قدم اليمن حالة نمطية لنموذج مأزق بعض دول المنطقة. وما يحدث هناك ليس سوى صورة تتكرر في بعض الانظمة المجاورة: سلطة مستمرة لعقود فشلت في تقديم أي انجاز وعجزت عن تحقيق أي شرعية للنظام،
وهي متشبثة بالحكم وترفض مغادرة السلطة وليس من سبيل في البقاء سوى الاعتماد على القبضة الأمنية. والثمن في سبيل ذلك يكون عبر إجهاض الديموقراطية ونشر الفساد وتحويل الدولة إلى غنيمة بين مكونات النظام تتوزع بينها ثروات البلاد.
تنبغي الإشارة إلى أن النظام اليمني لا ينفرد عن بقية النظم العربية في هذه الكيفية، فالحالة اليمنية تتحد وتتشابه في العموميات والكليات مع بعض دول المنطقة. أما وجه الاختلاف في الحالة اليمنية عن نظيراتها العربية فتأتي من مخاطر الأزمة اليمنية المتعددة وفداحة نتائجها على المجتمع والدولة، نظرا لهشاشة الاقتصاد اليمني الضعيف في موارده واتساع رقعة الفقر، وبسبب حالة التخلف السائدة في المجتمع اليمني من انتشار الأمية والجهل في المجتمع وسيطرة قانون البنى التقليدية كمؤسسة القبيلة على حساب مفهوم الدولة في اليمن.
قانون الفوضى
في أغسطس الماضي أصدر البنك المركزي اليمني تقريرا كشف فيه عن تراجع احتياطي اليمن من النقد الأجنبي في نهاية يوليو الماضي إلى 5.72 مليارات دولار مقارنة مع 6.79 مليارات دولار للفترة نفسها من 2009.
وعزا التقرير هذا الانخفاض إلى تراجع كمية صادرات البلاد من النفط الخام وانخفاض أسعاره في الأسواق العالمية في تلك الفترة.
لكن تقريرا آخر صدر عن البنك نفسه يناقض صحة هذه الأرقام، حيث يؤكد التقرير الثاني أن حصة الحكومة من عائدات النفط قفزت إلى 1.47 مليار دولار في الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري مقابل 803 ملايين دولار للفترة نفسها من العام الماضي وبزيادة قدرها 672 مليون دولار، وبزيادة تقدر ب%54.
وبحسب بيانات هاتين الجهتين الرسميتين- النفط والبنك المركزي- فإن أكثر من مليار ونصف المليار دولار تضيع وسط تضارب تلك البيانات.
ويقدم هذا النموذج صورة لنمط الفوضى السائدة في تسيير الإدارة الاقتصادية لليمن، لا سيما في قطاع البترول- أهم ثروة للبلاد- ويمثل أكثر من %90 من صادرات البلاد. وما يحدث في هذا القطاع هو تكرار لما يحدث في بقية مرافق الدولة التي يحكمها قانون الفوضى، مما أنتج مؤشرات سلبية لواقع التنمية في اليمن التي تُصنف في المرتبة 166 من بين 174 دولة في معدل دخل الفرد.
ويقول البنك الدولي إن نحو 42 في المائة من سكان اليمن البالغ عددهم 23 مليون نسمة يعيشون على أقل من دولارين في اليوم. ويبلغ معدل البطالة فيها حوالي %40. ويعاني ثلث السكان اليمنيين البالغين من سوء التغذية. وتتسبب أمراض، يمكن الوقاية منها باللقاحات، بوفاة ثلث من إجمالي الأطفال دون سن الخامسة.
تحديات لوجود اليمن
يمر اليمن اليوم كنظام ومجتمع ودولة بأصعب مرحلة في تاريخه المعاصر، فبعد 32 عاما على حكم الرئيس علي عبد الله صالح لا يزال اليمن متخلفا في كثير من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وتواجه البلاد اليوم ثلاثة تحديات رئيسية لا تهدد بقاء النظام فحسب بل تهدد وجود الدولة اليمنية كوطن وكيان موحد، وتشكل مركز التفاعلات الجارية في اليمن، ولم يتمكن النظام اليمني من معالجة أو إغلاق أي من تلك التحديات، التي لا تزال مفتوحة تخمد أحيانا وتنشط في أحيان أخرى. وهذه التحديات هي:
الأول وهو محور الحراك في محافظات الجنوب ومطالب انفصال الجنوب عن الشمال. فبالرغم من أن منجز تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990 ينسب لنظام الرئيس علي عبد الله صالح أول رئيس لليمن الموحد،فإن مشاعر الوحدة التي كانت سائدة في المحافظات الجنوبية والشرقية، تحولت بعد أقل من عقد واحد من الوحدة إلى النقيض، وأصبحت تؤيد دعوات التشطير وتساند إعادة واقع الانفصال. وسقوط الوحدة يعني سقوط مشروعية النظام في الشمال، وبالتالي سقوط النظام برمته.. فلم يعد للنظام من شعار أو مشروعية سوى إنجاز واحد هو «الوحدة». وهذا ما يفسر استماتة نظام الرئيس صالح في المحافظة على الوحدة بأي ثمن. فالحفاظ على الوحدة «مسألة مصيرية» بالنسبة للنظام، ولا بقاء له من دونها.
