ان الاصرار الأمريكي – الإيراني على اعادة المالكي رئسا للوزراء يستبطن هدفا ستراتيجيا خطيرا وهو الرفض الأمريكي – الإيراني المطلق لقيام نظام حكم وطني حقيقي قوي ومركزي في العراق قادر على عبور وتحطيم خطوط الفصل الطائفي والعرقي.
ان ضرب النظام الوطني واسقاطه كان ترجمة لهذا الهدف الصهيوني الأمريكي – الإيراني الخطير، ولذلك فان (العراق الجديد) يجب ان لا يكون قويا ومركزيا وعابرا للطوائف والاثنيات، بل لابد ان يكون ضعيفا داخليا من خلال توزيع القوى وتشتيتها المتعمد والمخطط، ومهمش خارجيا من خلال امتصاص قدراته الداخليه واستنزافها وتوزيعها على الاطراف أو ما يسمى الفدراليات، وهذا لن يتحقق الا اذا استمر قيامه على فرض خطوط فصل طائفية واثنية واضحة وتحرك بين فترة واخرى لتدمير اي احتمال لتوحد العراقيين.
ان اجتثاث البعث يقع في قلب هذا الهدف، وليس للاسباب التي طرحت، وهنا لابد من التأكيد المتكرر على حقيقة ان اجتثاث البعث لا يقصد تصفية حزب البعث فقط بل تصفية ما يرمز اليه وهو هويته الوطنية وانتماءه القومي العربي التقدمي العابر للطوائف والاديان والاثنيات، والذي يمثل كل العراقيين ويؤمن بمبدا المواطن المتساوية، وجسد ذلك عمليا في اقامته اثناء حكمه للعراق نظاما احترم كل مكونات العراق ولم يفرق بينها ومنحها حقوقها، كما انه كان نظاما قويا تحول العراق في ظله إلى القوة الاقليمية العظمى الابرز والاقوى في نهاية الثمانينات. من هنا فان ما يجب عدم تجاهله هو ان هذا الاجتثاث هو خطة مصممة للقضاء على اي اتجاه وطني وقومي وتقدمي في العراق يبرز ويتكون وبغض النظر عن التيار السياسي والحزبي الذي يمثله. والمالكي في هذا الاطار يعد اكبر ضمانة لبقاء خطوط الفصل الطائفي والاثني قائمة ومتحركة ومحركة في المجتمع تمنع قيام نظام وطني عراقي قوي مجاله الحيوي الطبيعي والقومي هو الامة العربية.
نكررالتاكيد : ان شرذمة وتقسيم الاقطار العربية هدف واضح جدا والتاكد منه يكفي من مجرد قراءة الوثائق الأمريكية والصهيونية والإيرانية التي صدرت، والاهم قراءة الممارسات العملية لهذه الاطراف خصوصا منذ الثمانينيات والتسعينيات، وابرزها تقرير (القرن الأمريكي) الذي وضعه المحافظون الجدد في أمريكا وحاولوا تطبيقه بعد الغزو بصيغة فرض الفدرالية ونظام المحاصصات، ووثائق الكيان الصهيوني خصوصا وثيقة عوديد ينون (سراتيجية لاسرائيل في الثمانينيات) التي طالبت بتقسيم العراق إلى ثلاثة دول، ووثائق إيران التي تبنت شعارا مزيفا وخطيرا هو (نشر الثورة الاسلامية) وتحديد العراق من قبل خميني ليكون الهدف الاول للغزو الإيراني الاستعماري وتبني ولاية الفقيه التي ارادت جعل كل شيعي عربي تابعا لإيران وليس لوطنه وقوميته العربية، وهو ما يؤدي اذا طبق إلى تفسيخ الهوية العربية والانتماء القومي العربي،
لذلك لا مفر من الاعتراف بان قراءة تلك الوثائق يثبت بان التدمير المنظم للعراق دولة ومجتمعا وهوية وعدم الاكتفاء باسقاط النظام الوطني هو التعبير العملي عن توجهات ستراتيجية أمريكية وإيرانية وصهيونية مشتركة ومتلاقية ومتداخلة عضويا ترفض بقاء العراق العربي الواحد القوي وتحارب اي نظام حكم قوي ومركزي في العراق سواء كان بعثيا أو غير بعثي.
