دعني عزيزي القاريء انطلق معك من سؤال بسيط غير أنه يقودنا إلى فهم منهجية الفكر السلالي الاستعلائي الذي يعد الأساس الذي تنطلق منه الحركة الحوثية في طروحاتها الفكرية والتنظيمية.
ذا السؤال هو: هل يجوز لمسلم عابد، زاهد، عالم،صوام قوام، مشهور، سديد الرأي ،صحيح الجسم، من أرفع بيوت اليمن، نقي السريرة، يعلم أحكام القضاء وينفذ هذه الأحكام بسيفه العادل الذي أخضع له المخالفين، يقطع يد السارق، ويرسل الجيوش لتأمين الناس وقمع العصاة، تنطبق عليه كل الشروط ليتولى الحكم إلا أنه ليس من ذرية علي من فاطمة، هل يجوز له أن يطمح إلى الرئاسة أو الإمامة؟
قبل أن تتعجل وتقول يجوز له ذلك لأن ذلك من المسلمات، ولأن الناس أمام الله وأمام الشرائع سواء، قبل أن تتحمس أكثر لتعتقد أن قيم العدل والحرية والمساواة قيم غير قابلة للنقاش، أقول لك إن الإمام عبدالله بن حمزة الذي بدأ دعوته للإمامة سنة 583ه في الجوف، وواحد من أكثر أئمة اليمن بطشاً وإرهاباً بشهادة علماء ومفكري المذهب الزيدي الشريف، وأشهر الأئمة الذين يأخذ عنهم الحوثيون والذين تأثر بهم بدر الدين الحوثي، هذا الإمام يقول غير ذلك. عبدالله بن حمزة يرى أن الذي يدعو لنفسه بالإمامة مع تحقق كل الشروط الزيدية فيه عدا شرط النسب العلوي الفاطمي، فإنه "يقطع لسانه حياً، ثم يقتل جهاراً نهاراً وييتم أولاده حتى يكون عبرة لغيره ممن يتجرأ على حقوق الغير"، ويؤصل الإمام المنصور عبدالله بن حمزة لحمكه هذا بأنه حكم آل البيت عليهم السلام كما سيرد معنا بعد قليل.
حسناً عزيزي القاريء الكريم. لعلك لم تصدق مثل هذه الترهات، ولم تستسغ وأنت تعيش في القرن الحادي والعشرين القول ب"الحق الإلهي" لسلالة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم دون غيرهم من سائر الناس، أو لعلك تقول إن هذا مما افتراه النواصب ليشوهوا سمعة الأئمة من أبناء فاطمة رضي الله عنها.
اقرأ معي إذن قصيدة الإمام المنصور عبدالله بن حمزة التي قالها عندما نبا إليه أن نشوان بن سعيد الحميري-علامة اليمن وفقيهها الكبير-يدعو لنفسه بالإمامة. ونشوان هو العالم الذي شغل الناس علماً وأدباً وصاحب السفر اللغوي الأشهر في الجامعت العربية والإسلامية والغربية "شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم" المعجم الذي لا تستغني عنه جامعة من جامعات الغرب المختصة بالدراسات العربية ناهيك عن الجامعات العربية.، يقول الإمام ابن حمزة في نشوان الحميري الذي لم يكن يعتقد بشرط النسب الفاطمي في من يتولى الإمامة:
ما رأيكم في مؤمنٍ قوامِ .. موحدٍ مجتهدٍ صوامِ
حبر بكل غامضٍ علامِ .. وذكره قد شاع في الأنامِ
لم يبق فنٌ من فنون العلمِ .. إلا وقد أضحى له ذا فهمِ
وهو إلى الدين الحنيف ينتمي .. محكم الرأي صحيح الجسمِ
وما له أصلٌ إلى آل الحسنْ .. ولا إلى آل الحسين المؤتمنْ
بل هو من أرفع بيتٍ في اليمنْ .. قد استوى السرُ لديهِ والعلنْ
ثم انبرى يدعو إلى الإمامة .. لنفسه المؤمنة القوامه
ثمت أجرى بالقضا أقلامه .. ونفَّذت أسيافُه أحكامه
