[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

الثقافة.. البعد الغائب (تعقيبا على حوار ياسر العواضي)

اطلعت على الحوار الأثير الذي نشرته صحيفة "الشارع" الغراء، وأجراه الزميلان نايف حسان ومحمد عايش، العدد السابق مع الشيخ ياسر العواضي عضو مجلس النواب في اليمن، عضو اللجنة العامة للمؤتمر الشعبي العام، وفيه أشار إلى جزئية مهمة عكست نظرة دقيقة لديه، كما لفتت انتباهي شخصيا نحو الشيخ ياسر العواضي الذي لم أكن أتوقعه سلفا بتلك الدرجة من الدقة والتحليل وإن لم أتفق مع كل ما أطرحه، أحببت التعليق عليها لأهميتها، وهي قوله بالنص: "بدون شك في 22 مايو 90م قام يمن جديد وحدث تغيير سياسي كبير جدا بعد الانغلاق والتضييق والعمل السري، انتقلنا إلى التعددية السياسية والحزبية؛ لكن أي تغيير سياسي يجب أن يُصاحب بعملية تغيير ثقافي؛ إذا أردنا للتغيير السياسي أن يستمر ويكون إيجابيا بالفعل. التغيير السياسي يحتاج تغييرا ثقافيا يسانده، بمعنى أنك إذا أردت أن تقوم بتغيير ثقافي لصالح الديمقراطية فيجب أن تقوم بتغيير ثقافي لصالح الديمقراطية وقيمها..."

وقد أصاب كبد الحقيقة بهذه الإشارة المهمة على قصرها والتي تستحق عندها التريث لنرى بالفعل كم أضاعت القوى التقليدية الحاكمة الفرصة التي كانت ستنقل اليمن نقلة نوعية على مستوى الإقليم بعد عام 90م؛ حيث ركزت النخبة السياسية جل اهتمامها على جوانب بعضها شكلية وأدارت للبعد الثقافي والفكري ظهرها، غير مكترثة لطبيعة الدور الذي يمثله البعد الثقافي في التنمية السياسية لأي بلد ما، وذلك بحكم تركيبتها الثقافية نفسها.

وأتذكر أني أجريت حوارا صحفيا قبل أشهر مع الأستاذ نصر طه مصطفى رئيس مجلس إدارة وكالة الأنباء اليمنية سبأ رئيس التحرير لملحق أفكار الأثير التابع لصحيفة الجمهورية وقد أشار إلى ذات الموضوع وبرؤية أوسع، وهو ما يؤكد المقولة التي ذهب إليها الشيخ ياسر العواضي على الرغم من تقليديته أو كونه من صفوف القوى القبلية التي لا تصبغ سياستها غالبا بقليل من الثقافة؛ بل لا ترى في المسألة الثقافية برمتها أمرا ذا بال. وهاهو الشيخ ياسر العواضي يكسر هذه القاعدة، ويبدو كما لو كان من فئة المثقفين بما ذهب إليه. وهي التفاتة محسوبة له نأمل أن يعمل من موقعه الرسمي أو الحزبي أو القبلي على إيجاد آلية للتوازن على الأقل فيما يتعلق به هو شخصيا تجاه الآخرين وتجاه الهم الوطني.

المسألة الثقافية قضية مؤجلة على طاولة الساسة ومعظمهم سابقا ولاحقا من القوى التقليدية الذين يرون في الثقافة ضرة أو خصما مناوئا لهم لم تتجسد سلوكا حيا في واقع الكثير من ساستنا الذين خطفوا مشروع الثورة عام 62م فما بعده، وخطفوا مشروع الوحدة أيضا عام 90م وما بعده، ولا يزالون إلى اليوم يمارسون جنايتهم على هذا الوطن والشاهد ما وصلت إليه البلاد اليوم!

