بعد حو إلى ساعتين من تعرض وزير العدل السابق عبد الواسع سلام لمحاولة اغتيال أصيب فيها في إبريل 1992، كنت مع عدد من وجهاء البيضاء، في منزل الأستاذ علي سالم البيض نائب رئيس مجلس الرئاسة في القصر الجمهوري بناء على موعد مسبق رتبه الدكتور محمد حيدرة مسدوس نائب رئيس الوزراء حينذاك.. بدا البيض في ذلك اللقاء القصير واجما متألما وسألناه هل تم القبض على الجناة ؟ فأجاب " باين ما حد يقبض على حد هنا!".
وعادت بي الذاكرة في تلك اللحظات إلى حوادث سابقة، منها مقتل أحد وجهاء المناطق الوسطى في وسط العاصمة صنعاء في وضح النهار في أواخر الثمانيات، حيث بدا وكأن أجهزة الأمن غير معنية بالأمر بجد ومسئولية، وكان ذلك صادما بالنسبة إلي أنا العائد للتو من اغتراب دام أكثر من عشر سنوات في بلد مجاور تأخذ الدولة فيه قضايا الأمن والسكينة العامة مأخذ الجد والحزم..
موازنات متزايدة وأمن متناقص!
في عام 2000 ضمنت لجنة الموازنة في مجلس النواب مشروع تقريرها مقارنة بين تسارع وارتفاع نسب الجرائم بأنواعها ومنها الحروب القبلية وبين تزايد الموازنات المخصصة لحفظ الأمن سنة إثر أخرى..وبدا أن ما ضمناه في مشروع التقرير لم يرق لأحد زملائنا في اللجنة، وأبدى اعتراضا لم نقبله، فما كان منه إلا أن انسل من اللجنة لإبلاغ الأخ يحيى الراعي الذي كان حينذاك نائبا لرئيس المجلس، وقدم إلى اللجنة على الفور، يصحبه عدد كبير من الحراس العسكريين المسلحين، وأخذ مكانا وتصفح التقرير بسرعة، وبادر بالقول: يا علي ما الذي أبقيت لعلي صالح عباد مقبل [أمين الحزب الإشتراكي المعارض حينذاك وقد ألقى خطابا ناريا ساخطا في ذلك الوقت]؟ ... "ما حد يقول لأمه شومه "... المستثمرون سينفرون ويفرون"... وأضاف ساخرا كعادته ... " أنتم يا أهل البيضاء آخر من يتكلم عن الأمن... أنتم " تتخارجوا" في (العيوب) و(العتوب)، وتتركون الدم كنز وتدخرونه للأجيال القادمة وكأنه مكسب، وتوصي به الأم أولادها! .. أما أحنا إذا حصلت مشكلة نتخارج"... ومما أجبت به عليه : " لقد أحصينا أكثر من مأتي حرب عشائرية " في العام المنصرم وسقط جراء ذلك عشرات القتلى من المواطنين، وأنت يا أستاذ يحيى قدمت إلى اللجنة الآن يصحبك كل هذا العدد من المرافقين، عندما تشعر يوما أنه يمكنك التحرك دون مرافقين حتى داخل المجلس، بل ويمشي كل منا في الشوارع والطرقات دون مرافقين استنادا إلى الأمن والعدل الذي توفره الأجهزة المعنية لكل الناس، وعندما يشعر المجرمون أن هناك دولة مسئولة حازمة تتعقبهم وتلاحقهم أينما ذهبوا سيتاح لنا أن نتحدث حينذاك عن الأمن على نحو مختلف"..
سياسات خاطئة وقيادات فاشلة
أمام إصرار أعضاء لجنة الموازنة ، قُدِّم التقرير إلى المجلس دون تغيير يذكر، غير أن الأوضاع الأمنية التي توخينا تغييرها إلى الأفضل قبل عشر سنوات، تدهورت منذ ذلك الحين نحو الأسوأ.. وقد حدث ذلك، لأن الأساليب والسياسات بقيت كما هي تقريبا دون تغيير، وظل كثير من المعنيين بالأمن والأمر في جهات عدة لم يتغيروا، وواضح أن مفاهيمهم وقناعاتهم عن أشياء كثيرة، ترتبط بالحكم والإدارة والقيادة والمسئولية والسياسة، بقيت ثابتة هي الأخرى لم تتغير، أيا كان خطرها وخطؤها وبعدها عن الصواب والحق، وهذا مما فاقم الإختلالات وأدى إلى تدهور الحالة الأمنية حتى أخذت طابع حروب أهلية في جهات عدة من البلاد.. وعندما كان يقتتل الناس في مناطق رداع والجوف وعمران ومارب وغيرها، فغالبا لا تأبه أحهزة الدولة بالقيام بواجباتها وتتلكأ قوات الأمن في التدخل توفيرا لمخصصات التنقل والوقود الذي غالبا ما يذهب لجيوب القادة، ويتعلل كثير من المسئولين بترديد كلمة " ثأر!".. وكأنهم لا يدركون أن لا معنى لوجود الدولة التي يمثلونها في ظل تفشي الثأر..ومن المساوئ المؤسفة أن مناطق كثيرة في الجنوب استعادت زخم العنف والثار والإهمال بعد حرب 1994 مثل شبوة وأبين، وعاد الإقتتال من جديد، حتى داخل القرية الواحدة..ونتيجة لذلك انتشر السلاح والفوضى وصارت مناطق كثيرة ملاذا للمتطرفين وتهيأ مناخ العنف لفئات خطرة تهدد أمن البلاد واستقرارها بشكل غير مسبوق في تاريخ اليمن الحديث...وقد ذكرت صحيفة الشارع في عددها الأخير أن القاعدة يعرضون في شوارع لودر على الملأ أفلاما لمعاركهم وبطولاتهم ، وساعة كتابة هذا أفادت التقارير عن مقتل ثمانية عسكريين في نقطة في زنجبار وقبلها بأيام قتل ثلاثة عشر عسكريا دفعة واحدة في لودر وقتل آخرون من قبل في ظروف مشابهة ، أما الحوثيون فبعد أن أحكموا السيطرة على أكثر صعدة وحرف سفيان وكثير من الجوف، هاهو مندوبهم الفيشي يعلن من قطر أن قضيتم ليست صعدة وحدها وإنما أكثر محافظات الشمال.