الحوثيون والقاعدة
التحدي الثاني يأتي من خطر التمرد الحوثي في الشمال. فبالرغم من مرور تسع سنوات على ظهور «الحالة الحوثية»، فإن النظام فشل في التصدي لها ومعالجتها وهي في طور النمو والبدايات قبل أن تستفحل وتنتشر وتتمدد، وهو ما أضطر الدولة إلى خوض ست حروب ضد الحوثيين عجزت عن القضاء على الخطر الذي يشكلونه، وأقصى ما تمكنت منه الدولة هو «تجميد الوضع» عبر اتفاقات هدنة هشة معرضة للانهيار في أي لحظة.
أما التحدي الثالث فهو محور إرهاب القاعدة في وسط اليمن. فعناصر القاعدة في السعودية التي عانت من ضربات أمنية مشددة، تحولت إلى اليمن الذي وجدت فيه ملاذا ملائما لنقل نشاطاتها، لاسيما في المناطق النائية الخارجة عن سيطرة الدولة، فنقلت مركز ثقلها إلى اليمن الذي حولته إلى مركز تهديد للدول المجاورة ونقطة انطلاق لضرب المصالح الغربية والأميركية، وآخرها قضية الطرود البريدية والتهديد الذي يمثله التأثير المتزايد للرجل الدين اليمني أنور العولقي على الأمن في أوروبا وأميركا.
مخاطر على السيادة
لأن تحدي الحراك الجنوبي كان يتفاعل في الداخل اليمني من دون انبعاثات خارجية، وإن كان تحدي «التمرد الحوثي» يتأثر بشكل محدود ومقيد بالوضع الإقليمي، وفي كلا التحديين لم تنعكس التأثيرات على علاقات اليمن الخارجية، لأن تحدي نشاط القاعدة في اليمن بات مع تزايد مخاطره على الأمن العالمي، يهدد سيادة الدولة اليمنية. فتهديدات القاعدة أصبحت قضية دولية، ولا يمكن لليمن بوضعه الحالي أن يصمد أمام الضغوط الدولية، ويرفض «المشاركة الأجنبية» في التصدي لنشاط القاعدة المنطلق من أراضيه.
كذلك لا يستطيع اليمن أن يرفض المساعدة الأميركية لمواجهه القاعدة، مع كل ما يمكن أن تكلفه تلك «المساعدة» من تنازل عن بعض عناصر السيادة الوطنية كنتيجة طبيعة لعلاقة بين دولة عظمى كالولايات المتحدة وبلد صغير مثل اليمن. وهذا ما يظهر من خلال الجدل الدائر في اليمن عن السماح للقوات الأميركية بممارسة نشاط عسكري مباشر داخل البلاد، وهو ما تناولته الصحافة الأميركية هذه الأيام عن أن الحكومة الأميركية نشرت منذ عدة أشهر طائرات من دون طيار في اليمن لمطاردة عناصر تنظيم القاعدة.
النزعات الانفصالية
بخلاف مطالب الانفصال المعلنة في المحافظات الجنوبية التي تطالب بإعادة إحياء دولة الجنوب، فإن ثمة نزعات استقلالية وانفصالية فرعية على أسس مناطقية. فطارق الفضلي حفيد سلطان منطقة أبْيَن، يطالب اليوم بمحافظة أبين وأجزاء من محافظة عدن ومحافظات أخرى. ومحافظة حضرموت لها نزعات استقلالية قديمة تعود إلى أيام جمهورية اليمن الجنوبي. وثمة تسويق للشخصية الحضرمية وأراضي حضرموت على اعتبار أنها تتمايز، ليس فقط عن عموم اليمن بل تختلف حتى عن باقي مناطق الجنوب. وكانت ترفض البقاء ضمن اليمن الجنوبي قبل الوحدة، وقد تم إحياء هذه المطالب اليوم.
ومؤخرا، أعلنت المحافظات الصحراوية المكونة من محافظات جنوبية وشمالية وهي محافظات شبوة وحضرموت في الجنوب، ومأرب والجوف في الشمال عما سمته بحراك أبناء الصحراء. وطالبت بنسبة من عائدات النفط، كون هذه المحافظات هي المنتجة للنفط وتعتبر نفسها محرومة من عملية التنمية.