[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

ماذا وراء (فضائح) ويكيليكس؟

إذا المَرء أفشَى سِرَّهُ بلسَانه ولامَ عليهِ غَيْرَهُ فهُوَ أحمَقُ
إذا ضَاقَ صَدْرُ المَرْءِ عَنْ سِرِّ نفسِهِ فصَدْرُ الذي يَسْتودِعُ السِّرَّ أضْيَقُ
(شعر الامام الشافعي)

حينما بدأت شبكة ويكيليكس بنشر وثائق رسمية تكشف جرائم وتجاوزات الاحتلال الأمريكي في العراق وافغانستان كتب كثيرون متسائلين عمن يقف وراء هذا النشر، وهل هو تسريب متعمد من قبل اجهزة أمريكية؟ ام انه اختراق للمراكز التي توجد فيها الوثائق تلك؟ واليوم نجد ان من الضروري تسليط الاضواء على هذه المسألة بعد نشر ويكيليكس حزمة جديدة من الوثائق التي تخص العراق ودور حكومة المالكي في تأجيج الفتن الطائفية وارتباط إيران بتلك الخطة.

وقبل كل شيء لابد من لفت نظر القارئ الكريم إلى حقائق ربما يجهلها كثيرون حول طبيعة المجتمع الأمريكي، خصوصا عمل اجهزته المخابراتية، فأمريكا دولة مؤسسات راسخة وجاء رسوخها تعبيرا عن حداثة دولة قامت بصورة استثنائية وعلى ركامات ملايين الجثث للسكان الاصليين، فهي بالاصل دولة اجتثاث شعب كامل واحلال مستوطنين غرباء محله، لذلك فان هاجس المستوطنين الاول هو تثبيت وجودهم ومنع اي تهديد له مهما كان مصدره وباي طريقة تضمن ذلك بما فيها خرق القوانين والانظمة. ولكن هذا الخرق لا يقوم به فرد عادي بل اجهزة تخطط بصورة سرية جدا لدرجة ان كبار رجال الدولة، بما في ذلك الرئيس، قد لا يعلمون بتفاصيل تلك الخطط واعلام الجهات المعنية (الرئاسة ولجان الكونغرس المتخصصة....الخ) بالخطوط العامة لها وترك التنفيذ وطريقته وتفاصيله للاجهزة ذاتها.

وتولت اجهزة المخابرات ذاتها هذه المهمة، بحكم كونها جهاز مهني معد ومؤهل لاعمال خطيرة وسرية، وحينما نقول اجهزة مخابرات أمريكية فلانها ليست جهازا واحدا بل عدة اجهزة كانت مستقلة عن بعضها حتى هجمات 11 سبتمبر – ايلول عام 2001 وكان كل جهاز يعمل دون معرفة الجهاز الاخر بما ينفذ من خطط حتى لو كانت هناك فكرة عامة عن اختصاصه وحدود مسئوليته، ولذلك فان عنصر التأمر موجود داخل هذه الاجهزة وفيما بينها من اجل تحقيق اهداف خاصة تخدم جهازا معينا، أو تنفذ خطة لجهة أمريكية قوية لديها تصور مختلف حول كيفية حل الازمات أو مواجهتها أو كيفية تحقيق اهداف مهمة، خصوصا حينما تجد أمريكا نفسها في ازمة من النوع الذي يوصف فيها بانه (مميت) عندها تكلف احد الاجهزة بوضع خطة للخروج من تلك الازمة بطريقة لا تكشف عن الكثير من الاسرار، وفي هذه الحالة فان من يعرف هو الشخص المسئول أو الجهة التي لها خطة مختلفة وتريد امرارها وتجنب العوائق أو منع بروزها. ولذلك تميزت فترة ما بعد 11 سبتمبر بانشاء وزارة الامن القومي والتي منحت صلاحية التنسيق بين الاجهزة الامنية الأمريكية لتحقيق اهداف كبرى دون حصول تناقض أو تسابق قد يلحق ضررا بالمصالح الاستعمارية الأمريكية.

