في شهر يونيو الماضي وقع كل من رئيسي اريتريا وجيبوتي اتفاقية تفويض عهدا بموجبها إلى أمير قطر بحل الخلاف الحدودي بين بلديهما بعد أن خاض الجانبان معركة دامية أدت إلى سيطرة القوات الاريترية على المنطقة الحدودية المتنازع عليها والتي تسمى«رأس دميرة».
وبموجب هذا التفويض سيقوم أمير قطر بتشكيل لجنة لترسيم الحدود بين البلدين وفق الأصول والقواعد المتعارف عليها دولياً، على أن تقوم كل من اريتريا وجيبوتي بتزويد اللجنة بكافة المعلومات والوثائق والخرائط التي تساعدها في عملها، وقد رحب مجلس الأمن بالوساطة القطرية ودعمه الكامل لها، وهو ما عده المراقبون تفويضاً دولياً لقطر وأن الحكم الذي ستتوصل إليه قطر سيتمتع بمشروعية دولية.
«رأس دميرة» كما أعرفه على الواقع تل صغير عبارة عن رأس صخري بطول كيلومتر وعرض 500 متر تقريباً يقع بين حدود البلدين ويتوغل داخل العمق البري الجيبوتي وتكمن أهميته الاستراتيجية في هيمنته على جزيرة «دميرة» التي تخضع لإريتريا حاليا، فضلاً عن إطلاله على باب المندب وهيمنته المباشرة على جزيرة ميون اليمنية، إضافةً إلى قربه من مثلث الحدود بين الدول الثلاث (اريتريا, جيبوتي,إثيوبيا)، والذي يعرف بمثلث العفر (الدناكل) الذين يسكنون هذه المنطقة من شعوب الدول الثلاث ويشكلون هذا المثلث المتداخل لشعب العفر.
* اتهامات متبادلة
_ هناك من ينظر إلى هذا النزاع باعتباره نزاعاً حدودياً على «رأس دميرة» الاستراتيجي. بينما نظر إليه البعض بأنه يأتي في إطار السباق بين إريتريا وإثيوبيا للسيطرة على منطقة«دميرة» بكاملها. أما جيبوتي فقد نسبت الأمر إلى مؤامرة اسرائيلية تهدف للسيطرة على باب المندب بواسطة إريتريا، أما الحكومة الإريترية فقد ظلت صامتة إلى أن أعلنت مؤخراً في اجتماع مجلس الأمن بأن الأزمة اختلقتها إثيوبيا بمساندة من الإدارة الأمريكية وتولت جيبوتي تنفيذ المخطط دون أن يكون لها مصلحة في ذلك، ووصفت اريتريا جارتها جيبوتي بأنها حصان طروادة لتنفيذ المخططات الأثيوبية والأمريكية.
- إثيوبيا من جهتها نفت الاتهامات الاريترية, إلا أن الحكومة الاريترية عادت لتؤكد هذه الاتهامات، وقالت بأن إثيوبيا قامت قبل شهر من اندلاع الحرب الاريترية الجيبوتية بإنشاء معسكر مزود بكافة الأسلحة الخفيفة والثقيلة في جبل موسى الواقع في المثلث العفري الحدودي لكل من إثيوبيا وجيبوتي واريتريا الذي تقع فيه منطقة «رأس دميرة» وذلك بهدف الضغط على اريتريا للحصول على منفذ بحري سواءً على ساحل «عصب» أو في «رأس دميرة» أو أي منطقة على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وباب المندب، وهو ما يعني بأن النزاع بين جيبوتي واريتريا وفقاً لهذه الرواية هو نتاج للنزاع الإريتري الأثيوبي وأن خطأ جيبوتي الوحيد هو أنها انساقت مع إثيوبيا.
- بصرف النظر عن الاتهامات الاريترية لإثيوبيا وعن النفي الأثيوبي لهذه الاتهامات فإن إثيوبيا في حقيقة أمرها دولة كبيرة تحتضن أكثر من سبعين مليون نسمة، إلا أنها حبيسة عن البحر وليس لها ميناء ولا يعقل أن تظل على هذا الحال بصرف النظر عن شيء "سيادة" وهذا ما يؤكده منطق العقل والواقع.