وهنا تلتقي أمريكا والكيان الصهيوني وإيران حول هذا القاسم المشترك والذي يشكل العنصر الرئيسي في عمل هذا التحالف وتقاربه واستمراره رغم وجود الكثير من التناقضات بين اطرافه لكنها تعد ثانوية مقارنة بهدف تقزيم وتهميش وتقسيم العراق كمقدمة لابد منها لتقسيم كافة الاقطار العربية وبلا اي استثناء. هذه الحقيقة يجب عدم نسيانها من قبل اي وطني عراقي ومن قبل اي قومي عربي في الوطن العربي لان ذلك هو المقدمة الضرورية لعدم فهم ما تريده أمريكا والصهيونية وإيران حقا، وعدم الفهم أو اساءته يعد انتحارا حقيقيا لامتنا العربية من المحيط إلى الخليج العربي.
أذن الدعم الأمريكي – الإيراني للمالكي هو تحصيل حاصل للتوافق الستراتيجي بينهما ووجود هدف مشترك لهما وهو تدمير القومية العربية واجتثاثها ومحو الهوية الوطنية لكل الاقطار العربية وفرض بديل عليها، هو الكيانات الطائفية والعرقية والاقليمية والانعزالية والمصلحية. وفي هذا الاطار فان تشكيل المالكي للحكومة الان ليس كتشكيله الحكومة في عام 2006 ففي ذلك العام كانت عملية وصول المالكي للحكم، وعبره وصول إيران إلى الحكم مباشرة، وظيفته تكريس وترسيخ حكومة إيرانية في العراق تدار من قبل المالكي، والان اصبح الهدف هو استثمار ما بنته إيران عبر المالكي لترسيخ وجودها وتثبيته وعدم السماح بهزه واعادة المحاولات الإيراني إلى نقطة الصفر مع ان سمعتها التي وصلت الحضيض وذلك وضع خطير ولا يسمح لها باعادة محاولة السيطرة اذا لم يعاد تعيين المالكي.
ان السيطرة الإيرانية على العراق هي الخطوة التاريخية المحسوبة والخطيرة على طريق احكام السيطرة عليه وجعله اداة إيرانية تسخر طاقاتها وابناءها لخدمة المصلحة القومية الإيرانية، واذا فشلت السيطرة فان إيران ستعمد، وبدعم أمريكي – اسرائيلي مباشر، إلى تقسيم العراق باعادة اشعال الحروب الطائفية والعرقية ومواصلة شرذمة العراق والعمل المنظم لتدمير المقاومة العراقية بكافة فصائلها وسحق القوى الوطنية بالدبابات أو بالمال.
ولهذا لا يجوز باي شكل وتحت اي تبرير تجاهل حقيقة خطيرة وهي ان المرحلة القادمة واذا نجح المالكي في تشكيل الحكومة ستكون اخطر مراحل الاحتلال واكثرها حساسية لانها مرحلة كسر العظم النهائي بين الشعب العراقي بقيادة كافة تياراته وقواه وشخصياته الوطنية وطليعتها المقاومة بكافة فصائلها من جهة، والتحالف الأمريكي – الصهيوني – الإيراني الكامل المدعوم من اطراف عربية من جهة ثانية. وهذه الحقيقة تفسر الاستكلاب الإيراني على السلطة من خلال تدخلها المباشر والوقح في الشأن العراقي وعبر عناصرها واتباعها، وتفسر هذه الحقيقة ايضا استعداد أمريكا لتحمل ادانه عالمية لن تزول نتيجة تجاوزها والغاءها نتائج عملية انتخابية عدتها هي (عمليه ديمقراطية في عراق ديمقراطي) واهمالها نتائج الانتخابات وهي (فوز العراقية) وقبولها بتنصيب المالكي مرة اخرى.
ولتفسير هذا الموقف الأمريكي الذي يبدو غريبا في الظاهر لابد من التأكيد على ان السبب هو ان اياد علاوي المحسوب عليها غير قادر على تقسيم العراق حتى لو اراد، بحكم افتقاره للقوة الجماهيرية المطلوبة لتنفيذ قرار تاريخي وخطير كتقسيم العراق، اما المالكي فلديه قوة اتباع إيران في العراق ولديه ما انشأه من قوات مسلحة وامنية، والاهم والاخطر لديه القوات الإيرانية الجاهزة للتدخل الفوري للسيطرة على العراق تنفيذا لاتفاقية سرية وقعها الجعفري حينما كان رئيسا للوزراء مع إيران واعاد المالكي التوقيع عليها، وهذا هو الشرط المطلوب لتنفيذ جريمة تقسيم العراق.
