شهد اليمن في الشهرين الأخيرين عدداً من أعمال العنف المتنقلة في محافظات الجنوب... من عدن إلى زنجبار في محافظة أبين... إلى الاشتباكات التي اندلعت أواخر آب (اغسطس) للسيطرة على لودر وسقط فيها نحو 33 قتيلاً. وتلاها قبل أيام إعلان وزارة الدفاع اعتقال عدد من عناصر تنظيم «القاعدة» المتهمين بأنهم كانوا وراء الاشتباكات.
فضلاً عن عشرات المواجهات بين رجال الأمن وعناصر «الحراك الجنوبي». ولعل أخطر ما في موجة العنف هذه هو الاختلاط أو الخلط بين ما قوم به «التنظيم» وما يقوم به «الحراك»، وكأن ثمة خيطاً رفيعاً ضعيفاً يربط بين الاثنين.
وإذا لم يكن هناك تنسيق معلن أو متعمد بين الطرفين، فكلاهما مستفيد أحدهما من الآخر. بل إن التنظيم قد يجد البيئة المناسبة لركوب موجة «الحراك» واستغلال الاضطراب والنقمة الشعبية ضد دوائر الحكومة ومؤسساتها وأجهزتها ورجال عسكرها وأمنها. ولا شيء يمنعه من السعي إلى محاولة ملء الفراغ. تماماً كما فعل الحوثيون في الشمال. لذلك لا يكفي أن ترتاح صنعاء إلى المواقف الاقليمية والدولية التي تندد بإرهاب «القاعدة»، وآخرها إعلان الناطق باسم البنتاغون بريان ويتمان أن الولايات المتحدة تدرس تقديم حزمة مساعدات شاملة خاصة بالجيش اليمني لمساعدته في التصدي للتنظيم اعتبر أنه يشكل «تهديداً إرهابياً خطيراً ومتزايداً للمصالح اليمنية والاميركية والاقليمية».
قد تكون المهمة العاجلة أمام صنعاء أن تميز بين خصميها في الجنوب وخارج الجنوب، بين «الحراك» و «تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب». أي أن عليها ألا تركن إلى التأييد الاقليمي والدولي في مواجهة «التنظيم» لتهمل أهل الجنوب وحراكهم، حتى وإن بدا أن سقف مطالب هؤلاء الانفصال، وهو ما يستحيل استجابته. مطلوب منها أولاً ألا تكون مواجهتها الارهاب موسمية فصلية وظرفية. فقيادة التنظيم انتقلت بنشاطها من المملكة الجارة شمالاً إلى اليمن بسبب المواجهة الشاملة والمتواصلة التي خاضتها الرياض مع «الفئة الضالة» والتي لم توفر فيها كل السبل والوسائل، بما فيها التنسيق الاقليمي والدولي. وهو ما على صنعاء أن تفعله، أي المواجهة الشاملة والمتواصلة، وليس محاولة الافادة من خطر «القاعدة» للحصول على دعم عسكري ومساعدات تعزز مواقع الحكم والحكومة في مواجهتها كل القوى السياسية المعارضة.
وبموازاة الحرب المفتوحة مع «القاعدة»، على صنعاء أن تبقي أبوابها مفتوحة للحوار مع كل أطراف المعارضة وليس مع قوى محددة فحسب. يجب أن تحاول مع أهل «الحراك» وإن رفضوا ويرفضون. عليها أن تهتدي إلى طريقة تشعرهم بأنها جادة في محاورتهم، وبأنها على استعداد للبحث في معالجة ما كان يشكو منه الجنوبيون منذ الوحدة عام 1990 ثم في حرب الانفصال عام 1994 من سياسة الاقصاء والتهميش والتمييز والحرمان وغياب المساواة، وبأنها جادة في البحث عن أوسع مشاركة في القرار السياسي الذي يبني دولة ديموقراطية حقيقية لا يضيع فيها القرار بين سلطة الحكومة وسلطة القبائل ورجال الدين والمتنفذين. صحيح أن مطالبتهم بالانفصال مجدداً أمر يستحيل على صنعاء استجابته. وإذا تبين لها أن هذا السقف العالي ليس شعاراً قابلاً للمساومة في أي حوار، تكون على الأقل وفرت لنفسها ما يبرر لها أن تواجههم بما يختارون من مواجهة. وقد تضمن ما توافر لها من إجماع داخلي وحتى خارجي أثناء حرب الانفصال قبل 16 سنة.
بينت الأحداث في اليمن، من الحروب التي تناسلت في صعدة إلى «الحراك الجنوبي»، مروراً بالنشاط المتصاعد ل «القاعدة»، أن هذا البلد بات حلقة ضعيفة وساحة مفتوحة للصراعات الاقليمية والدولية، والتدخلات الخارجية. فالتمرد الحوثي في الشمال لم يكن تحدياً داخلياً لصنعاء فحسب، وإن سيقت له أسباب اجتماعية واقتصادية محلية. بل شكل نافذة لتدخل خارجي لم تهب منه رياح إيرانية فقط، وهو ما وضع صعدة على خريطة الصراع الدائر في الشرق الأوسط بين الجمهورية الاسلامية والغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً. لذلك لم يتوقف قتال المتمردين إلا عندما تجاوزوا حدود المواجهة المحلية. استدعوا التدخل الخارجي السعودي. وهو ما ساهم في دفعهم إلى القبول بشروط الاتفاق السياسي مع الحكومة.
وتعرف صنعاء أنها تأخرت كثيراً في معالجة الوضع في الشمال قبل استفحاله. بل يأخذ عليها بعضهم أنها كانت قادرة منذ اندلاع شرارة الحرب الأولى والثانية على حسم الموقف مع الحوثيين، لكنها استغلت الأمر لتعزيز مواقعها السياسية في الداخل وبعض الخارج. وعندما أدركت أن التمرد بات عصياً على القوى القبلية التي دُفعت إلى مواجهته كان فات أوان المعالجة الداخلية، فكان التدخل الخارجي. لذلك إذا اختلط حابل «القاعدة» بنابل «الحراك» قد تغرق البلاد في حرب أهلية تستحيل معها المعالجات الداخلية. الأمر الذي يعجل في التدخل الخارجي مجدداً. وسيأتي التدخل هذه المرة من خارج الاقليم، ما دام أن الولايات المتحدة والأوروبيين عموماً يعتبرون اليمن مرتعاً خطيراً للإرهابيين بعد أفغانستان وباكستان. وبات يشكل تهديداً للإقليم الذي يشكل بموقعه الجغرافي والسياسي وبنفطه مصلحة من المصالح الحيوية والاستراتيجية لأميركا والدول الصناعية عموماً.
تحركت الدول الكبرى ودول اقليمية على رأسها المملكة العربية السعودية أوائل العام الجاري، في مؤتمري لندن والرياض لمساعدة اليمن على النهوض في إطار خطة مساعدات تساهم في ترميم الاقتصاد وتضع البلاد على طريق التنمية التي تساهم في تجفيف مصادر النقمة والتمرد الاجتماعي والسياسي والعسكري. وما لم تخطُ الحكومة في صنعاء نحو ترميم البيت الداخلي وتستعجل الحوار مع كل أطراف المعارضة حول سبل الاصلاح والتغيير، فإن المساعدات لن تنفع. وما لم تستفد من هدوء جبهة الشمال لمعالجة أمر «الحراك»، فإنها لن تكون قادرة على التفرغ لحرب ناجحة مع «القاعدة»، بل قد تواجه أخطار «الصوملة» والتقسيم في أحسن الأحوال.
وإذا كانت مسؤولية الحكومة في صنعاء هي الأساس في مواجهة هذه التحديات، فإن دول الجوار لا تقل مسؤوليتها شأناً. فلا يعقل أن تنعم دول مجلس التعاون بالرخاء وبوتيرة تنمية متسارعة، وفي ظهرانيها حزام فقر تعداده السكاني يوازي تعدادها مجتمعة. كما أن تعرض اليمن لخطر التحول ساحة ل «القاعدة» يحيل كل ما أنجزته دول المجلس في محاربة هذا التنظيم هباء وجهداً ضائعاً. كما أنها لن تكون بمنأى من شظايا سقوط الجار الجنوبي في حرب أهلية تهدده بالتقسيم وبالعودة إلى زمن السلطنات منتصف القرن الماضي. إن المحاولات الخجولة لإشراك هذا الجار في بعض مؤسسات مجلس التعاون قد لا تفيد في هذه الظروف ولا تشكل الحل المطلوب. الملحّ خطة اقتصادية طموحة تقرب سريعاً الوضع الاجتماعي في هذا البلد من مثيلاته في الشمال والشرق، بما يؤهله ليكون قيمة مضافة، بشرياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً لمجلس اقليمي يتمتع بالاستقرار...
هل تفتح صنعاء «كل الطرق» قبل أن تضيع المعالم؟