وقطع السارق والمحاربا .. وسل للعاصين سيفاً قاضبا
وقاد نحو ضده المقانبا .. وبث في أرض العدا الكتائبا
ما حكمه عند ثقاة الفضلِ .. لما تنآى أصله عن أصلي
ولم يكن من معشري وأهلي .. أهل الكسا موضع علم الرسلِ
أما الذي عند جدودي فيهِ .. فينزعون لسنه من فيهِ
ويؤتمون جهرة بنيهِ .. إذ صار حق الغير يدعيهِ
يا قومُ ليس الدرُ قدراً كالبعَرْ .. ولا النضارُ الأبرزيُّ كالحجرْ
كلا ولا الجوهرُ مثل للمدر .. فحاذروا في قولكم مسَّ سقرْ
ليس على ربي اعتراضٌ لأحدْ .. يفعل ما شاء تع إلى ومجدْ
لم يجعل الكلبَ سواءً والأسدْ .. فاطَّرحوا ثوبَ العناء والحسدْ
حمداً لمن أيدنا بعصمتهْ .. واختصنا بفضله ورحمتهْ
وصير الأمر لنا برمتهْ .. من كل من أظهر من بريتهْ
صرنا بحكم الواحد المنانِ .. نملك أعناق ذوي الإيمانِ
ومن عصانا كان في النيرانِ .. بين يدي فرعون أو هامانِ
العلم في آل النبيِّ من صِغرْ .. نصَّ عليه جدهم خير البشرْ
وغيرهم ليس بمغنيه الكبرْ .. لو شاب شعر رأسه أو انتثرْ
والقصيدة ثابتة في المراجع التاريخية الزيدية وقد أوردها صاحب كتاب اليمن: الحضارة والإنسان. وفيها الكثير مما يستوقف لكننا سنعرج باختصار على نظرة هذا الإمام للإمامة كحق إلهي له ولأسلافه وذريته حسب ما جاء في القصيدة.
والعجيب أن هذا الإمام الذي يعد موضع تقدير بالغ عند بدرالدين الحوثي الذي يحيل عليه ويرجع إليه في كثير من آرائه، العجيب أن هذا الإمام عندما يقول إنه لا يجوز لنشوان الحميري أن يكون إماماً حسب النص أعلاه، فإنه يستند إلى حجج عنصرية مقيته تقوم على أساس أن الآخر ليس منتسباً إلى ذات النسب الذي ينتسب إليه ابن حمزة، مع أن ابن حمزة قد قاتل حتى المنتسبين إلى نسبه وقتل منهم خلقاً كثيراً في سبيل توطيد أركان ملكه.
وقد شبه هذا الإمام نفسه بالدر والنضار والأسد في حين شبه غيره (نشوان الحميري) بالبعر والمدر والكلب حسب ما هو ثابت في النص المذكور.
وقد أيد العلامة الهادي بن إبراهيم الوزير الإمام عبدالله بن حمزة في حكمه على نشوان الحميري، عندما سئل عن مساواة نشوان بن سعيد الحميري اليمني القحطاني بأهل البيت. فكان الجواب: "قد حكم عليه المنصور بالله عبدالله بن حمزة بقطع لسانه وقتله، وهذه رواية المنصور بالله عن آبائه عليهم السلام، ولا أصدق منه (إي من المنصور عبدالله بن حمزة) رواية ولا أفضل منه هادياً، رضينا بحكمه وبروايته، واكتفينا بهديه وهدايته" كما أورد المؤرخ الأكوع في هجر العلم ومعاقله في اليمن.
هكذا على أساس "الامتياز" في النسب تقوم عقيدة "الحق الإلهي"التي ترسخت عند أمثال ابن حمزة من أئمة اليمن الذي كما مر معنا في مقال سابق قتل ما يقارب مئة ألف من "الزيدية المطرفية" لا لشيء إلا لأنهم يمنيون يؤمنون بأن الإمامة في الناس كافة ولا يشترطون في الإمام أن يكون من سلالة بعينها. وقد حكم عليهم عبدالله بن حمزة بالتالي: "تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، ويقتلون بالغيلة والمجاهرة، ولا تقبل توبة أحد منهم".
