الدّهْرُ يومَانِ ذا أمْنٍ وذا خَطَرِ.. والعيشُ عيشَانِ ذا صَفْوٍ وذا كَدَر ِ
أمَا تَرَى البَحْرَ تَعْلو فوقَه جِيَفٌ.. وتستَقِرُّ بأقصَى قاعه الدٌّرَر
وفي السَّماءِ نُجومٌ لا عِدادَ لهَا.. وليسَ يُكْسَفُ إلا الشّمسَ والقَمَر ِ
(من شعر الامام الشافعي)
لو عكف علماء النفس على دراسة الشخصية الأمريكية لتبين لهم انها تمثل الانحراف الاسوأ عن مكونات الطبيعة الانسانية في التاريخ البشري كله، فهي قامت على جثث 112 مليون هندي احمر قتلتهم للتخلص من الاخر الذي رحب بالمهاجرين الجدد وساعدهم بصورة تامة لان الاخر، الهندي الاحمر، لم يكن يعرف عن الحرب سوى تمثيلها الذي رايناه في الافلام ومن النادر ان يقتل الهندي الاحمر هنديا اخرا أو انسانا اخرا، وكان مجموعهم عندما غزا البيض الانكلوسكسون أمريكا هو 120 مليون انسان.
ولمعرفة بشاعة جريمة البيض لابد من ذكر ان عدد سكان اوروبا كلها في ذلك الوقت كان 52 مليون نسمة، وهذا يعني بالحسابات البسيطة ان الهنود الحمر لو لم يبادو لبلغ عددهم الان اكثر من 400 مليون انسان! لقد قتل البيض هذا العدد الضخم في اكبر عملية ابادة للبشر في التاريخ حيث لم نسمع أو نقرا عن ابادة عدد مماثل أو حتى قريب من هذا الرقم.
واستخدمت لتحقيق تلك الابادة مختلف الوسائل مثل القتل الجماعي المباشر دون وجود اي تهديد للبيض على الاطلاق، أو بنشر الامراض مثل السفلس الذي لم يكن معروفا في تلك القارة، أو بتجويعهم حتى الموت وحرمانهم من المصدر الاساسي لعيشهم وهو الجاموس (البوفالو) الذي قتل البيض منه 50 مليون جاموسة وكان ذلك هو العدد الموجود وقتها... الخ، كل ذلك لاجل ان ينفرد المهاجر الابيض بالثروة في تلك القارة ويتخلص ممن اعتبرهم (ادنى مرتبة من البشر)! وحينما صارت أمريكا دولة بدأت بغزو غيرها وشنت اكثر من 40 حرب عدوانية على الاخرين رغم قصر عمرها الذي تجاوز قرنين، وكانت هي البادئة دائما بالعدوان وكان الهدف الوحيد هو نهب ثروات الاخرين! وكانت أمريكا اول من دشن عهد الابادة النووية بضرب اليابان، وكانت أمريكا العضو المؤسس للامم المتحدة اول واكثر من استخدم حق النقض الفيتو لمنع ادانتها أو ادانة من تعدهم اصدقائها رغم ان تلك القرارات كانت تدين جرائم وخروقات للقانون الدولي!
وأمريكا لم تتوقف عن الابادة واحتقار الانسان فقد اعتذر الرئيس بيل كلنتون اثناء رئاسته عن جريمة تجربة دواء للسفلس على السود مما ادى إلى موت الكثيرين أو التسبب في امراض خطيرة، وتكرر الامر مع السجناء البوليفيين الذي حولتهم أمريكا إلى مختبر تجارب كالسود، واعتذرت ادارة اوباما عن هذه الجريمة مؤخرا، وقامت المخابرات المركزية بتجربة عقاقير لم تجرب من قبل ولكنها خطرة فكانت النتيجة حصول حالات انتحار كثيرة بين ضباط المخابرات وتم الاعلان عن انها كانت عمليات متعمدة لاختبار عقارات قبل تسخيرها في تدمير الاعداء في الخارج، وحادثة هذا العقار لم تحصل مع سود أو هسبانك كما في الماضي بل مع ضباط من اصل ابيض مما يعني ان أمريكا لاتهتم في الواقع بالاجناس بل بالمصالح الانانية.
وأمريكا تسير في هذا الطريق لانها بنيت اساسا على النزعة الانانية المتطرفة لبشر اغلبهم لم يكونوا عاديين بل كانوا اما مجرمين بريطانيين تم نفيهم لأمريكا للتخلص منهم، أو مضطهدين دينيا هربوا من الاضطهاد، أو فقراء قتلهم الجوع فهاجروا بحثا عن لقمة حرموا منها. وهذه الخلفية الاجتماعية والسايكولوجية هي التي ورثها الأمريكي العادي وبتأثيرها تميزت أمريكا بانها ليست الدولة الاكثر جريمة في العالم فقط بل الاخطر من ذلك انها الدولة التي صدرت للعالم اكثر اشكال القتل وحشية ولا انسانية في التاريخ البشري، والدولة التي شنت حروبا اكثر من اي امبراطورية في التاريخ القديم أو الحديث. ولهذا فالأمريكي العادي في الاطار العام لا يعترض على جرائم حكومته الا حينما تتعرض حياته هو للخطر أو تقل موارده ويفقد بعض امتيازاته، في تأكيد واضح لحقيقة ان الأمريكي لا يفكر الا بنفسه ومصلحته وان الرادع الانساني لديه هو اضعف رادع لدى اي ثقافة بشرية اخرى.
وحينما اقول ذلك فلانني ابن وطن كان ضحية لهذه السايكولوجيا المريضة بداء ابادة الاخر حتى من اجل التسلية برؤية بشر يقتلون!، رايت وعشت كل جرائم أمريكا في العراق وناشني منها الكثير، لذلك قلت مرارا ان البشرية اذا ابيدت عن بكرة ابيها في حرب نووية فان أمريكا ستكون هي المسئولة عن ذلك.
اليوم نرى أمريكا مصرة على مواصلة طريق الابادة والتدمير في العراق، دون اي احساس بانها ترتكب جرائم وتدوس على قيم قالت انها التزمت بها أو صدرتها للعالم، ومنها حق حماية الاسير ومنع اساءة معاملته، واحترام القيم الانسانية وتجنب ازدواجية المعايير، فلقد اعلن مسئول أمريكي ان صدور حكم الاعدام بحق الاسير طارق عزيز وتنفيذه امر عراقي خاص ولن نتدخل في مجراه! وهذا التصريح ليس اكثر من تأكيد على الطبيعة الاجرامية لحكام أمريكا وصانعي القرار فيها، فالادراة الأمريكية والاعلام الأمريكية والكونغرس الأمريكي يعرفون جميعا ان غزو العراق كان نتاج قرار أمريكي- بريطاني ولم يكن مدعوما من الامم المتحدة وهي حقيقة اعترفت بها ادارة بوش رسميا بعد العجز عن اثبات الاكاذيب التي روجت للقيام بغزو العراق، ويترتب على ذلك ليس فقط حقوق قانونية ملزمة للعراق بل ايضا ان القادة العراقيين الشرعيين ومنهم الاسير طارق عزيز يتمتعون بحقوق الاسر المنصوص عليها في القانون الدولي ومنها عدم محاكمته واطلاق سراحه حالما نتتهي العمليات العسكرية، ولكن الطبيعية المتعالية على الجنس البشري للشخصية الأمريكية تتعمد دوس القانون والقيم عندما يكون ذلك خادما لمصالحها أو محققا لاهدافها الاستعمارية، وتأييد حكم الاغتيال على طارق عزيز ورفاقه ليس اكثر من تعبير عن الاحتقار الأمريكي الرسمي للاخرين وللقانون والقيم.
ولو تذكرنا مواقف أمريكا تجاه العراق قبل الغزو لرأينا حجم تناقض مواقفها، فلقد كانت تشن حملات ضخمة ضد العراق بحجة انه اجرى محاكمات غير عادلة تأثرت بدوافع سياسية، وكانت تلك التهمة من بين اسباب شن هجمات وتأليب الرأي العام ضد العراق قبل الغزو، اما الان فان أمريكا ورغم انها تعترف بلا قانونية المحاكمات التي جرت وتجري، ورغم ارتفاع اصوات أمريكية معروفة منددة، مثل هيومن رايت وووتش التي قالت بالقلم العريض ان المحاكمات غير قانونية ولا تتوفر فيها الحدود الدنيا للعدالة، فانها دعمت كل قرارات المحكمة وتم تنفيذ احكام اعدام هي في الواقع اغتيالات رسمية لقادة العراق الشرعيين.