هذه واحدة من اهم سمات الدولة في أمريكا ومميزات عمل اجهزتها الاستخبارية. وثمة تكتيك أمريكي – غربي معتمد مخابراتيا وهو تعمد تسريب معلومات إلى صحفي بارز ولديه عدد كبير من القراء أو لبرنامج يشاهده الملايين من اجل نشر المعلومة وتسليط الاضواء عليها، ولدينا أمثلة عديدة توضح ذلك:

1 – عندما وصلت أمريكا في فيتنام إلى طريق مسدود يمنع تسجيل نصر على ثوار فيتنام تقرر تنفيذ خطة للقيام بانسحاب يبدو كانه نتاج نزعة سلام لدى رئيس غير الذي اشعل الحرب، لتجنب المزيد من الكوارث التي تعرضت لها أمريكا ماليا وبشريا دون ان تبدو وكأنها هزمت، فسربت معلومات إلى صحفي مشهور حول الكبوات المخفية لأمريكا في فيتنام وخسائرها وغير ذلك، فاثيرت ضجة ركزت انتباه الأمريكيين عامة حول حرب فيتنام وصارت موضوعا داخليا أمريكيا، وتلك هي بداية نهاية اي حرب تشنها أمريكا على غيرها، وبالفعل ادى نشر معلومات عن الحرب إلى تحقيق الانسحاب من فيتنام في اطار ادعاء السعي للسلام !

2 - كما ان ازاحة الرئيس ريتشارد نيكسون في (فضيحة ووترجيت) كانت عملا مخابراتيا داخليا اوقع الرئيس في فخ مميت، هو الكذب الذي اجبره على الاستقالة، من اجل تغيير السياسة الخارجية التي كان يتبعها، وهناك شكوك قوية بان محيط نيكسون هو الذي ورطه في الكذب ثم دفع إلى الكشف عن الكذب.

3 - فضيحة (إيرانجيت) فقد قررت أمريكا دعم إيران عسكريا ومخابراتيا ضد العراق اثناء الحرب بينهما، لكنها لم تستطع فعل ذلك مباشرة لانها كانت في حالة (عداء) رسمي مع إيران التي احتجزت الدبلوماسيين الأمريكيين فكلفت الكولونيل اوليفر نورث بترتيب عملية تزويد إيران بسلاح أمريكي وغير أمريكي من عدة مصادر منها الكيان الصهيوني وهذا ما تم فعلا وعرف بتلك التسمية.

4 - وهناك (فضيحة مونيكا) لوينسكي التي ورط بها الرئيس بيل كلنتون لاجل الامساك به من ذيله وهو ما تم فعلا.

5 - واخيرا وليس اخرا لدينا ما يطبخ الان ليصبح الفضيحة الاخطر والاكبر في التاريخ الأمريكي وربما العالمي وهي فضيحة 11 سبتمبر – ايلول حيث تتزايد المؤشرات والادلة على انها من فعل جهاز مخابرات أمريكي وبالتعاون مع الموساد الاسرائيلي.

في كل هذه الحالات قامت الاجهزة الأمريكية بتسريب معلومات عنها ادت إلى كشفها وصارت فضائح تحقيقا لاهداف مختلفة وبنفس الوقت لم تقدم غالبا ردودا حول الاسئلة التي تثير الشكوك حول دور المخابرات في ترتيب أو نصب الفخاخ من اغتيال جون كنيدي إلى 11 سبتمبر.

اذن عملية تسريب معلومات جزء اساسي من عمل الاجهزة الاستخبارية الأمريكية، وليس عملا فرديا أو تسلل (هاكر) إلى كومبيوترات المخابرات أو وزراة الحرب، فتلك تغطية ساذجة وتفسير مضلل، فنحن في حالة ويكيليكس بازاء عملية ضخمة جدا ومخطط لها بدقة وحسابات مدروسة بتأن، وتميزت بالظواهر التالية:

1 - تم تسريب نصف مليون وثيقة رسمية حول العراق فقط في العملية الاخيرة وهي تقع ما بين الخطيرة وغير الخطيرة وتكشف عن اعمال أمريكية وغير أمريكية (تتناقض) مع ما يسمى (قيم الغرب) وضوابطه الرسمية ! وتهدد بحرق مسئولين وجهات عسكرية ومدنية. وهذا العدد الضخم يرجح ان من قام بالتسريب مرتاح ومطمئن وغير خائف ولا مستعجل، ولو حصل هذا الامر في دولة جزيرة واق واق المتخلفة جدا لامر ملكها المبجل باجراء تحقيق فوري وشامل لمعرفة من كشف (مؤخرته) ووزع صورا عنها بينما كان في الحمام يدندن باغنية عاطفية.