الأعجب من ذلك حين تحولت بعض الطلائع النخبوية من الشعراء والأدباء والكتاب والمثقفين من طلائع ذات رسالة وطنية في البناء والتغيير إلى كتبة عند بعض المشايخ والقوى التقليدية وأصبحوا كفقهاء البلاط سابقا وكتبة الخلفاء الذين نقرأ عنهم في التاريخ، وإن كانوا قلة أمام كثيرين ممن يلعبون دورا تنويريا رائدا في مواقع متعددة. وإن كان الغالب على هذه الطلائع بشكل عام بعدها إلى حدما عن القضايا الجوهرية واغترابها عن مجتمعها وسط تكالب القوى التقليدية التي تقدمتها كثيرا في ميدان الفعل السياسي أخذا وعطاء، سلبا وإيجابا، ولا تزال.

جفاف السياسة لا يقوى على الصمود أمام المتغيرات، وهي مسألة قديمة/ جديدة لطالما كان سقراط نفسه ينادي بالقول: إما أن يتفلسف الحكام أو يحكم الفلاسفة، لأن السياسة بلا ثقافة جنون، والثقافة بلا سياسة خيال، وبهما معا يكتمل المثقف والسياسي. وهو ما ينقص كثيرا من الحكام اليوم، ولو استقرأنا تاريخ الساسة من المثقفين والمفكرين لوجدنا أن عصورهم كانت أزهى عصور التاريخ استقرارا ورخاء وأمنا. وهاهي أوربا لم تشهد الاستقرار والتنمية والرخاء إلا في عهد العلم وبعد ثورة ثقافية أشعلها مفكرون منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي، وقد عرف هناك ما سمي بالثورة الثقافية في القرن السابع عشر قبل الثورة الصناعية التي تلته خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والتي كانت نتاجا للثورة الثقافية في الأساس، وتخيل لو لم يكن مثقفون ومفكرون من مثل فولتير وجاليلو وبرونو وجان جاك روسو وبرناردشو ونيتشه وجوته ودانتون وغيرهم الكثير ما الأمر الذي ستكون عليه أوربا؟ هؤلاء ونظراؤهم هم من صنعوا تاريخ أوربا في زمن دمرتها حروب الجنرالات ونزقهم المقيت في التعطش للدماء! وفي فترات متقطعة من التاريخ اليمني ما يمكن أن يكون دليلا أيضا على ذلك "الدولة الرسولية أنموذجا"

لا شيء يدمر الوطن أي وطن كالغباء السياسي الذي يستحكم على نخبته المسيطرة، ولا شيء يصنع الحياة بوجهها المشرق كالعلم، وتخيل لولا وجود النخبة الثقافية قبل السياسية لما كانت أولا ثورة 48م الدستورية التي مثلت عود الثقاب ليس في اليمن فحسب؛ بل في الوطن العربي كله باعتبارها أول ثورة دستورية في وجه الإقطاع على مستوى الوطن العربي كاملا، بصرف النظر عما لحقها من انتكاسة لم تكن في الحسبان. إن رجالات هذه الثورة كانوا رموزا ثقافية بالدرجة الأولى قبل أن يكونوا رموزا سياسية جمعوا بين ثقافة المدرستين التقليدية والإحيائية، كما هو الشأن بالنسبة لرموز ثورة 26 سبتمبر 62م. وبالتالي فعطاؤهم متجدد على الدوام وندين لهم نحن اليوم بذلك الدور الأثير الذي كان نتاجا لحراك ثقافي بالدرجة الأولى.

إننا اليوم أحوج ما نكون إلى إعادة النظر في البعد الثقافي والفكري واليمن بهذه الصورة حتى نحقق التوازن الخلاق بين ميكافللية السياسية ومثالية الثقافة لتكتمل مؤهلات النهوض والصيرورة التاريخية ليمن السادس والعشرين من سبتمبر والرابع عشر من أكتوبر المجيدتين التين تكللتا بيوم الثاني والعشرين من مايو المجيد، ونلفت عناية مسئولينا إلى إيلاء هذا البعد أهمية كبرى وهم يلملمون جسد هذا الوطن المنهوك بجلاميد الفساد التي يرزح تحت وطأتها بفعل الرؤية القاصرة في سياستهم التي تفتقد فيما تفتقد إلى السياسة والثقافة معاً.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى