نقرأ على الدوام، عن صحفيين في العالم يوقعون عقودا بالأحرف الأولى، وعن الصراعات التي تحتدم بين صالات التحرير ومجالس الإدارة، وأن فريد زكريا انتقل إلى التايم بعد أن باعت الواشنطن بوست مجلة نيوزويك، التي انخفضت مبيعاتها إلى 3 مليون نسخة، من رجل أعمال أمريكي يدير مجموعة إعلامية ضخمة ويقع على عاتقه ضمان معاشات التقاعد لنحو 300 موظف في النيوزويك.
يجوب توماس فريدمان العالم، يكتب زاويته من كابول وصنعاء وبنغلور جنوبي الهند. يؤلف الكتب، ويقال أن "نيويورك تايمز" خصصت له رصيدا مفتوحا لتمويل تنقلاته، علاوة على الأجر الكبير الذي يتقاضاه احد أكثر الصحفيين الأمريكيين تأثيرا ونفوذا وشهرة.
قلما نسمع أن صحفيا قرر بمفرده تأسيس جريدة. ربما يحدث أن يكون صحفيا ما شريكا مساهما في مجموعة إعلامية وعضوا في مجلس إدارتها. لا أستطيع الجزم، لكني قرأت أن 2 من بين 3 صحف أمريكية تعود ملكيتها لمجموعات تجارية عملاقة.
ثمة قانون غير مكتوب يميز في العمق بين الصحافة كصناعة وتجارة وبين الصحافة والإعلام كمهنة، مثلها مثل الطب والمحاماة وبيع الأحذية وتربية الدواجن. حتى إن أحدهم كتب عن كيف يعتقد الصحفيون في أمريكا أنه ينبغي الفصل بينهم وبين ملاك الصحف بنفس الطريقة التي ينص فيها الدستور على الفصل بين الكنيسة والدولة. فضلا عن أن عميد سابق بجامعة كولومبيا اقترح على طلابه الذين سيصبحون صحفيين بادخار احتياطي مالي صغير، بحيث يمكنهم أن يقولوا لملاك صحفهم متقلبي المزاج: اذهبوا إلى الجحيم.
للعمل التجاري قواعده وطقوسه. وعادة ما تنشأ علاقة من نوع ما بين جودة التحرير وبين تصاعد مبيعات الصحيفة وارتفاع أسهمها في البورصة وتهافت المعلنين. وحين تنتكس صحيفة معينة يلجأ ناشروها إلى جملة تدابير من شأنها إنعاش المبيعات أو حتى تقليل الخسائر عبر خفض ميزانية صالة الأخبار.
بالنسبة للصحفي في اليمن، تبدو احتمالات الحياة محدودة للغاية. لا احتياطي مالي ولا عقود بالأحرف الأولى، ولا تأمين.
ومن بين أكثر الاحتمالات سهولة إصدار صحيفة خاصة بإمكانات بسيطة يتولى تحريرها شبان هواة بأجور لا تصدق، ثم ما يلبث هؤلاء الهواة أن ينشقوا بدورهم عن هذه الصحيفة الواحد تلو الآخر، ينشقون وهم مملوؤن بإهانات صغيرة وكبرياء جريح وتوق مفعم بالوجل والشك لتحقيق أناهم من خلال امتلاك صحيفة يمارسون فيها وجودهم كاملا، حتى إن بعضهم يسمح لنفسه بتعريض طاقم الهواة لديه للظروف غير العادلة والمشاعر نفسها التي اختبرها ذات يوم.
بعضهم سيعمل بلا بوصلة، ويمارس تحيزات مجانية تبعا لحالته المزاجية وصداقاته الشخصية، وليس استجابة لأقسام الإعلان مثلا. أما ملاك الصحف الآتين من تنظيمات سياسية فإنهم مناضلون "طليعيون" أكثر منهم تجار أو حتى صحفيون مستقلون. إنهم متقشفون جدا ولا يعطون مسألة الربحية الاهتمام الذي يليق برجل أعمال. إذ تلعب القضايا التي يؤمنون بها دورا ضاغطا يضاهي دور المعلنين في أمريكا. والمحصلة: فقدان استقلالية صحفهم شبه الكلي. ومعلوم أن الاستقلالية مبدأ مقدس في حرفة الصحافة مثلما الحرية.
والتحيز لمصلحة الايدولوجيا الشخصية شائن، مهنيا، بنفس القدر الذي يبدو عليه التحيز لحساب شركة معلنة.
أعرف أن الصحافة غير المنحازة حلم، لكنها ليست فكرة طوباوية بالكامل. يمكن للمرء أن يتمتع بقدر عال من الموضوعية والأمانة والصدق ويكون في الوقت نفسه رائد تغيير، وحتى مناضلا.
لكن يقتضي الإنصاف عدم الاكتفاء بإلقاء اللائمة على الصحفيين فقط، ذلك النوع المميز من الرجال الذين يفترض أنهم أيدي عاملة تكد بمهنية واحتراف لحساب مجموعات تجارية هائلة بأجور محترمة وظروف آمنة. في اليمن أرباب المال عازفون تماما عن الاستثمار في حقل الإعلام، إضافة إلى أن فكرة الصحافة المستقلة طارئة وتشتغل في محيط اجتماعي متخلف ومحكومة بنظام سياسي وقوانين لا تشجع على المخاطرة والتوسع.