ثمة من مازال لا يصدق وجود تحالف ستراتيجي ، وليس تكتيكي ، أمريكي – إيراني رغم مرور اكثر من تسعة اعوام على تقديم اول دليل كبير ومادي وحاسم وهو غزو افغانستان وبعد ذلك غزو العراق بتعاون أمريكي- إيراني رسمي ومعلن على لسان اكثر من مسئول إيراني ! اليوم لدينا دليل جديد مضاف لا يدحض ايضا وهو الاتفاق الأمريكي – الإيراني على دعم ترشيح نوري المالكي لفترة ثانية في رئاسة الوزراء ، رغم صخب العراك الاعلامي بين الطرفين ! لماذا هذا التلاقي الستراتيجي الأمريكي- الإيراني حول العراق ومظهره الاخير الاتفاق على دعم المالكي؟ فيما يلي اهم الاسباب:
1 - ان الحقيقة الستراتيجية الاساسية التي تتحكم بغزو العراق ومستقبله هي ان المشروع الاستعماري الأمريكي – الصهيوني، المتلاقي ستراتيجيا مع المشروع القومي الاستعماري الإيراني في العراق يقوم اساسا على تقسيم العراق أو تقزيمه، وفي حالة لم تنجح عملية تقسيمه فيجب (تحييد) العراق لمراحل تاريخية طويلة جدا عن طريق تقزيمه. وكان دعم إيران للغزو مجرد بداية لتنفيذ هذا المشروع، وبعد الغزو اصبحت إيران هي القوة الرئيسية التي تعتمد عليها أمريكا والصهيونية في تدمير وشرذمة العراق.
ان المليشيات والاحزاب التابعة لإيران كانت وما تزال تشكل القاعدة الاساسية لدعم وتطوير الغزو وتنفيذ اهم اهدافه على الاطلاق وهو شرذمة العراق على اسس طائفية وعرقية أو اثنية، هذه ابرز ظواهر الغزو واخطر ادواته والتي يجب الانتباه اليها كلما اردنا ان نعرف ما الذي يجري في العراق المحتل ويؤدي جهلها أو تجاهلها إلى خطأ قاتل في فهم ما يجري.
من هنا فان دعم أمريكا لنوري المالكي يعود اساسا إلى حقيقة انه يستطيع، بفضل نزعته الطائفية المتطرفة والمتجذرة فيه (جينيا) كما اثبتت الاحداث، تجذير وتثبيت احد اهم أهداف الاحتلال وافرازاته المقيتة: تحويل خطوط الفصل الطائفي الحالية، الطارئة والمؤقتة، إلى اسوار عالية وقوية ودائمة تقسم عرب العراق إلى سنة وشيعة، وتخلق بمرور الزمن هويتين لعرب العراق خطط لتطغى على هويتهم القومية، وهما الهوية الشيعية والهوية السنية. لقد راينا كيف ان الاحتلالين الأمريكي والإيراني تجنبا كليا في السنوات السبعة التي مضت الحديث عن العرب في العراق واصرا على الحديث عن شيعة (يشكلون الاغلبية) و(سنة لا يتجاوز تعدادهم الـ20 % من السكان)، كما روجت الدعاية الأمريكية والإيرانية، واكراد يقدم لهم عدد اكبر من السنة !
وفي هذا الاطار فان من ادعوا انهم يمثلون (الشيعة) حزبيا كانوا يتحدثون باسم الشيعة فقط كهوية منفصلة عن الهوية العربية وليس باسم الشيعة العرب، وجعلوا علنا ولائهم للطائفة وليس للوطنية أو القومية ومن ثم لإيران وليس للعراق، مقابل ذلك، ولاكمال لعبة شرذمة العراق فان من يدعي انه يمثل السنة حزبيا تحدث باسم السنة وليس باسم السنة كعرب !