ما العمل لمواجهة هذا الاحتمال؟
لا مفر من اقرار ان ما سيحصل غدا اذا شكل المالكي الحكومة هو بدء نوع اخطر من الحرب في العراق، ولذلك لم يعد تمسك البعض بمواقف ما قبل هذا الحدث امرا مقبولا وطنيا وستراتيجيا، لان بقاء حالة عدم التوحد واستمرار حالة الجفاء والتصرفات السلبية بين بعض القوى الوطنية يسهل مهمة أمريكا وإيران والكيان الصهيوني وهي تقسيم العراق أو تقزيمه، ولذلك علينا تذكر ان دحر هذا المخطط الأمريكي- الإيراني – الصهيوني طبعا، مرهون ومشروط بالالتزام بتنفيذ الخطوات التالية فورا أو على الاقل باسرع وقت ممكن :
1 – اعتبار المهمة الاساسية لكافة القوى الوطنية وفصائل المقاومة هي اسقاط المالكي وانهاء حكومته بكافة الوسائل، وفي مقدمتها واهمها التصعيد الشامل للمقاومة المسلحة واجبار الاطراف المتامرة الثلاثة (أمريكا وإيران والكيان الصهيوني) على تبني سياسة دفاعية صرفة بدل سياسة الهجوم التي نفذت منذ عام 2006 بعد نجاح أمريكا في تشكيل الصحوات وشق المقاومة. وتقترن السياسة الهجومية بتبني واتباع كافة التكتيكات والمناورات الخادمة للستراتيجية الهجومية لاجل ضمان الوصول إلى هذا الهدف الوطني الكبير.
2 – الاسراع بتشكيل اوسع تحالف وطني عراقي ممكن من الاحزاب والكتل والشخصيات الوطنية وتجاوز عقد الماضي وتذكر انه لا يوجد ما هو اهم من تحرير العراق لا ايديولوجيا ولا حزبيا ولا شخصيا، فقط في عراق متحرر يمكن ان نوجد كعراقيين احرار وبعد ذلك لنتعارك على السلطة في عراق حر وامن اذا بقيت جاهلية حب السلطة ولم نتعلم جميعا من دروس كوارثنا.
3 – ان ستراتيجية القوى الوطنية وفصائل المقاومة يجب ان تقوم بوضوح تام، وبلا اي لبس أو غموض، على الرفض التام وغير المشروط لاي مشاركة في حكومة المالكي من قبل اي طرف وطني مهما كانت الحجج والتبريرات، واعتبار المالكي وحكومته خط احمر يجب عدم تجاوزه. ان عزل المالكي وحكومته احد اهم ركائز الموقف الوطني السليم ومؤشراته التي لا تخطأ.
4 – ان دعم تشكيل المالكي للحكومة من قبل اي طرف عربي هو انحياز فعلي ورسمي إلى الموقف الأمريكي – الإيراني وقبول واضح بهدف تقسيم العراق، الامر الذي يضع اي نظام عربي بمواجهة شعب العراق ويتحمل المسئولية التاريخية عما سيحصل. ان دعم المالكي لا يختلف على الاطلاق عن دعم حكومة نتنياهو في الكيان الصهيوني، فكلاهما يعملان على تقسيم الاقطار العربية.
5 – ان اي لقاء وطني في جبهة سياسة أو عسكرية يجب ان يتقيد بمبدأ ثابت وهو عدم تقديم اي تنازل لأمريكا وإيران مهما حصل، لان المحافظة على الثابت الرئيسي في نضالنا وهو التحرير الكامل وغير المشروط وعدم التنازل عن حقوق العراق خصوصا الانسحاب الكامل والحقيقي والتعويضات، هي الضمانات الاساسية للبقاء وطنيين ومجاهدين وتمنع الانزلاق في منحدر مساومات لن تنتهي الا بالانبطاح لأمريكا وإيران والكيان الصهيوني. النقاء الوطني والتمسك بالثوابت الان واكثر من اي وقت مضى هو دستورنا وهو هويتنا وهو قارب انقاذ العراق.