* أهمية «رأس دميرة» بالنظر إلى أهمية موقع الدولتين
الأمر الواضح في هذا الأمر بأن اريتريا في الوقت الحالي لا تنظر إلى هذا التل الصغير(رأس دميرة) من زاوية أهميته في رسم حدودها البرية مع جيبوتي، ولكنها تنظر إليه باعتباره المحدد لمصير جزيرة «دميرة» التي تقع حالياً ضمن سيادة إريتريا على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وكلاهما أي(الرأس والجزيرة) يحددان علاقة اريتريا بمنطقة باب المندب، وهي العلاقة التي تحدد مصير الموقع الاستراتيجي لدولة اريتريا والذي على أساسه يتحدد المستقبل السياسي للنظام الاريتري الذي ظل يعمل منذ استقلال بلاده عن إثيوبيا على تقديم نفسه للعالم من نافذة الأهمية الإستراتيجية لهذا الموقع، فضلاً عن تسويقه للقوى العالمية ووضعه تحت خدمة الدوائر الدولية بمقابل اعتماده كشرطي على منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر كوريث لعدوته إثيوبيا التي استقل عنها، ولهذا خشيت اريتريا أن تصبح منطقة «رأس دميرة» خارج ترتيباتها الأمنية أو أنها تؤول ضمن ترتيبات دولية مستقبلية إلى عدوتها إثيوبيا.
أما بالنسبة لجيبوتي فالمعلوم عنها بأنها تتمتع بأهم موقع استراتيجي من بين دول المنطقة، كونها تطل على الثلاث المناطق البحرية الاستراتيجية (باب المندب, وخليج عدن, والبحر الأحمر) إضافة إلى أنها تقابل اليمن في وسط الضفة الأفريقية المقابلة للضفة الآسيوية والتي تمثل ركائز الدائرة المحورية التي تغطي جانبي البحر الأحمر، ولهذه الخصوصية الاستراتجية عملت أمريكا مؤخراً على جعلها قاعدة أمريكية إقليمية رئيسية في القرن الإفريقي واعتمدتها كمركز لدائرة عملياتية تغطي جانبي البحر الأحمر الأفريقي منه والآسيوي، وهو ما جعل جيبوتي تنظر إلى الأهمية الاستراتيجية لـ«رأس دميرة» بحساسية مفرطة نظراً لما يمثله هذا الرأس من أهمية في تعزيز مركزها عند نقطة التحكم بالمدخل الجنوبي للبحر الأحمر والتي تعد إحدى الركائز المحورية للدائرة العملياتية التي تغطي جانبي البحر الأحمر انطلاقاً من المركز جيبوتي.
*حسابات أمريكية مختلفة عن حسابات البلدين
رغم وجود هذه المميزات الاستراتيجية بالنسبة لموقع جيبوتي، ورغم رغبة جيبوتي الأكيدة في أن تظل مركزاً دولياً لدائرة عملياتية تغطي جانبي البحر الأحمر، إلا أن الولايات المتحدة كما يبدو لا تزال تشك بقدرات جيبوتي لأن تصبح مركزاً دائرياً لاستيعاب تحالف دولي كبير يقع على مسؤوليته مواجهة الأخطار في المنطقة ومراقبة جانبي البحر الأحمر، فضلاً عن الشكوك الأمريكية بهوية جيبوتي كدولة عربية، إضافة إلى وقوعها في دائرة النفوذ الفرنسي، وغير ذلك من الأسباب التي تجعلها محل شك عند الأمريكان.
_ أما بالنسبة لاريتريا، وعلى الرغم من حرص النظام الاريتري على تسويق موقع بلاده للعالم وإبداء المزيد من الاستعدادات لتسخيره في خدمة القوى الدولية، إلا أن أمريكا -وكما هو واضح- لا تطمئن إلى النظام السياسي في إريتريا بحكم تهوره ومشاكسته لجيرانه في المنطقة وتحديداً إثيوبيا الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية.
*أمريكا تتجه نحو الحليف الإثيوبي
نتيجة لاهتزاز ثقة أمريكا بهاتين الدولتين ذات الموقعين الاستراتيجيين، اندفعت السياسة الأمريكية في اتجاه البحث عن قوّة إقليميّة قادرة ومؤهلة لأن تكون مركزاً دولياً لدائرة عملياتية تغطي جانبي البحر الأحمر.