ويجب الانتباه كليا إلى مسألة غاية في الاهمية وهي ان هذا الوضع الطارئ قابل في اي لحظة للزوال اذا وصلت حكومة وطنية متحررة من الطائفية، الامر الذي يهدم كل جهود الاحتلال لجعل الطائفية، وليس الوطنية والقومية كما كان الحال قبل الغزو، هوية لقسم من العراقيين، ولذلك فان بقاء المالكي من هذه الزواية ضرورة لابد منها لتحويل ما هو طارئ إلى حال دائم اي تقسيم المسلمين العراقيين إلى سنة وشيعة بصورة ابدية، ونتيجة عبادته السلطة وتنفيذه لمخطط تقسيم العراق، أو تقزيمه، بصفته إيراني الولاء فانه مستعد لمنح الانفصاليين الاكراد ما يطالبون به لوضع اسس مادية لانفصالهم عن العراق مقابل دعمهم لتجديد رئاسته للوزراة. وتلك هي مطالب أمريكية إيرانية اسرائيلية معروفة دون ادنى شك.
2 – لقد كان الاحتلال الأمريكي والإيراني وراء تشجيع المالكي على الفساد ودفعه اليه بقوة والذي وصل إلى نهب اكثر من 400 مليار دولار، كما ان افظع جرائم الاحتلال ارتكبت بواسطة حكومة نوري وبتشجيع ودعم أمريكي إيراني ايضا مما جعله مطلوبا من جميع القوى، والهدف وراء هذا التشجيع والدعم الأمريكي الإيراني للمالكي على النهب والجريمة هو الامساك به من ذيله الفاسد والاجرامي وجعله يحتاج للحماية من الحساب بعد مغادرته المسئولية الرسمية. من هنا اختلط ما هو شخصي بما هو حزبي وطائفي في ذات المالكي، مما أهله ليكون افضل ضمانة لحماية خطوط الفصل الطائفي بعد ان انشأ، وبدعم أمريكي – إيراني واضحين ومحسوبين، قوات مسلحة وقوى امن طائفية الولاء تعزز دوره وتحميه وتمكنه من توجيه ضربات قوية للمقاومة ولكافة خصومه. وبذلك يمكن تحقيق نوع من الاستقرار على قاعدة عراق منشطر إلى (اعراق وطوائف) كما وصف دستور الاحتلال العراق المطلوب، وعدم تعرضه – اي العراق - لتهديد انهاء الحالة الطارئة، وهو تهديد قوي جدا وبارز، وعودة الحالة الطبيعية وهي غلبة الرابطة الوطنية على الرابطة الطائفية. ان توريط المالكي بالفساد والجريمة اريد به تشكيل حافز اساسي لديه يتعلق بالبقاء الجسدي ويجعله اداة أمريكية – إيرانية طيعة.
3 – ان نوري بما أرتكبه من جرائم بشعة بحق الشعب العراقي ونهبه المكشوف يؤكد انه مجرد من التحسب للمحاسبة على اعماله من ناحية ردود الفعل عليها مهما كانت، والدليل هو انه سجل انه اخطر لص نهب اكبر كمية من المال العام في تاريخ العراق كله، وانه اخطر واقسى جزار في الثمانية الاف عام الماضية من تاريخ العراق، حيث قتل ما يزيد على مليون انسان وشرد اكثر من ستة ملايين عراقي من ديارهم ومارس اسوأ انواع التعذيب بحق مئات الالاف من العراقيين، لذلك فهو مستعد بحكم هذه الطبييعة الاجرامية واللصوصية المتجذرة للقيام باي عمل من اجل بقاء نهبه وحماية نفسه ومواصلة ابقاء العراق المنشطر حاليا وتحويل الانشطار إلى حالة دائمة عبر المزيد من المجازر والاضطهاد للعراقيين، وهذا هو ما تحتاجه أمريكا وإيران لمواصلة تحييد العراق.
4 – ان العراق المنشطر داخليا والقائم على توازنات قلقة جدا وهشة، بفضل خطوط الفصل الطائفي والعرقي التي وضعها دستور الاحتلال، هو وحده الذي يمكن تهميشه خارجيا وجعله ليس اكثر من تابع يدور في افلاك متعددة تملك النفوذ داخل العراق خصوصا عبر الاداة الطائفية. وهذا الهدف يخدم عدة اطراف ومنها:
أ – يخدم الكيان الصهيوني الذي يرى في عراق ماقبل الاحتلال، اي العراق الواحد والقوي والمستقر، الخطر الاول على وجوده، وهو ليس سرا بل سياسة صهيونية معروفة وثابتة.