6 – عدم جعل مسألة من يحكم العراق عائقا امام التحالف، فهذه المسألة تعبر عن تخلف مدمر في الثقافة الوطنية والقومية ولذلك لابد من تحقيق اتفاق واضح على الاحتكام للشعب والديمقراطية في حل مسألة من يستلم السلطة، ومن وجهة نظرنا فان الحل الامثل هو اقامة حكومة شراكة وطنية حقيقة وعلى قاعدة التساوي والاحترام المتبادل بين كافة القوى صغيرها وكبيرها، وبغض النظر عن نتائج الانتخابات بعد خروج الاحتلال.
7 – من الضروري تفكيك التحالفات المعادية للمقاومة والحركة الوطنية العراقية، أو بعضها على الاقل، ليس بالقوة فقط بل بالتكتيكات السياسية المدروسة بدقة، لان العدو في حالة ارتباك واضح بعد ان حصلت تغييرات مفاجئة لدى من تصور ان الخلافات بين التابعين لإيران حقيقية فتبين انها مجرد تقاسم ادوار، لذلك لابد من الاتصال بكافة الافراد والكتل التي تظهر استعدادا للالتحاق بالصف الوطني وتشجيعها على ذلك والتعامل معها بصدق وجدية اذا تركت معسكر العدو المحتل سواء كان إيرانيا أو أمريكيا.
لابد الان في فترة الاضطراب النفسي لاطراف مشاركة في العملية السياسية من تفكيك معسكر الاحتلال و اتباعه بحكمة وذكاء وعقلانية، المصلحة الوطنية للعراق تفرض علينا استعادة من يمكن استعادته ومساعدته على التحرر من اوهام الاحتلال وطروحاته وطروحات ما قبل الاحتلال، فالعراق اكبر من كل حزب وجماعة واهم من كل هدف اخر حزبي أو شخصي أو فئوي.
8 – نحذر بشدة من محاولات تتكرر بين عام واخر من قبل انفار لتبني مواقف تتجاهل المقاومة العراقية وتضع نفسها بديلا عنها مع انهم غير مؤهلين لاسباب كثيرة، منها انهم مجرد انفار بلا جماهير أو تنظيمات جماهيرية ولا يمثلون الا نفريتهم المجردة لذلك فهم عاجزين عن ادارة اللعبة السياسية باستقلالية ناهيك عن التحرير بالنسبة للعناصر الوطنية من هؤلاء الانفار، ومنها ايضا ان بعضهم كان من اشد انصار غزو العراق ومن الممهدين له رغم تظاهرهم الان بمناهضة الاحتلال. ولذلك لابد من القول بوضوح بان اي عمل يشوش فهم الناس في العراق والوطن العربي ويضعهم في حيرة بين مقاومة تتقدم وتضحي وانفار يطرحون انفسهم بديلا عنها لا يخدم الا الاحتلال بغض النظر عن النوايا. الموقف الوطني السليم الوحيد في العراق الان هو دعم المقاومة بكافة فصائلها التي تقاتل الاحتلال فعلا وخدمة ستراتيجيتها وتسخير طاقات الانفار هؤلاء لخدمة المقاومة وستراتيجيتها المعلنة منذ عام 2003 وليس طرح انفسهم كبديل عنها.
واخيرا ان كلمة السر في تحطيمنا لالغام الطريق والتقدم بثبات نحو تحرير العراق هي اكمال وحدة القوى الوطنية واكمال وحدة فصائل المقاومة، مهما كان حجم ودور من لم يتوحد بعد مادام وطنيا حقا، فالمسألة الان ليست الحجم بل الموقف، والنفر الوطني الان له دور قد يعادل كتلة سياسية، تذكروا لن يغفر الشعب العراقي لاحد انانيته وتمسكه بالمواقف الانعزالية التي ترفض التوحد تحت اي حجة أو تبرير.
لنجعل شعار نا الاول (العراق فوق كل فروعه) وهي الاحزاب والايديولوجيات والطوائف والاثنيات.
ليكن البعث قدوة للجميع فلقد كان حاكما للعراق 35 عاما وكان نظامه معترفا به عالميا وعربيا واقليما وكان من حقه الاصرار على التمسك بانه الحاكم الشرعي للعراق لكنه تخلى عن ذلك بعد الغزو مباشرة، وهو ما ثبته في (ستراتيجية البعث والمقاومة) المنشورة في ايلول عام 2003، من اجل فتح الطريق امام اكبر واوسع تحالف عراقي من اجل التحرير يضع السلطة والحكم في الخلف، أو ربما يكون من الافضل وضعها تحت الاقدام كما قال المجاهد عزة ابراهيم.
*كاتب وسياسي عراقي