وليس هنالك سوى إثيوبيا التي بمقدورها استيعاب المهام الدولية لهذا المركز، وذلك لأسباب تاريخيّة وأُخرى تتعلَّق بالقدرات العسكريّة, إضافةً إلى وجود أسباب ذات صلة بأجندة خفية تطالب بضرورة توسيع قاعدة الشراكة في هذه المنطقة بحيث تشمل إلى جانب منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر منطقة حوض النيل والبحيرات العظمى التي تمثل فيها إثيوبيا مرتكزاً أساسياً بحكم تحكمها بمنابع مياه النيل، فضلاً عن الحرص الذي تبديه هذا الأجندة بضرورة إدخال إثيوبيا كشريك غير عربي إلى جانب الوجود العربي الحالي في هذه المنطقة الهامة المطلة على البحر الأحمر, وغير ذلك من الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى ممارسة الضغوط المتكررة على دول المنطقة لإجبارها على منح إثيوبيا منفذاً بحرياً تطل من خلاله على المنطقة البحرية, إضافةً إلى منحها شريطاً ساحلياً سيادياً يضمن لها إنشاء قاعدة عسكرية بحرية بالشكل الذي يمكنها من الانخراط في التحالف الدولي، وهي مزودة بكافة عناصر الكفاءة والاقتدار خاصة وأن الولايات المتحدة قد وضعت اسم إثيوبيا على رأس الدول التي ستناط بها مهمة القيام بعملية إجراء المسح الدوري والمنتظم للسواحل المطلة على ضفتي البحر الآسيوية والإفريقية لضمان عدم تسلل أي من العناصر الإرهابية المنتمية إلى تنظيم القاعدة، وكذا المشاركة في عمليات بحرية مشتركة لمكافحة القرصنة، إضافة إلى القيام بمهمة تدريب الشرطة المحلية لدول المنطقة على الضفتين بالشكل الذي يؤهلها للقيام بأعمال لوجستية ذات صلة باستضافة العشرات من السفن البحرية في موانئ هذه المنطقة الهامة، وغير ذلك من المهام التي ستسند إلى إثيوبيا بمجرد حصولها على موقع ساحلي في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر أو باب المندب أو خليج عدن.
* مخاوف إريترية
اريتريا -ونتيجة لسوء علاقتها بالأمريكان- شعرت بالخوف والقلق من إدخال عدوتها إثيوبيا كشريك منافس لها في هذه المنطقة. بل إنها باتت مقتنعة تماماً بأن تحريك ملف الصراع في «رأس دميرة» هو تحريك دولي تقف وراءه أمريكا بهدف الضغط عليها من أجل منح إثيوبيا منفذاً بحرياً عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر ونقطة التحكم في باب المندب وبحيث تصبح إثيوبيا مركزاً لوجستياً للنفوذ الأمريكي كما هي جيبوتي مركزاً للنفوذ الفرنسي.
_ كل هذه المخاوف وغيرها دفعت اريتريا إلى تحريك جيشها باتجاه جيبوتي، حيث اجتاحت منطقة «دميرة» وسيطرت على «رأس دميرة» وظلت متمركزة فيه رافضة كل قرارات مجلس الأمن التي تطالبها بالانسحاب، وظلت على هذا الوضع حتى قبلت مؤخراً بالتحكيم القطري وسحبت قواتها من المنطقة المتنازع عليها بموجب طلب من قطر، ومن حينها انتقل ملف هذه القضية إلى دولة قطر للنظر فيه وإصدار الحكم المناسب وترسيم الحدود بين الدولتين بموجب التفويض لها من الطرفين المتنازعين.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما الذي يمكن لقطر أن تفعله إزاء هذه القضية ؟ وهل بمقدورها حل هذه المشكلة وترسيم الحدود بين البلدين؟ وما هو حجم التفويض الدولي الذي حصلت عليه؟
_ قبل الإجابة على هذه التساؤلات من المهم أن أشير بصورة خاطفة إلى طبيعة العلاقة بين دور قطر في حل المنازعات الإقليمية في المنطقة وبين التوجهات الدولية إزاء هذه المنازعات.