ب – يخدم نظم عربية لا تبرز ويصبح لها شأن اقليمي الا بتغييب العراق ومصر والسعودية، لذلك تريد تقزيم العراق أو تقسيمه، من اجل مواصلة الدور غير الطبيعي الذي تلعبه.
ج – يخدم الكويت.
د – يخدم أمريكا التي تستطيع مع عراق ضعيف ومهمش تنفيذ اي طلب أمريكي يخدم المصالح الأمريكية.
ه – يخدم اطراف اقليمية مثل إيران التي لا تستطيع لعب دور اقليمي يلحق الضرر بالمصالح العربية بوجود عراق قوي.
و – يخدم تغييب العراق قوى دولية مثل الاتحاد الاوربي الذي نرى الان كيف ان اكثر الدول (مسالمة) فيه مثل الدول الاسكندنافية التي كانت تتجنب الدخول في مشاكل العالم نراها الان تتحدى العرب وتعتدي عليهم وتهين مقدساتهم، ومنها تنطلق اشد الاعتداءات حساسية مثل التعرض لمن يجب ان لا يتعرض له احد وهو نبينا الكريم (ص)، وتفرض شروطا عليهم في الازمات الساخنة في الوطن العربي مثل السودان والعراق وفلسطين وغيرها. وعلى كل عربي ان يسأل نفسه بجدية ووضوح: هل كانت النرويج والسويد مثلا تستطيعان في عهدي عبدالناصر وصدام حسين التجرأ على العرب بهذه الطريقة المهينة؟
5 – ان الاتفاق الأمريكي – الإيراني على دعم المالكي ليس غريبا بل هو امتداد للموقف الستراتيجي لكل منهما، القائم على تفكيك العراق داخليا ليكون ذلك اساس تقزيمه وتهميشه خارجيا. والدور الإيراني في تفكيك العراق داخليا عبر فتن طائفية كان ناجحا بصورة خطيرة، ويجب ان نكرر دوما حقيقة تاريخية معروفة وهي ان أمريكا، وقبلها بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني، فشلت في اشعال فتن طائفية رغم كل جهودها الجبارة ورغم الاموال الكثيرة التي صرفتها، لذلك فالنجاح الإيراني في هذا المجال يشكل مدماكا ستراتيجيا قويا جدا لعلاقات وثيقة بين أمريكا وإيران والكيان الصهيوني واطراف اوربية.
6 – ان تهميش وتقزيم العراق المفكك ما هو الا مقدمة لتفكيك كل الاقطار العربية وليس اغلبها، بما في ذلك الاقطار التي تتعاون انظمتها مع أمريكا والكيان الصهيوني وإيران كما اثبتت تجربة السنوات السبعة الماضية، والهدف هو:
أ – خدمة امن الكيان الصهيوني وضمان تطبيع عربي شامل معه يوفر الفرصة التاريخية التي انتظرها وهي تحوله إلى مركز حضاري وسط صحراء تخلف، ومن ثم تشكل حالة اعتمادية عربية رئيسية على الكيان الصهيوني وتحول اسواقهم إلى خير مجال لتصدير السلع الصهيونية وتلك هي اهم ضمانات بقاء الكيان. ان التطبيع الشامل مع الكيان الصهيوني يوفر له الفرصة التاريخية الاعظم التي انتظرها عقودا من الزمن وهي تحوله إلى مركز صناعي تكنولوجي يصدر منتجاته إلى العرب المهمشين والطفيليين، على اساس ان احدى اهم ازماته التكوينية الخطيرة التي تهدد اذا استمرت بزواله بلا حروب هي ازمة حبس قدراته الصناعية التكنولوجية داخل حدود فلسطين المحتلة، وهي حدود تخنق الكيان وتخرب كل محاولة لتحول اسرائيل إلى قطب صناعي اقليمي ثم دولي وتلك هي قاعدة قيام اسرائيل الكبرى.