2 - والاهم والاخطر ان التسريب لم يحدث مرة واحداة وينتهي بزمن قصير بل انه امتد لعدة شهور وهي فترة كافية لكشف من يسرب الوثائق لان تلك الوثائق موجودة في ارشيف أو مركز محمي وعليه مسؤول أو اكثر وتفرض عليه ضوابط امنية مشددة لمنع التسرب أو التسريب، ومع ذلك تسربت، وتكرر التسريب واستمر لعدة شهور، فهل يمكن ذلك ولدى الاجهزة الأمريكية افضل وسائل الرصد والتتبع الالكتروني والتي تكتشف اثارا على القمر والمريخ، وتراقب ملك القمر وتسجل صوره وهو يداعب عشيقته السرية؟

3 – ولو افترضنا ان من نجح في التسريب مختص وذكي الا تكفي الشهور التي مضت منذ اول تسريب لتغيير نظام الحماية لمنع المزيد من التسريب اذا كان التسريب مضر فعلا بامن الدولة ويهدد حياة الأمريكيين كما قالت هيلاري كلنتون؟

4 – ولو افترضنا مرة اخرى ان التسريب حصل رغم انف المخابرات الا يجب في هذه الحالة التحقيق مع من لديه تلك الوثائق لمعرفة كيفية تسربها؟ يقينا ان الوثائق ليست معروضة في (سوق مريدي) - وهو سوق في بغداد اشتهر بتزوير كل شيء وبيع كل شيء علنا – بل هي تقع في اطار ما يسمى ب (TOP SECRET) اي سري جدا، وفي ملفات الامن القومي الأمريكي. فهل استقال كل افراد الاف بي اي – مكتب التحقيقات الفدرالية وهو مسئول عن الامن الداخلي - الذين نراهم في المسلسلات يزرعون انفسهم في الصغيرة والكبيرة؟

5 – ولو افترضنا مرة اخرى وجود ثغرة اليس منطقيا تشكيل لجنة تحقيق فورا لمعرفة مصدر التسريب لمنعه وكيفية حدوثه ومن المسئول عنه؟

6 – ان الوثائق تهدد ارواح الأمريكيين كما قالت كلنتون، وهي تعرض امن أمريكا للخطر وتسيء لسمعة مخابراتها، الا يفرض ذلك تطبيق اجراءات الامن القومي المعروفة في هذه الحالة ومنها اتخاذ كافة الاجراءات لجلب من قام بالنشر ل(العدالة الأمريكية)؟ ولم سمح لمن ينشر بمواصلة النشر مع انه يهدد الامن القومي وترك طليقا مع ان بالامكان تصفيته كما صفت الاجهزة نفسها الرئيس جون كندي وغيره؟ ان من يقول ان النشر يتم في بلد يسمح بذلك اما ساذج أو يتساذج لان أمريكا تستطيع بامكاناتها الاستخبارية اختطافه واعادته لأمريكا للتحقيق معه لو كان ثمة تهديد حقيقي للامن القومي الأمريكي. ان من يختطف رؤوساء دول من دولهم – وهي المخابرات الأمريكية - يستطيع اختطاف من يهدد الامن القومي من بلد ليبرالي بسهولة اكبر.

ما الفكرة الاساسية التي تفرض نفسها بعد كل تلك الملاحظات؟ ان النتيجة الاكثر قبولا هي ان ثمة قصدية في التسريب وهو ليس عملا تخريبيا ولا خطئا في حفظ المعلومات، فكل المؤشرات تؤكد ذلك وتدعمه. وهذه النتيجة تفرض طرح سؤال ضروري: لم عمدت الاجهزة الأمريكية إلى تسريب تلك المعلومات الضخمة؟ فيما يلي بعض الافكار التي امل ان تساعد على فهم هذه المسألة:

1 – ان غزو العراق تحول من غنيمة ستراتيجية اعظم إلى كارثة (وطنية) * هي الاخطر في التاريخ الأمريكي كله، بفضل المقاومة العراقية المسلحة التي احدثت انقلابا في كل حسابات أمريكا. ومن مظاهر الكارثة الأمريكية، والتي ترافقت مع كارثة حلت بالشعب العراقي، خسارة أمريكا لما يقارب ثلاثة تريليون دولار وهو اعلى رقم خسرته أمريكا في حروبها الاستعمارية مع انها غزت العراق لنهبه والاستيلاء على نفطه الذي يعد الاكبر في احتياطيه وتحقيق ارباح خيالية ناهيك عن الثروات العراقية الاخرى. وبالاضافة لذلك فان أمريكا خسرت أمريكييين يقدر عددهم بين 40 و50 الف أمريكي ماتوا في العراق طبقا للاحصاءات غير الحكومية، واصابة اكثر من مليون أمريكي خدموا في العراق باضرار نفسية عميقة عرف منها ان اكثر من 50 الف اصيبوا بعاهات نفسية وجسدية، بالاضافة لخسارة أمريكا لصورتها كسوبرمان قادر على غزو اي مكان في العالم. لقد انهارت امبراطورية نمر الورق في العراق، ونكرر: بفضل شجاعة الشعب العراقي واستعداده للتضحية بلا حدود ممثلا بطليعته الباسلة المقاومة العراقية المسلحة.

فما المطلوب والانسحاب مفروض بالقوة؟ قبل الانسحاب لابد من زيادة الشرخ الطائفي الذي خلقه الاحتلال الأمريكي- الإيراني بتأكيد حقيقة معروفة وهي ان المالكي وغيره استهدف السنة عمدا وقتل منهم مئات الالاف وعرض الالاف منهم لتعذيب بشع لم يسبق له مثيل وهو ما ترك اثرا نفسيا عميقا لديهم ونما نزعة الثأر ، وذلك شرط من شروط تحويل هزيمة أمريكا إلى انتصار يعود لتفاقم الصراعات العراقية – العراقية. باثارة فتنة طائفية جديدة تريد أمريكا العودة بها من الشباك بعد طردها من الباب.

2 – ان الانسحاب بدون تحقيق نصر اعلنه بوش مرارا يشكل ليس هزيمة لقوات الأمريكية بل هزيمة للمشروع الامبراطوري الأمريكي العالمي وانحدار سريع ومميت للدور الأمريكي في العالم. لقد قوضت المقاومة العراقة هيبة أمريكا وقوتها الردعية والاعتبارية واثبتت للعالم بان الجندي الأمريكي عبارة عن نمر من ورق، وانه بقدر ما هو عنيف ومستعد لارتكاب ابشع انواع الجرائم فهو جبان وينهار بسرعة تحت تأثير الرصاص والمتفجرات. وهذه النتائج اذا لم تغلف بغطاء مضلل سوف تشجع دولا كثيرة على تحدي أمريكا والتجاوز عليها، لذلك كان ضروريا ايجاد غطاء يخفي الهزيمة المرة لأمريكا عسكريا وحضاريا، فكيف يتم ذلك؟

3 – قام مشروع تأسيس امة في أمريكا على نزعة المغامرة، ولولا المغامرة لما نشأت أمريكا، وفي اطار نزعة المغامرة هناك عامل معروف وهو الفشل، وبما المشروع الأمريكي لا يتحمل الفشل فان هناك دائما كبش فداء معد سلفا ليتحمل نتائج الفشل ويبرء المشروع منه لكي يستمر ويتواصل تاركا خلفه جثث اكباش الفداء. بل ان كل شركة أو مشروع عادي يعد سلفا كبش فداء معلوم وكل عامل في شركة يعرف انه ربما يكون كبش الفداء في يوم ما.

والطريقة التقليدية لابعاد فكرة الفشل عن اي مشروع هي القول ان السبب في الفشل هو المدير الفلاني أو الشخص الفلاني وليس المشروع، وبما ان المشروع الأمريكي في العراق قد فشل فان المطلوب هو ايجاد كبش فداء وتحميله مسئولية كارثة هزيمة أمريكا في العراق، واول الخطوات في هذا الاتجاه هي خلق راي عام أمريكي مع الانسحاب الفوري ليبدو الامر وكأنه قرار أمريكي اختياري وليس نتاج الهزيمة امام المقاومة العراقية. والخطوة التي سبقت ذلك هي تعمد تحويل ازمة غزو العراق إلى ازمة أمريكية داخلية تتمثل في وجود عدد من القتلى وذوي العاهات ينتشر في في كل حي ومدينة ويستغل ذلك لزرع فكرة ان غزو العراق صار ازمة أمريكية داخلية تستنزف الفرد والمجتمع في أمريكا، وهكذا تصبح عملية الانسحاب مطلبا أمريكيا داخليا وليس نتاجا مباشرا للهزيمة امام المقاومة العراقية.

وظيفة التسريب هي انه سيؤدي لاحقا على الارجح لتقديم اكباش الفداء للمحاكمات في أمريكا وتبرئة أمريكا وتنظيف حكومتها وجيشها من اثار الجرائم التي اتكبت في العراق بقرار أمريكي من اعلى المستويات، كما انه سيستغل لتحميل اشخاص واحزاب عراقية مسئولية الجرائم التي ارتكبت ضد الشعب العراقي ودولته الوطنية، وتبرئة أمريكا من ذلك مع انها وحتى طبقا للوثائق التي سربت توطأت مع المالكي وفرق الموت والتعذيب وغضت النظر عنها.

