[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

عن تعز وأحلام الدائرة 37

أدهشني الكاتب صلاح الدكاك في مقاله قديمة عن شرعبة تعز، وكم تبدو في رأيي الكتابة في موضوع كهذا مثيرة للضحك، لأنها تذكي كثير من الحساسيات الجهوية الضيقة، لكن ما أزعجني أكثر قيام الدكاك بجلد نفسه على شرعبيته،

في حين أن كثير من الناس لا يروون في الدكاك سوى قلم متميز يستحق أن يقرأ، والشيء الآخر اللافت اختزاله لكل أحلام أبناء تعز ومعاناتهم بأحلام الدائرة(37) والتغيرات التي شهدتها منذ كان الصوفي نائبا في البرلمان حتى أصبح محافظا لتعز، هذه الدائرة التي لم نسمع عنها شيء ذا أهمية قبل قدوم المحافظ ليتربع سيداً على المدينة.

طبعا لست متخصصة بتاريخ الدائرة(37) أو بتاريخ النضال الشرعبي فهذا ربما يحتاج لأكثر من مقالة عميقة، لكن الذي يستحق قدر من التوضيح هو رغبة البعض عن قصد بإضفاء صبغة الشرعبة على تعز، وتعز ربما بكل إمكانياتها الجمالية والمدنية منذ تاريخها القديم كانت بعيدة كل البعد عن الجهوية والقروية والمشيخية التي أصبحت الآن سمة من سماتها وهذا بفضل المحافظ الصوفي القادم من أدغال شرعب.

لقد تعاملت السلطة مع هذه المدينة باعتبارها مدينة لا تحكم نفسها، وأن أبناءها غير مؤهلين نفسيا وربما عقليا لتولي أمورها، ولذلك كانت تستورد رموزها من مناطق اليمن الأعلى كما يقال، أصولهم صنعانية أو خبانة في أسوء الأحوال، باستقدام المحافظ الصوفي الذي هو رمز من رموز هذه السلطة المندثرة بإذن الله، حاولت السلطة تغيير سياستها في هذه المدينة- ظاهرياً طبعا- بأن وضعت محافظا ينتمي لهذه المدينة، وللحقيقة فإن هذا التعيين الذي لم يكن مفاجئ لي على الأقل لم يضف لتعز شيء يستحق الإشادة أو الشكر لا في الاقتصاد، ولا في الثقافة ولا في السياسة ولا في الحياة اليومية التي أصبحت أكثر رعبا من مخيلتي الآن، وإذا جردنا عهد المحافظ الشرعبي بحياد مراقب ذكي لما لا حظنا أي تقدم ملموس يتباهي به أبناء الدائرة (37 ) أو من والاهم، بل أعتقد أن سلبيات عهده أكثر من سابقه الحجري، فالانفلات الأمني وانتشار العصابات والسطو على الأراضي أمر يدركه أي إنسان يعيش في هذه المدينة المتعبة، بالإضافة إلى أن الرجل حاول شرعبة الوظيفة في تعز وإعلاء أبناء شرعب على غيرها من الجغرافيات المستكينة التي تتمنى في دورة تاريخية قادمة أن يكون لها الوجاهة في الوظيفة أو في مقايل القات.

استطاع الصوفي- في رأيي- عن قصد أو بحسن نية أن يعيد تعز مئة سنة إلى الخلف بقفزة تاريخية إلى الوراء، ويظهر ذلك بقدرته العجيبة على إشعال حماسة أبناء تعز للتخندق حول قرويتهم، وتنامي المشيخات الصغيرة في كل منطقة حتى الحجرية التي كانت بعيدة عن هذا الهم الاجتماعي الضيق، فتخندق الشراعبة تحت هويتهم المتفوقة، لأن المحافظ ينتمي لجلدتهم، فإن كثير من أبناء المناطق الأخرى تنامت لديهم هذه الردة المتخلفة للعودة إلى ممكنات الأصل والعرق، فلم يستطع المحافظ الصوفي أن يتمتع بحياد أبناء هائل سعيد أنعم- رغم الإمبراطورية الاقتصادية للأعروق- فلم نشهد محاولة منهم تمكين أبناء جلدتهم في الوظائف والمناصب التنفيذية، إن ما كان يميز مدينة تعز عن غيرها هو أنها مدينة مدنية بامتياز تتأفف من كل التعصبات والتعالي على الآخر، وأن جميع التشكيلات المناطقية والقروية كانت تتساوى في الظلم والإهمال، ولم يتدخل أحد ما قبل الصوفي في خلخلة المنظومة التعزية المسالمة.

منذ لا أدري، لم اسمع يوماً عن مقطرة تعز، ولا مقدسة تعز، ولا عرققة تعز، كانت كل الجهات القروية تشكل وحدة متنافرة، ولكنها متسقة لتشكل مدنية تعز وفرادة هويتها، ما فعله المحافظ الشرعبي هو أنه هز هذه القيم الجميلة، فإذا كنت تملك الذيل الشرعبي في البطاقة الشخصية فإن أمورك ستسير بشكل لائق في الجامعة وفي البريد وفي الإذاعة، وفي المستشفى..

فهناك كثير من الأغبياء جدا الذي قد يصدمك بلادتهم ويصبحون مدراء فقط لأنهم شراعبة ينتمون للدائرة (37) أو لمخلاف شرعب، لكن في المقابل هناك كثير من أبناء هذه المنطقة طيبون وجميلين ولا يعنيهم كون المحافظ خالهم أو شيخ قريتهم، متعبين مثلنا من تردي الحياة في اليمن ككل، ومن الأوضاع التي تنجرف إلى الهاوية، متعبين من كونهم تعزيين أولا وأخيراً محاصرين في هذه المدينة التي تدمن البؤس، يبحثون في أحلامهم عن عشب صغير للفرح.

زر الذهاب إلى الأعلى