تعبنا من نقد بلادنا. مع مرور الوقت قد يتحول النقد إلى كراهية، إذ يتجاوز الأمر نقد مؤسسة الحكم إلى إبداء الاشمئزاز من نمط عيشنا، ومن الأطعمة "السلتة تحديداً"، ومن البرع والقبائل، ناهيك عن نقد مبالغة أهل الحجرية في تقدير الضغائن الثقافية والحياة عليها.
تحول الأمر إلى مزاج حتى أن أحدهم يردد: "أبو يمن".
وفي أغلب حالات سأم الأشياء يتسابق الجميع في إظهار كم أن المحيطين بنا متخلفون، ناهيك عن إيراد أمثلة مملة عن التزام الناس في مطارات العالم بطوابير الانتظار وما شابه.
الجميع يستشهدون تحديداً بكيف أننا اليمنيين مجرد فضائح في مطار القاهرة.
وفي مطار القاهرة هذا شاهدت ضابط جمارك لا أسوأ من مؤخرته الهائلة وهو يقول لأحدهم: أبو يمن.
لقد كتبت عن كيف أنهم في عواصم البلاد العربية يعاملوننا بنفسية مدرسين ابتعثوا إلى اليمن في السبعينيات، وكيف أنهم ينقدوننا بتهافت وسذاجة.
غير إن الموضوع هنا هو في حالة مزاجية نعيشها نحن، وأغلب من يقوم بها ويمارسون ازدراء أهلهم هم في الغالب مغتربون في السعودية أو تجار ومثقفون غالباً ما يتصرفون على أنهم حداثيون هم الأقدر من غيرهم على إضافة احتقارات جديدة من نوع احتقار البرع. ويرفع أحدهم أصبعه مردداً أثناء هجاء البرع: (قرقم) وما شابه.
ويتجول الباعة المتجولون وعمال البناء باليومية، وكل المتعبين يمرون بدون عزاء، لا هم طبقة كادحة، ولا هم سواعد الوطن، إذ قد تم اختزال هويتهم في حالة رثاء واستعلاء تجعل من جهادهم غير ذي معنى.
لقد عرفت سائقي تاكسيات ببيروت ودمشق والقاهرة مثلاً، ويمكنني الجزم هنا أن أي سائق تاكسي في صنعاء متحضر فطرياً مقارنة بنظرائه في تلك العواصم، لديه شيء له علاقة بالأخلاق، ولا يحدث أن يشعر أحدنا أن ثمة ابتزاز رخيص قد يتعرض له أثناء الحصول على أي خدمة في صنعاء.. سواء في التاكسي أو المطعم أو عند بائعة الملوج.
ثم إنهم في غير بيروت ليسوا أنيقين إلى هذه الدرجة التي تجعلنا كلما بدأ حديث عن صنعاء نفكر في الملابس الرثة.
نحن فحسب لم نختبر الاتيكيت وما يعرف ببرستيج العلاقات والحديث. نحن جميعاً لا نجيد ذلك.
حتى وأثناء انهماك المقيل في نقد فجاجة الشخصية اليمنية من غير فئة الجالسين، فإننا نحدث جلبة أثناء ذلك النقد وتشعر وكأنك تمضغ القات في مسلسل مكسيكي مدبلج تتحرك فيه الشفاة قبل أو بعد سماع الصوت.. (ها أنا أتورط في نقدنا).
ثمة جلد ذات رغم عدم محبتي لهذه الخلة إلا أنه جلد ذات أقرب إلى إدمان عملية الجلد أكثر منه إدراكاً ذكياً لما ليس ملائماً في حياتنا.
إن إحصاء النقائص على هذا النحو يخلق سوء فهم وضغينة بينك وبين المكان الذي تعيش فيه.
إذ يبدأ الذهن لا إرادياً في ترديد أسباب هذه العلاقات الاضطرارية بيننا وبين ما نعيشه وما نمر به.
ونتحول مع مرور الوقت أثناء الامتعاض المستمر إلى غرباء. إننا وفي غمرة النقد نعيش جميعاً على هذا التضامن غير المعلن.
أين تضع تجربة ومثال أن يمضي أحدهم شطراً من عمره بدون راتب ولا دخل من أي نوع ويجد دائماً مساندة هنا وهناك.
يجد صداقات دافئة متفهمة تحول بينه وبين أن تكسر الحياة ظهره. لسنا هنا بصدد مديح الكسل، إذ إن المثال هنا يتجاوز فكرة نقد التواكل إلى تساؤل حول القوة الأخلاقية ومدى حضورها في مثال كهذا عن حياة رجل بلا دخل.
يشبه الموضوع هنا ما يردد في تجربة الحياة برمتها عن الشخص الجيد لمآثر الحظ.
إننا وفي هذه التجربة اليمنية أشبه بنهاية فتاة سوداء في فيلم، فتاة مندفعة وطيبة القلب، عنيفة بما يكفي لأن تعيش على حساب السطو على المصارف، المهم أنهم حاصروها وبدأوا يطلقون النار وهي تحاول فقط أن تبدو شجاعة.
وكان صوت الرصاص مكتوماً تماماً لحساب موسيقى رثائية أليمة تردد: لست مجرماً، إن حظي سيئ.