ان اتهام المالكي وإيران في الوثائق المسربة ليس سوى مقدمة قانونية للتشكيك بمسئولية أمريكا عن الجرائم التي ارتكبت في العراق وتحميلها لعراقيين ولإيران فقط، لان أمريكا تعرف جيدا ان العراق، بكافة اطرافه الوطنية، مصمم على معاقبة من ارتكب جرائم ضد الشعب العراقي اثناء الغزو ومنها عقوبة التعويضات والتي ستكون ارقامها المالية غير مسبوقة في تاريخ التعويضات عن البشر والعمران.

4 – مما يساعد على ترويج فكرة ان أمريكا لم تهزم في معركة فاصلة عسكريا حقيقة ان المقاومة العراقية لا تستطيع حسم الصراع بمعركة عسكرية ضخمة وكلاسيكية، وذلك للتفوق الأمريكي المطلق في الحرب النظامية مما يسمح لأمريكا بالقول ان المقاومة لم تنجح في تحقيق نصر عسكري مباشر ولذلك لا ضرر من الانسحاب، في بيئة انتشار هذه الفكرة، بعد تحقيق الهدف الاساسي الحقيقي للحرب وهو اسقاط نظام الرئيس صدام حسين، وهذه القصة بدأت تتبلور من خلال تسريب معلومات اخرى تؤكد بان الهدف الحقيقي من غزو العراق هو اسقاط نظام البعث والرئيس صدام حسين، ونشر هذه المعلومة قبل بضعة اسابيع يؤكد انها قد توظف لخدمة الهدف المذكور.

5 – ان التسريب له هدف اخر وهو توسيع نطاق لعبة عض الاصابع بين أمريكا وإيران، فالمعركة الخلبية هذه تتطلب استخدام كافة الاسلحة المخابراتية لتقليل قدرة الخصم على ممارسة ضغط ناجح، وأمريكا الان بصدد تقليم اظافر إيران وتقليص نفوذها في العراق، وليس تحطيمه، من اجل ان تحقق اهدافها هي. وهذه الحقيقة تفسر محاولة الوثائق المسربة عمدا تبرئة أمريكا من الجرائم وتحميل إيران مسئوليتها.

6 – منذ الثمانينيات في عهد رونالد يجان، تجري عملية تنفيذ منظم لستراتيجية اصبحت ملامحها واضحة وهي تحويل أمريكا من دولة ليبرالية للفرد فيها حقوق دستورية قوية تمنحه حصانة ضد الاجراءات البوليسية القسرية، إلى دولة شبه بوليسية لها الحق في مضايقة الفرد وتقييد حرياته الخاصة، وذلك لا يتم وفقا للتطور الطبيعي والعادي لتمسك الافراد بحقوقهم والتي عدت اهم اسباب التأمرك، بل لابد من عمليات منظمة ومتتابعة هدفها تغيير بيئة أمريكا النفسية والاقتصادية والامنية... الخ، وجعلها بيئة يسودها الخوف والقلق من خطر خارجي هو وحده الذي يضمن توحد الأمريكيين ودعم حكومتهم التي تحميهم من الخطر الخارجي.

وهذه الظاهرة الاصطناعية اشار اليها صموئيل هنتنغتون البروفسور الأمريكي المعروف وصاحب نظرية (صدام الحضارات) في دراسة نشرت في عام 1998 تحت عنوان (تأكل مفهوم المصلحة القومية) ، الأمريكية طبعا، قال فيها ان أمريكا امة لا تتوحد الا تحت ضغط التهديد الخارجي وعند زواله تتفكك وتنقسم وتعود كل جالية إلى اصلها القومي والثقافي، لذلك لاجل بقاء أمريكا امة موحدة لابد من خلق عدو خارجي اذا لم يكن موجودا، وبما ان الخطر الشيوعي قد زال فيجب خلق خطر جديد يمنع تفكك أمريكا وتقسيمها، وانسب (خطر) هو الخطر (الاسلامي) لان مبررات تضخيمه موجودة في وجود كره لأمريكا بين المسلمين بسبب الصراع العربي – الصهيوني.

