أعتقد أنه لا يوجد نظام عربي أو إسلامي، تلاعب بالقضية الفلسطينية خطابيا لخدمة أجنداته الداخلية والخارجية، كما فعل النظام الإيراني منذ توليه السلطة في عام 1979 زمن مؤسسه آية الله الخميني، الذي بدأ هذا الاستغلال التجاري المصلحي للقضية الفلسطينية في أغسطس من عام 1979 أي بعد ستة شهور من تسلمه السلطة، عندما أعلن الخميني في خطبة آخر جمعة من رمضان ذلك العام: " أدعو جميع مسلمي العالم إلى اعتبار آخر جمعة من شهر رمضان المبارك، التي هي من أيام القدر ويمكن أن تكون حاسمة أيضا في تعيين مصير الشعب الفلسطيني يوما للقدس، وأن يعلنوا من خلال مراسيم الاتحاد العالمي للمسلمين دفاعهم عن الحقوق القانونية للشعب الفلسطيني المسلم).
وبعد عام من ذلك، في نفس الإسبوع من عام 1980 أعلن الخميني نفسه: (نسأل الله أن يوفقنا يوما للذهاب إلى القدس والصلاة فيها إن شاء الله. وآمل أن يعتبر المسلمون يوم القدس يوما كبيرا، وأن يقيموا المظاهرات في كل الدول الإسلامية). والمهم في هذا السياق ملاحظة أنّ الله لم يشأ منذ عام 1980 وحتى اليوم، أي بعد ثلاثين عاما، للخميني وورثته أن يصلّوا في القدس، وأن دعوته لتضامن المسلمين أن تكون بالمظاهرات فقط، أي بالشعارات والخطب البلاغية التي تدغدغ عواطف الجماهير الغفورة الغفيرة.
ماذا قدّم نظام الخميني للفسطينيين؟
واستنادا إلى هذه المناشدة بالدعم والتضامن، يمكن أن نرصد ما قدمه نظام الخميني للقضية الفلسطينية طوال الثلاثين عاما الماضية، لنجد أنّ كل ما قدّمه لا يعدو الخطابات والبيانات، وبعض هذه الخطابات الغوغائية خاصة النجّادية منها، كانت أكبر خدمة لإسرائيل، جلبت لها تضامنا غير متوقع بسبب إنكار أحمدي نجاد المتكرر للهولوكست، وتهديده بإبادة اليهود ورميهم في البحر. وهذه بعض الوقائع من تاريخ هذا النظام طوال الثلاثين عاما الماضية:
أولا: عشر سنوات حرب إيرانية عراقية
يعرف الجميع أن السنوات العشر الأولى من عمر نظام الخميني تقريبا، أمضاها في حرب ضروس مع العراق في زمن نظام صدام حسين، تلك الحرب التي حسب أغلب التقديرات قد أوقعت حوالي مليون قتيل من البلدين، وقدّرت خسائرها في البلدين بما لا يقل عن 400 مليار دولار. والمفارقة المضحكة المبكية أنّ الخميني وصدّام وصلا للسلطة في نفس العام 1979، الخميني بعد سقوك نظام الشاه محمد رضا بهلوي، وصدّام بعد سيناريو استقالة أحمد حسن البكر، والديكتاتوران (الخميني وصدّام) أعطيا حربهما المدمرة أسماء وخلفيات إسلامية، فصدّام أطلق عليها (قادسية صدّام)، تمييزا لها عن قادسية سعد بن أبي وقاص في مواجهة قائد الفرس رستم فرخزاد (عام 635 ميلادي)، والخميني أسماها (الدفاع المقدس).
الغريب العجيب في مواقف القوميين والإسلاميين العرب أنهم يعتبرون صدّام حسين (بطلا قوميا مناضلا مؤمنا)، وفي الوقت نفسه يحترمون النظام الإيراني المعادي لإسرائيل ونصير القدس والفلسطينيين، دون أن يتطرقوا لمسألة من كان المخطىء من النظامين في تلك الحرب الضروس حوالي عشرة سنوات (سبتمبر 1980 – أغسطس 1988)؟. وهل نظامان إسلاميان حقيقيان يقومان بهكذا حرب، وقياداتهما تتبجحان بنصرة الفلسطينيين وتحرير فلسطين؟. إذن النتيجة التي لا يمكن دحضها هي أن النظام الإيراني وكذلك الصدّامي لم يقدما للقضية الفلسطينية أية ايجابية طوال السنوات العشر هذه، بالعكس أحدثا شرخا في العلاقات العربية والإسلامية، التي توزعت في دعم النظامين وانتشار الفرقة والخلافات بينها.