علي القاضي داعية سلام
حينما كنت في الجوف في شهر مارس الماضي ضمن اللجنة الوطنية لإحلال السلام، أذكر أن الأخ علي عبدربه القاضي الذي فقد ثلاثة من أبنائه في حوادث قتل متفرقة، سأل الشيخ الجيشي ، عن إخوته الكبار الذين قُتِلُوا ؟ وسألت أين قٌتِلُوا ؟ فقيل : في اقتتال عشائري..تذكرت حينئذ حالات أخرى مشابهة اعرف أصحابها جيدا، وأحسست من جديد أن الدولة تبدو كمن لا يأبه بمن يعيش أو يموت في مناطق كثيرة ومنها الجوف، ولولا ارتفاع خصوبة النساء اليمنيات وزيادة نسبة المواليد لقدر لعائلات أن تنقرض من الوجود بسبب الاحتراب الأهلي.. وليس أمام المرء إلا أن يشعر بالمرارة إزاء دولة لا تتعامل بمسؤولية كافية تجاه أمن مواطنيها في مناطق مثل الجوف.. وتساءلت لو أن الجوف تابعة لدولة أخرى مثل سوريا أو تونس أو السعودية أو غيرها، هل كان يمكن أن تكون مهملة وبائسة إلى ذلك الحد؟ كان ذلك مما يجول بخاطري ونحن نعبر الطريق بين حزم الجوف والجبل الأسود في حرف سفيان ،جيئة وذهابا، مع أعضاء اللجنة الوطنية ومنهم ناجي الظليمي الذي سبق وأصيب برصاص متقطعين هو وولده في الجوف عندما كان محافظا لها، وعلي القاضي الذي كثيرا ما كان يردد بيت شعر عربي مشهور سبق واستشهد به علي سالم البيض في أول خطاب له في ميدان السبعين قبيل تحقيق الوحدة " إذا اقتتلت يوما وسالت دماؤها تذكرت القربى وسالت دموعها " وظل القاضي يتحدث كثيرا عن ضرورة حقن دماء اليمنيين، وعلق فخامة الرئيس على كلام من ذلك القبيل طرحه القاضي في أحد اجتماعات اللجنة مع الرئيس " ما شاء الله، علي القاضي داعية سلام!! ". فكان رد القاضي " ما ندخل حربا إلا وأنتم الذين تدفعونا إليها"...وأيد القاضي بقوة مقترحا طرحته على الرئيس في أول إجتماع للجنة برئاسته ، وفحواه ضرورة أن يتضمن سلام صعدة صلحا شاملا لجميع الأطراف ينهي جميع ثارات الحرب ويأمن فيه الحوثيون وغيرهم بصفة دائمة..
تلاشي هيبة الدولة
على كثرة مساوئ حكم آل- حميد الدين، غير أن القاتل كان لا تقله أرض ولا تظله سماء، وكذلك الحال بالنسبة لحكومة الحزب الاشتراكي في الجنوب، حيث تم بسط الأمن هناك بعد أن كانت الفوضى والإقتتال والثار من طبيعة الأشياء وطريقة حياة في عهد الإستعمار...