_ المعلوم في هذا الوضع أن قطر- في ظل سياسة الانفتاح الخارجي التي انتهجها الأمير حمد بن خليفة- قد وقّعت على العديد من البروتوكولات والاتفاقات الدولية مع الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، بموجبها قدمت قطر ولا تزال تقدم لهذه الدول المزيد من التعاون العسكري والأمني والاقتصادي، وهو ما عزز من مكانة قطر الدولية ومكنها من ممارسة بعض الأدوار في المنطقة في إطار استراتيجيتها الإقليمية الهادفة إلى تسوية المنازعات الإقليمية في المنطقة، سواء المنازعات الإقليمية بين دول المنطقة أو المنازعات الداخلية في إطار الدولة الواحدة.
* قطر كطليعة دولية متقدمة لاستكشاف أوضاع المنطقة
في المحصلة النهائية، وبالنظر إلى تجربة قطر في هذا المشوار، يمكن القول بأن قطر قد استطاعت بفضل مركزها الدولي الانخراط في كل المشاريع الدولية في المنطقة، وبالتالي تمكنت من فهم واستيعاب مجمل التوجهات الدولية المتصلة بقضايا النزاع في المنطقة بكامل تفاصيلها ومعلوماتها, وبذلك تكون قطر قد نجحت في تعزيز دورها وتكريس ثقلها الإقليمي في المنطقة، وفي الوقت نفسه تكون هذه الدول الصديقة لقطر والمتعاقدة معها قد تمكنت هي الأخرى بفضل التحرك القطري من اكتشاف حقيقة الأزمات الإقليمية بين دول المنطقة ومجمل قضايا الصراع الداخلي في كل دولة، فضلاً عن تمكنها من اكتشاف العناصر المكونة لهذه الأزمات، وكذا فهم العوامل المؤثرة فيها وخاصةً وأن الجهد القطري عادةً ما يصل إلى استخلاصات واضحة وجلية عن كل أزمة من الأزمات المنظورة.
* احتمالات الفعل القطري لحل الأزمة بين إريتريا وجيبوتي
على ضوء هذا التوصيف لطبيعة العلاقة بين المساعي القطرية لحل المنازعات وبين التوجهات الدولية إزاء هذه المنازعات نستطيع القول بأن المساعي القطرية الحالية لحل النزاع بين اريتريا وجيبوتي وإن تم النظر إليها باعتبارها مساعي قطرية مستقلة من حيث إجراءاتها إلا أنها تتمتع بمشروعية دولية مباشرة أو غير مباشرة قد تسهم بشكل أو بآخر في حسم نتائج هذه المساعي بما لا بتعارض مع الرؤية الدولية، وهذا الأمر واضح من موقف مجلس الأمن الداعم لجهود قطر في حل هذه القضية، وبالتالي فإن أي إسهام قطري في حل هذه الأزمة وما سينبثق عنه من حلول وقرارات سيبقى في حدود الاحتمالات التالية:
الاحتمال الأول: أن قطر ستنتظر حتى إعلان الاعتراف بجمهورية أرض الصومال وإلى أي مدى سيؤدي هذا الاعتراف من وضع ميناء «زيلع» تحت السيادة الأثيوبية, مقابل دعم إثيوبيا وضمانها لاستقلال هذه الدولة الوليدة، وفي حال حدث هذا الاعتراف و تسلمت إثيوبيا فعلا ميناء «زيلع» وضمته إلى سيادتها فإن هذا يعني بأن شراكة إثيوبيا البحرية لدول المنطقة قد تحددت من خلال ساحل جمهورية أرض الصومال وتحديداً عند نقطة الارتكاز في خليج عدن وأنها ستنطلق في قيادتها للمهام الدولية من أعماق هذا الخليج إذ لم يعد لها حاجة في أي من سواحل اريتريا في منطقتي البحر الأحمر وباب المندب اللتين ستصبحان تحت سيطرة المركز في خليج عدن، وحينها سيصبح الحكم القطري في هذه القضية حكماً إجرائياً لتعميد الأمر الواقع حيث سيصدر الحكم بأحقية اريتريا في السيادة على «رأس دميرة» تبعاً لأحقيتها في السيادة على جزيرة «دميرة»..
