أحبطت الإمارات وبريطانيا طردين ملغومين، فانغمس الغرب بأسره في جنون الطرود الملغومة، واليمن.
اليمن المعذب والمغلوب على أمره، راح يقاتل لدفع الأذى عن نفسه لكن بإلحاق الأذى بحنان. حنان الفتاة البالغة من العمر 24 عاما، ابنة المهندس النفطي، والطالبة في كلية الهندسة، وجدت نفسها في بؤرة الضوء على حين غرة، شهرة مجانية إنما قاسية بأكثر مما يمكن لقلب أمها المحطم أن يحتمل. الأم التي استماتت عن طيب خاطر لكي تقاسم فتاتها المصير.
حنان المغدورة وليس المجرمة، البريئة وليس المتورطة، عاثرة الحظ وليس المجاهدة. لا يهم. لكنها في الأخير مجرد فتاة ضعيفة زج أحدهم، ولم تفعل هي، ببياناتها الشخصية على الطرد الذي أفقد العالم صوابه.
لكأننا كنا نشتري طمأنينة العالم بترويع حنان!
هذا غير عادل البتة. أرسل تنظيم القاعدة طردين، وتم إحباطهما، لكن من بمقدوره الآن إحباط هذا الكم الهائل من الطرود المفخخة الآتية من الغرب، الرسائل السلبية المتدفقة على مدار الساعة: أوقفت كل من بريطانيا والمانيا وفرنسا وبلجيكا خدمات الشحن الجوي من وإلى اليمن، إجراءات لا مثيل لها في المطارات والمنافذ، تعاط إعلامي مهووس للغاية، زعماء دول عظمى خرجوا يطلقون التصريحات المذعورة والتحذيرات، توظيف سياسي متواصل للحادثة، تعريض الجاليات الإسلامية في الغرب لمزيد من الإجراءات الاستثنائية والتمييز.
وعليه، فلا بد أن النتيجة ستكون هكذا: إحساس عميق بالغبن والاستهداف والمظلومية، الذي يقود بدوره إلى إنتاج قتلة جدد ومقامرين جدد على الضفتين. قتلة ومقامرين يجعلون من أطروحة صدام الحضارات حتمية جديدة، وقدراً لا مناص منه.
وإذا جاز لنا اعتبار تنظيم القاعدة المهندس الماكر لأكثر أساليب الموت تحايلا على الأنظمة الأمنية العتيدة، فإن وسائل الإعلام الغربية بالذات، وردات فعل الساسة الكبار، هي التي تهندس، بحسن نية أو بسوئها، للهلع وهذا الفقدان الجماعي للطمأنينة، أو بحسب مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي: "تقويض الإحساس الجماعي بالأمن".
الواقعتان الأخيرتان برهنتا على أن تنظيم القاعدة لا يفعل أكثر من تحفيز لقابليات تاريخية كامنة لدى الغرب، روحية وحضارية وسيكولوجية، ترتكز على الخوف من الآخر وقهره وتضييق الخناق عليه. بكلمات أخرى: عمليات القاعدة، الباهتة غالبا والفتاكة نادرا، أضفت خلال السنوات القليلة الماضية بريقا وجاذبية على صورة القوى والتيارات السياسية المتطرفة في الغرب، ودفعت بها إلى دوائر صناعة القرار رأسا.
بالطبع، ليس سجلنا نظيفا فيما يتعلق بالخوف من الآخر وقيم التسامح، لكننا نجادل الغرب بالمنطق نفسه الذي جعلهم ما هم عليه، بعد أن أمضوا قروناً من الظلامية والتناحر والانحطاط: منطق حقوق الإنسان والقبول بالآخر، العدالة والنزاهة والعقلانية.
تنظيم القاعدة يهزمنا في الصميم، فلماذا يهزم الغرب نفسه على هذه الشاكلة؟
انظروا إلى استجابة الدول الغربية المجنونة إزاء حادثة الطرود الملغومة وإزاء حوادث تافهة مشابهة. فبعيد محاولة التفجير الفاشلة داخل إحدى الطائرات في يوم عيد الميلاد، قالت السيناتور ديان فينستين، رئيسة لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، إنها تفضل "ردا مبالغا فيه على رد دون المستوى".
يشرح بريجنسكي، كيف أن الإرهاب يشكل في الواقع أداة شرسة يستخدمها الضعيف في وجه القوي. يقول: "ومتى انزلق القوي في ردود أفعال مذعورة مبالغ فيها، فإنه يتحول من حيث لا يدري إلى رهينة بيد الضعيف، ليس في استطاعة الضعفاء المتعصبين تحويل أنفسهم، لكن لديهم القدرة على جعل حياة الأقوياء بائسة، فقوة الضعف هي المكافئ السياسي لما يسميه الاستراتيجيون العسكريون «الحرب غير المتناظرة»".
والرعب متى انتشر بين الأغنياء، يقول بريجنسكي، فإنه يجعلهم يغالون في تقدير الإمكانات العقلية للخصم غير المرئي والضعيف أساساً، "ويبالغون في قدرته المزعومة على الوصول إلى أهدافه، فيما يقوضون الإحساس الجماعي بالأمن، وهو إحساس ضروري جداً للوجود الاجتماعي المريح".
حادثة الطرود الملغومة تركت الكثير من الثغرات والأسئلة التي تتيح لحس المؤامرة بأن يعمل بكفاءة عالية دون أن يبدو أحدنا أحمق. وأعتقد أن هذا هو أهم الأسئلة التي استحضرتها الحادثة: هل كانت القنوات بين الرياض وصنعاء مسدودة إلى درجة إخفاء الأولى عن
الثانية معلومة استخباراتية بالغة الأهمية في ظرف دقيق تمر به صنعاء وحساس؟
هذا مؤسف حقا، ومؤلم. بالتأكيد، اليمن لا يملك ما يشتري به صمت وطمأنينة واشنطن، فهو لا يستثمر 4 تريليون دولار في سوق الأسهم الأمريكي، ولا ينتج 12 مليون برميل نفط يوميا (احتياج الولايات المتحدة منها يوميا قرابة مليون ونصف المليون برميل)، ومع ذلك يظل تصرف الجارة الكبرى أنانيا ومدعاة للشك.