هل توجد اسباب اخرى لموافقة أمريكا على احكام الاعدام وعلى تنفيذها ؟ لنذكر بان أمريكا هي التي سلمت الاسرى إلى حكومة تعاديعم ولديها ثارات معهم، وكان ذلك السبب الرئيسي لتنفيذ احكام الاغتيال، بل انها كانت تعرف سلفا ان تسليم اي اسير للحكومة الععميلة في بغدا سيؤدي إلى تنفيذا احكام اعدام جائرة وغير قانونية. واغتيال الرئيس الشهيد صدام حسين بالطريقة الحقيرة التي تم بها كان قرارا أمريكيا بالاصل، كذلك اغتيال الشهداء طه ياسيين رمضان وبرزان ابراهيم وعواد البندر السعدون وعلي حسن المجيد كان قرارا أمريكيا وليس قرارا إيرانيا فقط لان أمريكا لو لم تكن تريد تصفية قادة العراق لما سلمتهم لإيران وهي تعلم بمصيرهم. بل انها لم تفعل شيئا حينما تسربت المعلومات عن الطريقة الانتقامية والطائفية في تنفيذ احكام الاغتيال، فاغتيال الرئيس الشهيد تم في يوم العيد وهو عمل استفز كل مسلم وعربي، وتعرض الشهيد برزان لعملية ذبح بسكين تعمد القتلة ان تكون غير حادة كالمنشار لالحاق اكبر اذى ممكن به عند قطع راسه، وثبت ان قصة انفصال راسه عند تنفيذ الاعدام كانت كاذبة وان برزان ابراهيم ذبح وقطع راسه، ومع ذلك سكتت أمريكا!
من هنا فان أمريكا لاتمارس معايير مزدوجة فقط بل هي تتعمد اغتيال وقتل الاسرى بتسليمهم لاعدائهم الجاهزين لقتلهم باكثر الطرق وحشية ولا انسانية، وهي تفعل ذلك لعدة اسباب منها الانتقام من القيادة العراقية التي اممت النفط وحرمت الشركات الأمريكية وغيرها من عملية نهبه، كما ان الدافع الصهيوني واضح فالعراق بقيادة البعث كان حتى الغزو الطرف العربي الوحيد الذي بقي يرفض الاعتراف بالكيان الصهيوني والوحيد الذي كسر نظرية الامن الصهيوني بقصف الكيان الصهيوني بصواريخ ستراتيجية وليس بصواريخ كاتيوشا، باطلاق 43 صاروخا على العاصمة تل ابيب وغيرها من مدن العمق التي لم تصلها الصواريخ السراتيجية من قبل.
اما لم تريد أمريكا الانتقام من طارق عزيز شخصيا فذلك يفسره قول شهير لجورج بوش الاب في عام 1991 حيث قال بعد اللقاء الشهير مع وزير خارجية أمريكا جيمس بيكر (تمنيت لو كان لدي وزير مثل طارق عزيز). والحادثة معروفة اذ ان طارق عزيز حينما سلمه بيكر رسالة بوش الاب للرئيس صدام حسين قبل بدء حرب عام 1991 وكان فيها تهدي للعراق رمى طارق عزيز بعزة نفس عراقية معروفة الرسالة على الطاولة وقال لبيكر نحن لا نقبل التهديد ولا نستلم رسائل التهديد، وترك قاعة الاجتماع غاضبا. هذه الحادثة لم تنساها أمريكا وضمرت لطارق عزيز حقدا وقرار انتقام، وزاد هذا الحقد وهي ترى عزيز متمسكا بشرف الوطنية والمبادئ اثناء محاكمته الصورية عندما كرر تاكيده انه مخلص للعراق وللحزب وللرئيس الشهيد ورفض الانحناء أو التراجع والغدر برئيسه ووطنه.
طارق عزيز شهيد وشاهد حي نذر نفسه للوطن والمبادي، وهذه هي النتيجة التي دخلت تاريخ العراق والامة، وأمريكا نتاج الجريمة المنظمة تمارس الجريمة بصورة منظمة في العراق، وهذه النتيجة دخلت التاريخ أيضا، واغتيال قادة العراق هو عمل انتجه حقد ونزعة انتقام من سياسات عراقية وطنية قوية سابقة تبناها قادة العراق فرفعت راس شعبهم وحزبهم واعادت ترسيخ قيم الوطنية وكرامة الانسان اثناء تعريضهم للموت والتعذيب في محاكمات صورية.
بفعلها هذا تضع أمريكا نفسها امام محكمة التاريخ لان القوة ليست ابدية والزمن دوار ومن تهرب من العقاب في السابق لن يستمر في الافلات من العقاب اللاحق.
*كاتب وسياسي عراقي