وهذا سيؤدي إلى اقتراب الحدود الاريترية مسافة 7كم في اتجاه جزيرة «ميون» اليمنية، ولكن هذا الوضع، وعلى الرغم من أن كل المعلومات ومجمل المؤشرات على الأرض تشير إلى إمكانية تحققه على المدى البعيد، لكنه على المدى القريب لا يزال بعيد المنال، وبالتالي فإن الفعل القطري وفق هذا الاحتمال سيفرض على قطر قبل أن تشرع بحل مشكلة "رأس دميرة" إطلاق مبادرة أخرى لحل النزاع بين إثيوبيا والصومال حول إقليم أوجادين المحاذي لميناء زيلع، على النحو الذي يؤدي إلى منح إثيوبيا شريطاً برياً بعرض 20كم على امتداد إقليم أوجادين الذي سيمر من خلاله الشريط البري حتى يصل إلى ميناء زيلع بحيث يخضع هذا الشريط لسيادة إثيوبيا مقابل قيام إثيوبيا بمنح الاستقلال الناجز لإقليم أوجادين باستثناء مساحة هذا الشريط الذي سيبقى تحت السيادة الإثيوبية.
وأعتقد بأن القرار الشجاع الذي اتخذه الرئيس زيناوي بتحقيق المصالحة مع ثوار أوجادين مؤخراً سيفتح المجال نحو هذه التسوية الشاملة، كما أنني أعتقد أن القرار الأشجع هو الذي سيصدر من سمو الأمير القطري بإطلاق المبادرة لحل النزاع الصومالي الأثيوبي وحل مشكلة أوجادين، وهذا يقتضي أيضاً إطلاق مبادرة شجاعة من قبل سمو الأمير القطري أو من قبل رئيس الوزراء الأثيوبي أو من كليهما معاً بما يؤدي إلى التقائهما وتبديد الغيوم التي لبّدت علاقتهما الشخصية، إضافة إلى تنقية الأجواء وإعادة العلاقة بين بلديهما إلى سابق عهدها.
الاحتمال الثاني: انتظار قطر حصول تسوية دولية للأزمة الحدودية بين اريتريا وإثيوبيا حول النزاع الحدودي بينهما في مثلث «بادمي» في إقليم التجراي، شمال اريتريا بالقرب من ميناء «مصوع»، والذي خاضت فيه الدولتان حربين طاحنتين على أمل أن تصل هذه التسوية إلى إقناع إثيوبيا بضرورة تنفيذ قرار مجلس الأمن الذي يلزمها بالانسحاب من منطقة «بادمي» التي صدر فيها الحكم الدولي لصالح أريتريا، إضافة إلى تنازلها الطوعي عن سيادتها في منطقة «زلامبيسا» التي صدر فيها الحكم الدولي لصالح إثيوبيا بمقابل حصول إثيوبيا على شريط بري في المثلث الحدودي بين كلٍ من إثيوبيا واريتريا وجيبوتي وصولاً إلى الساحل الاريتري في منطقة النزاع الحالية «دميرة»، وهي التسوية التي ستفتح مجالاً لقطر في أن تصدر حكمها بضم «رأس دميرة» إلى السيادة الأثيوبية باعتبار هذا الرأس يمثل امتداداً طبيعياً للشريط البري الذي قايضت به اريتريا إثيوبيا بمنطقة مثلث «بادمي» كاملة.
لكن هذا الوضع هو الآخر يصعب تحقيقه من خلال التسوية الدولية وذلك بالنظر إلى طبيعة الوضع المعقد بين إثيوبيا واريتريا وصعوبة التوفيق بين النظامين اللذين ينتميان إلى قومية التجراي في كلا البلدين، وبالتالي يصعب تحقيق أي تسوية بينهما على المدى القريب، وهو ما يحتّم على قطر إطلاق مبادرة لتقريب وجهات النظر بين الرئيسين الرفيقين (أفورقي وزيناوي) قبل أن تبدأ بتقليب أوراق ملف الأزمة في رأس دميرة، بالنظر إلى أن هذه الأزمة هي حلقة ضمن سلسلة من الأزمات الحدودية المترابطة في منطقة القرن الأفريقي التي لا يمكن تجزئتها في أي حال من الأحوال.
