آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

اليمن.. مصدر الإرهاب أم ضحيته؟

دعونا لا نكابر، الطرود التي أقلقت العالم خرجت من اليمن. هذه حقيقة مرة، وزاد من مرارتها أنها ألجأتنا إلى مواقف اعتذارية تمثلت في الدفاع عن النفس ضد تهمة «الإرهاب».

الذين أعلنوا تلك الحقيقة لم يقصدوا إدانة اليمن حتى ننبري للدفاع عن اليمن. المتهم الأول في حكاية الطرود هو تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. وهو تنظيم فيه اليمني والسعودي والعراقي والصومالي بل والأوروبي أيضا. ليس هذا وقت إلقاء التهم يمينا ويسارا، ولا هو وقت الدفاع عن النفس، في حين أن أحدا لم يتهم اليمن كمؤسسة دولة أو أطر شعبية أو حزبية بتدبير هذا العمل.

هذا هو وقت العمل، وأول خطوات هذا العمل تتمثل في الاعتراف بحقيقة الأوضاع الأمنية المعقدة في البلاد، الاعتراف يفيدنا في شيئين: الأول أن الاعتراف يزيل عن عيوننا غشاوة الاستعلاء على ظروفنا وتجاهل واقعنا المعقد. والثاني أن هذا الاعتراف يجعل العالم يتفهم ظروفنا ويبدي استعداده للمساعدة عندما يرى مصداقيتنا في الاعتراف بالمشكل ومواجهته.

علينا الاعتراف أولا أن الوضع صعب، وأن الأوضاع وصلت إلى ما وصلت إليه نتيجة تراكم الأخطاء، ونتيجة المعالجات الآنية التي ربما نجحت تكتيكيا ولكنها فاشلة على المستوى الاستراتيجي. علينا أن نعترف أنه عرضت علينا فرص كثيرة لبناء الدولة المدنية، ولكننا أضعناها في جو من التشاحن والمماحكات السياسية المقيتة.

اليوم سمعة البلد مرتبطة عالميا بالإرهاب، شئنا أم أبينا، سيقول لي صديق: إن المجرمين أقلية لا تقارن بجمهور اليمنيين الذين لا يقرون هذا الفكر، وسأقول: ولكن العشرات من أولئك الذين لا هم لهم إلا محاربة الأميركيين على حساب دمائنا قد نجحوا في جعل «الإرهاب» سمة يمنية في وسائل الإعلام العالمية. سيقول: ولكنهم قليلون. سأقول: ما دمنا نسكت عنهم فهم أكثر منا. سيقول: إن الإعلام يبالغ في تشخيص الظاهرة، وسأقول: ونحن نبالغ في التهوين من شأنها. سيقول: إن أعداء المسلمين لن يتركوا وسيلة لوصم المسلمين بالإرهاب إلا واستفادوا منها، وسأقول: هذا شيء طبيعي ولكننا أذكياء في إعطائهم هذه الذرائع. سيقول: إن الغرب لم يهتم بالحرب الطاحنة مع الحوثيين في صعدة ولم يلتفت إلى المواجهات اليومية في بعض مناطق الجنوب، وأنه إنما اهتم لطردين أرسلا ولم يصيبا أحدا. وهذا صحيح. غير أن الصحيح كذلك أن الطردين كان يمكن أن يتسببا في قتل المئات من مختلف الجنسيات والأديان، وأن الغرب إنما يهتم لمصالحه، وأن الدول الغربية ليست منظمات خيرية، وأن مناطق أخرى من الصراع في العالم شغلت دولا عديدة عن أمر اليمن حتى تفاقمت الأوضاع. سيقول قائل: الإرهاب مشكلة عالمية، وأقول وهو مشكلة يمنية أيضا، سيقول هذه القضية إنما تأتي في سياق خطط التدخل في الشأن اليمني. وأقول: ثق إن دولة واحدة لا تريد الغوص في الرمال التي دفن فيها الرومان قديما عندما غزوا «العربية السعيدة» (اليمن السعيد)، وأن الأميركيين والإنجليز يعلمون أن التدخل المباشر في اليمن هو انتحار سريع، ولكنهم يشعرون بالقلق على أمنهم من وجود عناصر تتمترس في الجبال وترسل هداياها بين الحين والآخر إلى أصقاع العالم. سيقول: إن أغلب أعضاء تنظيم القاعدة في اليمن ليسوا من اليمنيين، بل من بلدان مختلفة، سأقول: فليكن ولكنهم موجودون على أرض يمنية، ومسؤولية مكافحتهم تقع على اليمنيين أولا. وسيقول أحد الوطنيين جدا، بأنني تأثرت بالغرب بحكم طول فترة الإقامة، سأقول: ربما، ولكن ضرر هذه الأفعال الطائشة على اليمن يعد كارثيا، أما الغرب فكل ضرره أن يقلق وأن يرفع درجة الترقب الأمني.