بدأت حملة تغيير بنية المجتمع الأمريكي بالتخويف مما سمي وقتها في زمن الرئيس ريجان ب (الخطر الليبي) ثم انتقل إلى التركيز على ما سمي ب (الخطر العراقي) بعد الانتصار العراقي الساحق على إيران، وتصاعد ما سمي ب (الاصولية الاسلامية) وتحولها من استهداف الاتحاد السوفيتي إلى استهداف أمريكا والغرب (الصليبي)، ووقوع العدوان الثلاثيني على العراق في عام 1991 وفرض الحصار وصولا إلى احداث 11 سبتمبر ...الخ، وفي كل هذه المراحل وغيرها كان الملاحظ ان هناك حملات اعلامية وعمليات (ارهابية) تستهدف الأمريكيين داخل وخارج أمريكا تؤدي نتيجتها إلى تعزز حاجة المواطن للحماية من الاعتداءات الخارجية بتقوية الدولة والموافقة على التنازل عن بعض الحريات الفردية مقابل حمابة المواطن، وكان خيار التوسع الخارجي والحروب هو المطلوب.

وما كشف عنه النقاب من قبل الرئيس الايطالي كوسيجا من ان هناك مخططات للمخابرات الأمريكية والاوربية شارك هو شخصيا فيها لتفجير اماكن في اوربا من اجل ارهاب الناس ودفعهم للمطالبة باتخاذ اجراءات تساعد على تحويل اوربا وأمريكا إلى دول بوليسية هي احد اهم الحقائق التي قد تبدو غريبة لمن لا يعرف نمط التفكير الأمريكي والاوربي.

ان تسريب المعلومات عبر ويكيليكس وغيرها احد اهم اهدافه هو تعزيز الخوف لدى المواطن الأمريكي من الخطر الخارجي، وهذا هو ما عبرت عنه هيلاري كلنتون بقولها ان التسريب يهدد حياة أمريكيين، بالاضافة إلى ان التسريب يعزز روح العداء لأمريكا في الخارج خصوصا في العراق نتيجة ما اسمته الوثائق ب (اخطاء أمريكا) في العراق والتي ساعدت المالكي على ارتكاب جرائم ابادة ضد الشعب العراقي. ان ازدياد العداء لأمريكا في العراق وغيره يخدم هدف زيادة الدعم الشعبي داخل أمريكا لخيار شن حروب وعسكرة أمريكا وتحويلها إلى دولة بوليسية أو شبه بوليسية.

ما قاله الامام الشافعي في ابيات شعره التي استخدمناها حكمة استخبارية بلورتها حياة رجل لم يكن سوى اماما ومفكرا ولم يكن ضابط مخابرات ابدا، لكن الحياة معلم كبير لمن يفكر ويجرب، وهي ابيات تفسر دوافع نشر الوثائق وهي انها عملية تسريب وليست عملية افشاء بالخطأ أو بالتطوع من اجل الحقيقة. ان أمريكا ليست غبية بل هي الاشد ذكاء حينما يتطلب الامر تحقيق مكاسب على حساب الغير، وأمريكا دولة مؤسسات واخطر واهم مؤسساتها التي تختص بتغيير امزجة واتجاهات الراي العام هي المخابرات. تفحصوا عين صاحب شبكة ويكيليكس ستجدون انها عين خلد نائم تلمع في ظلام دامس رغم انوار الاعلام البراقة التي تحيط به.

*سياسي وكاتب عراقي

*مصطلح (وطنية) الذي استخدمته وضعته بين قوسين لانه لا يقابل نفس المصطلح بالعربية وهو (National ) اي وطنية، بل يقابل في الثقافة الأمريكية مصطلح (Nation wide ) الذي يعني (على امتداد الاراضي الأمريكية) ولا يعني الوطنية أو القومية لان أمريكا ليست امة وليست فيها قومية بل هي امة في طور النشوء، وقد تصبح امة وقد يفشل مشروع بناء امة فيها، لحداثة انتماء مواطنيها المهاجرين وعدم تبلور شخصية وطنية متماثلة أو منسجمة حتى الان بل مازالت أمريكا عبارة عن مجاميع من المهاجرين يتكلم كل منهم غالبا لغته الاصلية ويعتمد على ثقافته الاصلية لدرجة ان هناك مخاوف، لها ما يبررها، من انهيار وفشل مشروع بناء امة نتيجة عوامل ديموغرافية وبنيوية منها تفوق اللغة الاسبانية وتناميها بسرعة وهو ما يهدد بتحول اللغة الانكليزية إلى لغة ثانوية، ولذلك وضع شرط اتقان الانكليزية لمنح الجنسية الأمريكية.

زر الذهاب إلى الأعلى