يقول هارولد إنجرامز في كتابه (اليمن : الأئمة والحكام والثورات ): [ إن هناك مفارقتين شدتا انتباهي في أثناء جولتي القصيرة في اليمن ( 1941) ، إحداهما تلك المفارقة بين الصراع والنزاعات التي كانت في الماضي وبين النظام المستتب في الوقت الحاضر، والمفارقة الأخرى بين السلام والاستقرار في المملكة وبين الإفتقار إليه في المحمية] ...ويضيف ( تأكدت لي المفارقة الثانية التي تحدثت عنها آنفا، بشكل قوي وواضح من خلال مشاهداتي المتكررة للرجال والنساء وهم يعملون في الحقول دون أن يخطر ببالهم أنهم يمكن أن يتعرضوا للإغارة من قبل جيرانهم... فلقد عرفت المحمية عن كثب لمدة كافية بحيث أصبحت متعودا أكثر على أن أرى المناطق الزراعية محصورة في الأماكن القريبة جدا من التجمعات السكانية المحصنة التي يمكن اللجوء إليها و الإحتماء بها عند سماع طرقعة أول طلقة رصاص"...وأشار إلى أن كثيرا من الأراضي التي كانت صالحة للزراعة منذ زمن، في مناطق عدة في الجنوب هجرت وتصحرت نتيجة للخوف واضطراب الأمن ..وأضاف " في اليمن يمكن حتى للمسافر المتواضع المكانة الإجتماعية أن ينتقل وحيدا من مكان إلى آخر دون خوف، أما في المحمية فإنه عادة ما يكون من الضروري أن يصطحب المرء معه مرافقا أشبه بفيزا حية تعطي تأكيدا أن المسافر تحت حماية القبيلة التي يتم العبور في أراضيها"...
في حديث مع الزميل النائب المرحوم الشيخ ناجي أبو رأس قال : " أنه حدثه أحد أعيان منطقتهم "ذو محمد" بأنه كان جالسا في عهد الإمامة أمام منزله في برط ذات يوم يشرب القهوة، فإذا بشخص قادم لا يزال على بعد منه، وتأمل فيه لبعض الوقت، وعندما اقترب منه وتيقن أنه عسكري ، سقط كاس القهوة من يده!" لكن الشخص نفسه قال لأبي رأس :
" اليوم ما أقلق لو جاءت دبابة ! "..وواضح إن ذلك يعني شيئا واحد فقط وهو تلاشي هيبة الدولة على الرغم من كثرة الجند والعتاد وامتيازات القادة ذو النياشين والعقارات..
الحزب والعسيب
أيا ما كانت التحفظات على جوانب من حكم الحزب الاشتراكي اليمني، غير أنه لا يستطيع أحد أن يجادل حول تمكنه من ضبط الأمن العام في الجنوب، وقد تخلت القبائل هناك عن احتراباتها وثاراتها، ووضع الناس السلاح جانبا، بما في ذلك السلاح الأبيض.. قبل أيام، قال ضابط أمن كبير من الجنوب، أنه ملأ "شوالا " كبيرا بالجنابي في منطقة يافع عام 1976، وقد تحدث الضابط بذلك في حضور الشيخ عامر العجي وآخرين. وفي ما عدا شخصيات قليلة، فالملاحظ أن القادة من الجنوب وكبار مثقفيه لم يعودوا إلى لبس الجنابي أبدا، ولعلهم يظهرون قدرا من الإعتزاز بمحاسن تجربة حكم وطنية في الجنوب تم تجاهلها تماما، وهناك من يتحدث عن طمسها. وكثيرا ما يظهر الجنوبيين تبرمهم من المظاهر المسلحة بشتى أنواعها، وأذكر أن برلمانيا ووزيرا سابقا متميزا من الحزب الإشتراكي، كان يجلس إلى جانبي في اجتماع لجنة التشاور الوطني وعندما صعد الأستاذ محمد سالم با سندوه إلى المنصة يلقي كلمته وهو يتهادى بسبب كبر السن والمرض، عافاه الله، علق قائلا : " يبدو أن المجتمع المدني سيتلاشى ولن يتبقى لنا إلا أهل "العِسْوَبْ".. ومما يغيض كثيرين من أبناء الجنوب اليوم هو عودة السلاح والحروب والثارات إلى مناطقهم ومعهم كل الحق في ذلك..
توق إلى مستقبل مختلف
هل هذا يشبه الحنين إلى الماضي ؟ كلا.. إنه في حقيقة الأمر توق إلى مستقبل مختلف عن الماضي والحاضر.. وتأتي الإشارة إلى الماضي القريب في سياق التأكيد للفاشلين أن بالإمكان أبدع مما كان.. ويكفي أن قبائل أخرى في جزيرة العرب أقاموا دولا من حولنا يسودها أمن وحزم ونظام، فهل أن اليمن ليست جديرة أو لا تستحق أن تكون ملء السمع والبصر يسودها الأمن والعدل والنظام وحكم القانون الذي يطال الجميع دون تمييز أو تفاوت أو استثناء؟.. إن مشكلة الأمن في اليمن لم تكن ترجع إلى ندرة الموارد كما يدعي العاجزون، بل ترجع في حقيقة الأمر إلى غياب الإرادة وتفشي المحسوبية وفساد الإدارة وسوء التدبير وقصر النظر الذي تراكم عبر السنين، حتى بلغت الأحوال حدا لا يطاق, ومستوى لا يشرف من يحب اليمن ويعزها بحق..