علينا الاعتراف أن علماءنا ومثقفينا لم يتخذوا موقفا واضحا ضد هذه الأعمال التي لا تخدم الإسلام ولا المسلمين. ربما وجد العلماء والمثقفون إدانة الغرب في دعمه لإسرائيل في احتلال الأراضي الفلسطينية (وهو مدان) أسهل من إدانة أبناء جلدتهم، ربما يقولون إن هذا التطرف هو نتيجة لحالة الإحباط التي تعيشها الأجيال وخيبات الأمل في تحقيق تقدم على مستويات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وهذا صحيح، غير أن عدم اتخاذ موقف من العلماء قبل غيرهم في إدانة الأعمال التي تستهدف الأبرياء يعد - مع ذلك - قضية غير مبررة. إدانة العلماء للطرود التي أرسلت ولمنفذيها أشد وقعا من إدانة المثقفين، وإدانة المثقفين أشد أثرا من إدانة الساسة لها. لا ينبغي أن نسكت بعد اليوم على عملية الخطف المنظم التي يتعرض لها الإسلام من قبل أقلية أعمالها مدانة في شرعة الإسلام نفسه قبل أن تدان في الأعراف الدولية. إن المحارب الشريف لا يرسل طرودا يدسها بين مدنيين من مختلف الأجناس والأديان، وليس لهم علاقة لا من قريب ولا من بعيد ب«التحالف الصليبي اليهودي». ما الذي يمنع علماء اليمن من إصدار بيان لا لبس فيه مترجم لعدة لغات لإدانة هذه الأعمال وإدانة اختطاف الإسلام والتحدث باسمه طيلة الفترة الماضية. إصدار مثل هذا البيان لن يكون «موالاة لليهود والنصارى» بقدر ما سيكون انحيازا لقيم الإسلام الخالدة، ذلك الدين الذي يوصي نبيه (صلى الله عليه وسلم) بعدم قتل الرهبان والنساء والأطفال، وعدم التعرض للمسالمين، بل وعدم قطع الشجر وحرق الزروع والثمار.

الحقيقة أننا في الوقت الذي شغلنا فيه العالم بحكاية الطرود المفخخة كنا غير مبالين بما يجري من حولنا، وكأن الأمر لا يعنينا. أفهم أن الحرب الحوثية على المجتمع اليمني استحوذت على اهتمام الناس، أعي أن المشكلات والاضطرابات التي يثيرها الانفصاليون تغطي مساحة كبيرة من اهتمامنا، أعرف أن العالم ظل فترة طويلة يتفرج على ما يجري في الداخل دون أن يمد يد العون للملمة الجراح، أدري أن الضائقة الاقتصادية تجعل الناس لا يفكرون في «قاعدة» ولا قائمة.. لكن كل ذلك لا يبرر ما يبدو للآخر على أنه تراخٍ في إدانة «القاعدة» مع الأخذ بعين الاعتبار حجم التضحيات التي بذلتها المؤسسة الأمنية في سبيل مكافحة هذا التنظيم.

حضرت مؤخرا ندوة في «التشاتم هاوس» (Chatham House) في العاصمة البريطانية لندن عن الأوضاع في اليمن من زوايا خارجية وداخلية، سياسية واقتصادية، اجتماعية وأمنية. دعوني لا أخفي تشاؤمي بعد المشاركة. أجمع أغلب المشاركين والمتداخلين على وجود المشكل وصعوبته في الوقت ذاته. وزير الدولة البريطاني لشؤون التنمية الدولية كان قاسيا في نظر البعض، وأعتقد أنه كان كذلك، لكن الأقسى من كلامه أن كلامه صحيح، وأننا ندس رؤوسنا في الرمال. عندما تدس النعامة رأسها في الرمال فهي ترتكب خطأين: الأول أنها تهيئ جوا مصطنعا للشعور بالطمأنينة، والثاني وهو الأدهى أنها تعجل بحتفها على يد الضواري العاديات وما أكثرها في اليمن السعيد.

وبالعودة إلى كلام الوزير البريطاني فقد قال (والترجمة من عندي): «إن الأوضاع إما أن تستمر على ما هي عليه أو تزداد تدهورا، إذا لم نتحرك بشكل فوريَ» وقال: «إن الجهود التي ينبغي بذلها لمنع الانهيار أسهل بكثير من الجهود التي سيتحتم علينا بذلها إذا وقع الانهيار». وقال: «إن (القاعدة) تستغل ظروف عدم الاستقرار في اليمن». وقال في حديثه عن ضرورة تهيئة المناخ لتنمية حقيقية: «التنمية لن تمنع التجزئة في اليمن وحده، بل ستمنع التجزئة في مناطق أخرى». مشيرا إلى كارثية انهيار الأوضاع في اليمن على المنطقة برمتها. فهل الذين قالوا إن كلامه كان قاسيا يستطيعون الرد عليه أو نقض شيء من كلامه.

بذل رئيس مجلس الشورى اليمني الأخ عبد العزيز عبد الغني جهدا مضنيا في تبديد القلق وتطمين الحاضرين، وهذا واجبه الذي لا تنكره عليه الأعراف الدبلوماسية. لكن تبديد قلق الحاضرين (بالذات من المسؤولين البريطانيين والغربيين) كان مهمة صعبة وثقيلة على كاهل الوفد اليمني.

لا بد من استراتيجية جديدة في معركتنا مع «القاعدة» تقوم على سحب البساط الديني والأخلاقي والذرائعي من تحت أقدام «القاعديين»، الرصاصة الأولى في هذه المعركة هي التنمية الاقتصادية، والتوعية الفكرية، واليقظة الأمنية مع حتمية الإصلاح السياسي. لم يفت الأوان بعد. غير أن وزير الدولة البريطاني أكد أن الوقت يمضي بسرعة، وأن مؤتمر أصدقاء اليمن المزمع عقده في الرياض مطلع العام المقبل ربما كان الفرصة الأخيرة.

فهل ستلتفت سبأ لفرصتها الأخيرة، قبل أن ينهار سد مأرب على رؤوس الفئران.

زر الذهاب إلى الأعلى