديه، أصبح الحديث عن صحته أمراً في غاية الخطورة والحيوية... فقد غدت تلك الصحة بمنزلة 'صحة وطن'.

يبقى الرئيس مبارك، وسيظل، شخصية وطنية ذات اعتبار في تاريخ مصر والعالم العربي، وقد برهن على امتلاكه مناقب، على الصعيدين العام والخاص، كما أعطى دلائل على البراعة والقدرة على الإنجاز، وهو، كبشر، حتماً سيمضي إلى حيث سنمضي جميعاً، وهو، كقائد، حتماً سيهتم بما سيكتبه التاريخ عنه.

والواقع أن التاريخ، الذي يحفل عادة بالنقلات الحيوية، والتغيرات المفصلية، والتحولات الجسام، لن ينصف الرئيس مبارك كثيراً؛ إذ لن يجد تغيراً فارقاً محورياً أحدثه في مسار البلد والإقليم والعالم، يمكن تكثيفه في سطرين، بما يخلق الانطباع ويلقي بالأثر في نفس من يقرأ ويدرس ويعاين ويقارن ويقيس.

فقط سيكتب التاريخ كلاماً هادئاً منضبطاً خاملاً عن 'ثلاثة عقود من استقرار وهدوء، والاستغناء عن المخاطرة اتقاء للفشل، وزيادة في حجم الفساد، وقوام ظل متماسكاً من دون قفزات واضحة إلى الأمام، وتقدم ملموس لم يُرشّد العدل توزيع عوائده، وتراجع في القيم، وغموض واضطراب هيمنا على الأيام الأخيرة'.

ستظل الفرصة قائمة أمام الرئيس مبارك ليسجل هذا التحول الفارق، الذي يمكن أن يعيد صياغة السطرين المكتوبين عنه في ذلك السجل الكبير، إذا حرر الدستور من المواد المسيئة، متكئاً على دعم الجماعة الوطنية؛ ليمنحها فرصة إجراء انتخابات برلمانية تنافسية حقيقية، ويتيح لكل مؤهل وقادر وراغب في التنافس على المنصب الرئاسي أن يحظى بفرصة المحاولة، على أن تحدد الصناديق مصيره، وعلى أن تصحح الديمقراطية خياراتها.

فإذا ظل هذا الخيار عسير التحقق، وشديد الإفراط في التفاؤل، وواسع التحليق في الخيال، فليس أدنى من إدارة أكثر التزاماً بالشفافية، وأعمق نظراً في تداعيات الأحداث، لما يتعلق بالأنباء المتواترة عن صحة الرئيس ولياقته.

يبدو الرد العملي المتكرر على الأنباء التي تشكك في صحة مبارك ذا وجاهة واعتبار، لكنه أبداً لم يقطع التكهنات ولم يحسم الشكوك، أما البيانات والتصريحات السياسية التي سعت إلى لجم تلك التقارير والشائعات، فقد صدرت عن أولئك الذين لم يحسنوا بناء صورتهم، ولم يكرسوا لدى الآخرين الكثير من المصداقية فيما يقولون.

لذلك، سيبقى الرئيس مبارك مطالباً، ليس بالحديث عن وضعه الصحي لطمأنة الرأي العام، في مصر وخارجها، وحسم القصص المتداولة في الإعلام العالمي، ولكن بالكشف عن الترتيبات المقبلة فيما يتعلق بالولاية الرئاسية التي تبدأ في نوفمبر من العام المقبل، وما إذا كان سيترشح عن الحزب الوطني الحاكم، أو أن الحزب سيرشح شخصاً آخر.

وإلى أن يحصل هذا، فإن مصر ستوجد كل يوم في الإعلام العالمي كقصة في 'باب المرض'، وكما ستغري الإعلاميين والمحللين بالخوض في 'صحة الرئيس'، فستغري الحكومات والأجهزة والجماعات المغرضة بالخوض في 'صحة البلد'.

زر الذهاب إلى الأعلى