[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

تأملات في الأسباب الاقتصادية والاجتماعية للأزمة في الجنوب اليمني (2)

تبدو الأزمة الحاصلة في الجنوب اليمني خلال السنوات الأربع الماضية لكثير من المراقبين وكأنها أزمة سياسية تهدف إلى فصل الجنوب عن الشمال تارة بحجة أن الجنوب ليس يمنيا وتارة بحجة استعادة الدولة التي كانت قائمة حتى عام 1990م..

وتارة بحجة أن اتفاقية الوحدة قد انتهت في حرب صيف 1994م، وهي جميعا وغيرها من الحجج لم تلق قبولا لا من الداخل ولا من المجتمع الدولي الذي يعلم جيدا أن اليمنيين في الشمال والجنوب شعب واحد عبر التاريخ، والذي يعلم كذلك أن اتفاقية الوحدة عام 1990 هي اتفاقية اندماجية ذات طابع دولي اعترفت بموجبها كل دول العالم بالدولة اليمنية الجديدة تماما، كما حدث مع فيتنام وألمانيا، وقد ناقشنا في المقال السابق حالة الاندماج الاجتماعي التي عاشها اليمنيون حتى في عهود التجزئة، والتي تعززت باستعادة وحدة الأرض والنظام قبل نحو 20 عاما.

قد لا يدرك كثير من المراقبين عن بعد حجم المصالح الاقتصادية والروابط الاجتماعية التي ترسخت بين أبناء اليمن الواحد خلال الأعوام 20 الماضية، ذلك أن تطورات العصر الحديثة من تقنيات ووسائل نقل واتصال وطرق سارعت بشكل غير مسبوق في تعزيز تلك الروابط والمصالح بأضعاف أضعاف ما كان يحدث قبل جلاء الاحتلال البريطاني عام 1967م، فالطرق الحديثة ووسائل الاتصال والنقل يسرت التواصل بين الداخل ومع الخارج على السواء وبالتالي جرى بناء شبكة مصالح اقتصادية يصعب تفكيكها، كما سهلت اندماج العائلات التي كانت منقطعة عن بعضها بعضا بسبب التشطير من ناحية، وسهلت عمليات اندماج واسعة بالمصاهرة والانتقال للاستقرار بين أبناء المحافظات الشمالية والجنوبية من ناحية أخرى بما يجعل من يشاهد الواقع اليوم يدرك استحالة حدوث الانفصال مجددا وأنه لو حدث فسيؤدي إلى كارثة، بل كوارث بكل المقاييس وعلى جميع الأصعدة...

ويكفي هنا الإشارة إلى مشروع حيوي وضخم تنفذه شركة توتال الفرنسية متعلق بتصدير الغاز المسال والذي سيبدأ قبل نهاية هذا العام، فمصدر الغاز ينبع من محافظة مأرب الشمالية بينما سيجري تصديره من ميناء بلحاف الذي يقع على البحر العربي في محافظة شبوه الجنوبية، فهل يمكن اعتبار مثل هذا المشروع ذي الطابع الاستراتيجي لبلد فقير كاليمن يصب في مصلحة تعزيز الوحدة الوطنية ويعززها ويبعد أحلام الانفصال والتجزئة التي لا تمت للواقع بصلة؟!

إن من يريد معرفة طبيعة الأزمة القائمة في الجنوب اليمني لا بد أن يعود بالتاريخ إلى السنوات التي أعقبت استقلاله، وقيام النظام الماركسي، كما أن عليه أن يستحضر الأزمات الناجمة عن الانتقال من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق التي عاشتها في أوائل تسعينيات القرن الماضي جميع بلدان المنظومة الاشتراكية عقب انهيار هذه المنظومة وفي المقدمة روسيا وكم احتاجت من أعوام طويلة لتجاوز كثير من مخلفاتها ومشكلاتها العويصة...

ففي 30 نوفمبر 1967م تاريخ جلاء الاحتلال البريطاني تسلمت الجبهة القومية ذات الميول اليسارية الحكم في جنوب اليمن، وأعلنت قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية التي تحولت فيما بعد إلى (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) وخلال العامين اللذين تولى فيهما الرئيس الراحل قحطان الشعبي المعروف باعتداله قيادة الدولة الوليدة جرت محاولات عدة للحفاظ على صورة إيجابية عنها وبناء علاقات متوازنة مع جيرانها إلا أن الجناح الماركسي المتطرف في الجبهة انقلب على الرئيس قحطان في عام 1969م وأودعه السجن الذي لم يخرج منه إلا عام 1982م لدفنه بعد وفاته، وسرعان ما تم الإعلان عن قرارات تأميم في بلد لا يمتلك بنية صناعية أو زراعية تذكر حتى قيل إن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر – صاحب قرارات التأميم الشهيرة في عام 1961م – سخر مما يجري عندما نما إلى علمه أن التأميم طال البيوت وقوارب الصيد ودكاكين التجارة وأشياء بسيطة من هذا القبيل، فقد كان هؤلاء القادة في سن صغيرة لا تزيد على 30 عاما، كما أن منهم من تأثر بالتجربة الماوية وآخرون تأثروا بالتجربة اللينينية...

وعلى الفور غادر معظم أصحاب رؤوس الأموال الجنوب للنجاة بما تبقى من ثرواتهم إما إلى شمال اليمن أو إلى المملكة العربية السعودية ودول خليجية أخرى، فيما كان ميناء عدن الذي كان أكبر ثالث ميناء دولي قد دخل في حالة ركود تام انتهت بحالة موت سريري حتى استعادة الوحدة عام 1990م... وهكذا انتقل مجتمع مدينة عدن – تحديدا – من مجتمع منتج يعمل في ظل اقتصاد حر إلى مجتمع راكد يؤدي الوظائف والمهام المرسومة من الدولة وينتظر رواتبه ومخصصاته الغذائية نهاية كل شهر، والحال هو نفسه مع باقي المحافظات التي كانت تعاني حالة تخلف شديد في ظل حكم السلاطين الذين قضت عليهم الجبهة القومية ونجحت في توحيد 23 سلطنة تحت ظل نظامها الجمهوري وهذه بلا شك كانت أهم إنجازاتها لأنها بذلك عبدت الطريق نحو استعادة الوحدة اليمنية.

كما هي طبيعة النظم الاشتراكية فقد جرى تدمير روح الإبداع والمبادرة الذاتية، وطوال أكثر من 20 عاما هيمنت الدولة على كل شيء وحاولت إعادة صياغة الإنسان اليمني في الجنوب على النمط الاشتراكي وحاربت كل مظاهر التدين وسعت لفرض قيم تحررية فيما يخص المرأة وبالمقابل قمعت كل رأي آخر حتى لو كان يساريا كما حدث للناصريين وغيرهم أو كما حدث للبعثيين الذين وجدوا أنفسهم مضطرين للاندماج في إطار الحزب الاشتراكي اليمني عند تأسيسه عام 1978م كبديل للجبهة القومية...

وهكذا أصبحت الدولة هي كل شيء فهي التي تقيم المصانع وهي التي تحدد الوظائف وهي التي تقوم بكل الواجبات، فجاء الجنوب عشية الوحدة اليمنية بما يقارب من 400 ألف موظف مدني وعسكري رغم أن عدد السكان لم يكن يزيد على مليوني نسمة فيما جاء الشمال بنحو 60 ألف موظف مدني وعسكري من بين عدد سكان يقارب 12 مليون نسمة.. وللحديث بقية (إن شاءالله)..

زر الذهاب إلى الأعلى