الاحتمال الثالث: في حال تعذر على قطر إمضاء أي من الخيارين السابقين فليس أمام المساعي القطرية من خيار سوى القيام بعمليات تقريب ودي بين جيبوتي واريتريا بحيث يوافق الطرفان على تسليم منطقة «دميرة» بكاملها، سواءً الواقعة تحت سيادة جيبوتي أو سيادة اريتريا، لشركة استثمارية قطرية لاستثمارها في مجال الاصطياد والسياحة والتجارة، وبحيث يعهد إلى شركة أمنية خاصة مهمة حماية المنطقة ونشاط الشركة الاستثمارية العاملة فيها، على أن تخضع الشركة الأمنية لإشراف مباشر من قبل الكتيبة القطرية المرابطة حالياً في منطقة النزاع، وبحيث توزع العائدات الاستثمارية لهذه الشركة بين الدولتين بالتساوي بعد خصم حصة الشركة الاستثمارية وتكاليف شركة الحماية الأمنية.
وهذا الخيار هو الممكن تحقيقه في الوقت الحالي، وأعتقد أن الوساطة القطرية تسير في هذا الاتجاه، ويمكن الاستشهاد على ذلك بما صرح به رئيس الوزراء الجيبوتي في أول تعليق له على المبادرة القطرية حيث قال: إن منطقة وجزيرة «دميرة» التي كانت منطقة خلاف ستكون بفضل المبادرة القطرية منطقة جذب تجاري وسياحي للبلدين، كاشفاً أن جيبوتي وإرتريا يحتلان موقعاً استراتيجياً في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر وباب المندب.
- بعض المراقبين لا يستبعدون أن تطلب اليمن من قطر تحريك مسار هذه الشركة وتوسيع نشاطها في الاستثمار السمكي والسياحي على مستوى الضفة البحرية الآسيوية المقابلة عند سواحل اليمن القريبة من السواحل السعودية، بهدف حل الخلاف مع اريتريا حول منطقة الاصطياد على سواحل جزيرة حنيش وزقر، ولكن اريتريا قد تستغل هذا الوضع بالدفع بأن هذه المنطقة تقع ضمن مياهها الخالصة مستفيدة من القانون اليمني الجديد لخط الأساس البحري لليمن الذي صدر على نحو مختلف عن خط الأساس القديم الذي تم الاعتماد عليه في التحكيم بين اليمن واريتريا على جزيرة حنيش، والذي بموجبه صدر الحكم الدولي لصالح اليمن..
الأمر الذي سيجعل من السهل على الطرف الاريتري التنصل من التزامه بالحكم الدولي، بذريعة أن الأساس الذي استند عليه الحكم الدولي قد تم نقضه بإعلان اليمن لخط أساس بحري جديد، وبالتالي التقدم للمحكمة الدولية بطلب نقض الحكم الدولي الخاص بأرخبيل حنيش وهو ما يفرض على قطر في حينها إطلاق مبادرة جديدة لحل هذا النزاع في حال حصولها على تفويض من اريتيريا واليمن، وربما سعت قطر بموجب هذا التفويض إلى تسوية هذا الوضع بضم منطقة الاصطياد المشتركة التي هي محل نزاع بين البلدين إلى هذا المشروع الاستثماري الكبير على قاعدة الشراكة بين اريتريا وجيبوتي نفسها في مياه «دميرة».
-لاشك أن مثل هذا الوضع المتشابك والمعقد يدفعنا للقول إن أزمة رأس دميرة هي مفتاح الحل لكل الأزمات الحدودية، ليس في منطقة القرن الأفريقي فحسب، وإنما في ضفتي البحر الأحمر الأفريقية والأسيوية وهي الأزمات التي لا تقبل التجزئة في أي حال من الأحوال.
- في الختام، أستطيع القول إن قيام قطر بتحريك ملف رأس دميرة لن يتوقف عند هذا الملف، بل سيمتد إلى كل الملفات العالقة في المنطقة، ويقيني أن دولة قطر جديرة بالقيام بهذا الدور خدمة لاستقرار دول ضفتي البحر الأحمر، وتعزيزاً للأمن الإقليمي والسلم العالمي، فتحيةً لقطر وتحيةً لدورها الطليعي في هذه المنطقة الإستراتيجية الهامة، والتحية أولاً وأخيراً لسمو الأمير القطري الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني على جهوده المشكورة في إصلاح ذات البين، وخاصة في هذا الزمن المنحوس الذي لا تطل فيه سوى قرون الشياطين.
* خبير استراتيجي يمني بشئون البحر الأحمر ومنطقة القرن الأفريقي