لذلك فان التصدير للعرب اولا وقبل اي طرف اخر يعد اهم شروط نمو وتطور وتوسع الكيان الصهيوني وحله لمشاكله التكوينية القاتلة، وانهاء اعتماده بصورة جوهرية على الدعم الخارجي الذي مهما استمر سيتوقف في يوم ما.
ان الاعتماد على الذات وانهاء الاعتماد على الخارج هو هدف صهيوني جوهري لاتقوم (اسرائيل الكبرى) بدونه، وهذا الهدف مرتبط مباشرة بالتطبيع مع العرب واستخدام اسواقهم واموالهم ويدهم العاملة لدعم القاعدة الصناعية الصهيونية، من جهة، ومنع تقدمهم وتطورهم العلمي التكنولوجي لكي لا يطوروا صناعات وزراعة حديثة تمكنهم من تحقيق نوع من الاعتماد على الذات، من جهة ثانية.
لذلك فان ازمة عدم التصدير الكثيف للوطن العربي تشكل بحد ذاتها الخطر الاعظم على الكيان الصهيوني وليس حروب العرب. هنا نرى ان تطور العراق التكنولوجي والعلمي واعداده ل(جيش) من العلماء والمهندسين والخبراء وخروجه على الخطوط الحمر الغربية والصهيونية وبدء عملية تطوير قاعدة علمية تكنولوجية تحرره من اغلب قيود الاعتماد على الغير كان احد اهم اسباب تدمير العراق وغزوه واجتثاث نظام الحكم الذي خرج على قاعدة ان العرب مستهلكين وتابعين ومهمشين وطفيليين.
ان الدرس الاكبر لنا كعرب وليس كعراقيين فقط هو التالي: ان نشوء (اسرائيل الكبرى) يمر من فوق ركامات الكيانات العربية كلها لتجنب نجاح اي قطر عربي في تحقيق قفزة نوعية داخله في المجالات العلمية والتكنولوجية والعسكرية والاجتماعية، هذه الحقيقة رايناها منذ عبدالناصر وحتى صدام حسين. وعلى هذا الاساس الستراتيجي فان التقدم نحو اقامة (اسرائيل الكبرى) بعد التخلص من عبدالناصر واحتواء المقاومة الفلسطينية، يمر عبر تدمير العراق القوي والمتقدم علميا وتكنولوجيا وتقسيمه مادام يملك قدرات بشرية مؤهلة علميا وتكنولوجيا كسرت الاحتكار الصهيوني في هذا المجال، ومادام العراق موحد سياسيا ومتفوق عسكريا وهو ما يضمن منع الكيان الصهيوني من العربدة والغزو العدوان على العرب.
انظروا لما حصل في العراق بعد الغزو ترون الصورة الحقيقية: لم يكتفي الغزاة الأمريكيون والإيرانيون وورائهم الصهاينة باسقاط النظام الوطني بل دمروا العراق دولة ومجتمعا وعلماء وتاريخ وهوية وطنية، انه الجراد الصهيوني لكنه يمشي على اقدام أمريكية و إيرانية.
ب – خدمة اهداف أمريكا بتحويل العراق إلى مستورد رئيسي للغذاء والسلع الأمريكية، بالاضافة للسيطرة على موارده النفطية والقضاء على ارتباطه بهويته القومية كقطر عربي، ولذلك لم تكن مفاجئة ان من بين اول قرارات بريمير الحاكم الأمريكي للعراق تخريب الزراعة العراقية واصدار قانون يلزم بشراء البذور من أمريكا ومنع استخدام البذور العراقية، بالاضافة إلى تدمير القاعدة الصناعية ومحاولة القضاء على العقل العراقي المتمثل بعلماءه وخبراءه.
د - خدمة هدف حل بعض المشاكل الستراتيجية في بناء تركيا وإيران عن طريق اشراكهما في تقاسم المنافع الستراتيجية لتهميش وتقزيم العراق، سواء كانت من قوة العراق أو امكانيات العرب الاخرين، وذلك هو احد اهم شروط قيام النظام الاقليمي الجديد الذي يفترض ان يضم تركيا وإيران والكيان الصهيوني تحت الزعامة الأمريكية طبعا.
يتبع بإذن الله
*كاتب وسياسي عراقي