ثانيا: سنوات المهرجانات والخطابات
أثناء سنوات الحرب الإيرانية العراقية، لم يتذكر الخميني ونظامه يوم القدس العالمي الذي دعا له عام 1979، لإنشغاله بيوم طهران ومحاولة هزيمة العراق، وبعد موافقة الخميني في الخامس من يوليو 1988 على وقف الحرب، معترفا بهزيمة نظامه التي اعتبرها مثل (كأس السم)، عاد يتذكر يوم القدس العالمي محتفلا به بخطابات نارية، يشارك النظام فيها أغلب السنوات قيادات من حماس والجهاد وحزب الله، أو تقوم هذه القيادات بنفس الخطابات في عواصم وجودها خاصة غزة والضاحية الجنوبية. ويظلّ السؤال قائما: ماذا قدمت هذه الاحتفالات والخطابات الغوغائية من دعم للشعب الفلسطيني طوال الثلاثين عاما الماضية من عمر نظام ولي الفقية الخميني؟.
ثالثا: سنوات غوغائية أحمدي نجاد
دأب أحمدي نجاد منذ تسلمه رئاسة الوزراء الإيرانية في أغسطس 2005 على التخصص في مهاجمة إسرائيل، وعدم الاعتراف بالهولوكست الذي يقول الإسرائيليون أنّ اليهود تعرضوا له في ألمانيا النازية زمن الحرب العالمية الثانية. ومنذ توليه الرئاسة لا أعتقد أنّ خطابا له قد خلا من هذا التهديد والتشكيك. وقد خدمت هذه التهديدات إسرائيل لأنها جلبت لها تضامنا دوليا غير مسبوق ضد إيران نجادي كما أكدّ ذلك باحثون إسرائيليون، رغم أنها مجرد تهديدات لفظية يعرف الإسرائيليون أنها فقط للعب على عواطف الغوغائيين العرب، وإشغال العالم عن ملفات إيران العالقة دوليا خاصة ملفها النووي وملف حقوق الإنسان الذي يعتبر أسوأ ملف في العالم. والدليل على عدم جدية نجادي في أقواله هذه، التصريحات التي نقلتها صحيفة اعتماد ووكالة أنباء فارس الإيرانيتين لنائب نجاد المدعو اسفنديار رحيم مشائي في العشرين من يوليو 2008 التي قال فيها حرفيا: (إنّ إيران صديقة الشعب الأمريكي والإسرائيلي. ما في أمة في العالم هي عدوتنا وهذا فخر لنا)، فهل صرّح اسفنديار بهذه التصريحات دون أخذ موافقة أحمدي نجاد المسبقة عليها؟. هذا وهو ليس نائبا لنجادي فقط، بل صهره أيضا فابنته متزوجة من إبن أحمدي نجادي.
رابعا: تناقضات موقفه من القيادة والقضية الفلسطينية
صرّح أحمدي نجاد يوم الأحد الموافق 26 أبريل 2009 لشبكة اي بي سي الأمريكية صراحة (أنّ حكومته ستدعم أي قرار يتخذه الشعب الفلسطيني بما في ذلك حل الدولتين...لن نقرر شيئا، أي قرار يتخذونه سنعمل على دعمه)، وقد تعمّد أن تواكب تصريحاته هذه الذكرى الحادية والستين لقيام دولة إسرائيل. وعندما قرّر الفلسطينيون في بداية سبتمبر الحالي العودة للمفاوضات على أمل أن توصل لاتفاق حول قيام دولة فلسطينية، هاجم نجادي هذه المفاوضات وكأنه الوصي الوحيد على القضية الفلسطينية، فقد شجب العودة الفلسطينية للمفاوضات، وتدخل في الشأن الفلسطيني وكأنه واحد من التنظيمات الفلسطينية المقيمة في دمشق، إذ رفض وجود السلطة الفلسطينية المعترف بها من غالبية دول العالم، وقال صراحة: (إنّ حماس هي الممثل الرسمي للفلسطينيين). وعاد للعب على عواطف الشعوب قائلا: (إن شعوب هذه المنطقة لن يسمحوا لأحد بمنح ولو سنتيمترا واحدا من أرض فلسطين للأعداء، وبإمكان هذه الشعوب إبادة إسرائيل). وهو نفس موقف حزب الله وبالكلمات ذاتها، فقد قال نجادي (المفاوضات فاشلة قبل أن تبدأ) و حسن نصر الله رفض المفاوضات في خطابه الأخير واصفا إياها ب (أنها ميتة قبل أن تولد).
إنّ مواقف نجادي وحسن نصر الله لو بدرت من أي شخص آخر متعلقة بالشأن اللبناني أو الإيراني، لواجهوه بقوة وعنف على اعتبار أنّ هذا تدخل في شؤون البلدين الداخلية، أما القضية الفلسطينية فهي ليست ملكا للشعب الفلسطيني فقط، بل لحزب الله ونظام نجادي أيضا، ومن حقهما الاعتراف بحكومة حماس وتعزيز الإنقسام الفلسطيني ورفض السلطة الفلسطينية. هذه الحيثيات والمواقف الموثقة تدلّل على أنّ نظام ولي الفقية الخميني منذ عام 1979 وهو يستعمل القضية الفلسطينية مجرد غطاء للتلاعب بها عبر خطابات نارية لم تقدم للشعب الفلسطيني أية خدمة ميدانية وإذا كان أحمدي نجاد يتغنى بشعوب المنطقة فليته يخبرنا ماذا قدّم شعبه وحكومته للقضية الفلسطينية غير الخطابات؟.