يقول الدكتور زيد بن علي الوزير وهو من مفكري الزيدية المعاصرين في "حوار في المطرفية" الإمام عبدالله بن حمزة أباد المطرفية بالسيف بعدما عجز عن التغلب عليهم بالقلم، ولعمري إن الاحتكام إلى السيف هي حجة المفلس".
ويضيف الوزير أن الإمام ابن حمزة واصل حربه على المطرفية، وقام بملاحقتهم أينما كانوا، وفي أي منطقة حلوا، أبادهم في وقش وفي هجرة قاعة التي أباد خضراءها، وأتلف تراثها العلمي وهدم وخرب مساجدها، وطاردهم حتى وصل إلى ذمار وعنس يسفك الدماء ويقتل الأبرياء، ويهلك الحرث والنسل ويمارس العنف والإرهاب في وحشية لا مثيل لها حتى استطاع عبدالله بن حمرة أن يقضي على المطرفية أفراداً وأفكاراً
وهذه الآراء هي عين الأراء التي يقول بها بدرالدين الحوثي الذي يرى أن الإمامة من خصائص أهل البيت ولا يجوز خروجها إلى غيرهم حسب ما جاء في مقابلته الشهيرة في صحيفة الوسط عام 2004م
ولأن بدر الدين الحوثي يلتقي مع عبدالله بن حمزة في وجوب حصر الإمامة على البطنين فقد انبرى الحوثي يدافع عن ابن حمزة ويجرم ضحاياه من "الزيدية المطرفية" الذين أبادهم ابن حمزة. يقول بدرالدين الحوثي في دفاعه عن الإمام ابن حمزة وتجريم ضحاياه من المطرفية: "إن تنزيه المطرفية والجزم ببراءتهم يعني الطعن في الإمام عبدالله بن حمزة عليه السلام... ففي هذا الزمان أظهر الخلافَ في شأن المطرفية بعضُ النواصب ليتوصلوا إلى ذم وتحقير أئمة الهدى" كما أورد زيد الوزير في حواره في المطرفية.
ألا ترى عزيزي القاريء إلى تطابق الأفكار عند هذين المرجعين فيما يخص فكرة "الحق الإلهي" في الإمامة التي عبر عنها في صورة واضحة الإمام عبدالله بن حمزة في القصيدة المذكورة أعلاه. تلك الفكرة التي جنت على اليمنيين الكثير في تاريخهم القديم والحديث، والتي ينبغي أن ينبه الداعون إليها إلى خطورتها على استقرار الأوضاع في اليمن لأن معظم الحروب التي قامت بين الإئمة الذين قتل بعضهم بعضاً ما قامت إلا على أساس نظري يستند إلى "وصية الرسول لعلي بالإمامة والذي أوصى بها بدوره لبينه من بعده وهم لذراريهم من بعدهم" حسب فهم بدر الدين الحوثي في كتابه "إرشاد الطالب" وحسب اعتقاد قطاعات واسعة ممن اتخذوا الدين والآل عليهم السلام مطية للوصول إلى العرش في صنعاء وصعدة.
ومع ذلك فإن الإنصاف يقتضي القول أنه ما كل الأئمة على شاكلة عبدالله بن حمزة في بطشه وجبورته، ولا كل علماء الزيدية المعاصرين على شاكلة بدرالدين الحوثي الذي غذت أفكاره العنصرية حروباً متتالية في مناطق الشمال اليمني راح ضحيتها خيرة أبناء اليمن.
وأخيراً ستظل مواجهة هذه الأفكار القروسطية مهمة كل من يؤمن بقيم الإسلام الخالدة، تلك القيم التي تقوم على أساس المساواة في الحقوق والواجبات، وأن التميز والاصطفاء يقومان على أساس من التقوى والعمل الصالح لا غير.