قَررتُ اليومَ قَرَاْرَاً مختلفاً تماماً.
قَرَرتُ أَنْ أتحدثَ عَنْ أنفسِنا، لِأَمنح قلمي إِجازةً مِنَ الرَّئِيس. لِأَني وَللأمانة تَعِبْتُ مِنهُ، وَسئم قلمي من فساده، وسئمت كلما تحدثتُ عنهُ وعن الذي يجري في بلادنا اليمن ، وما سيجري، وإِنَّ غداً لناظرهِ قريب.
سأكتبُ اليوم عن أنفسنا.. فتحملوني لو جلدتُ أنفسنا.
يتملكني يقينٌ دائماً أَنَّ في التاريخ أزمنةٌ يطغى فيها الظلمُ حين تبدو الدكتاتوريات بوجهها القبيح على الإنسان في لحظةٍ ما، حينَ يُهان القانون، وتداس حقائق الواقع والإنسان والحياة؛ فيضيع القانون، وتقاس الأشياء بمعايير من صناعتنا، لا بمعايير الأخلاق؛ وتوزن الوقائع بأيدينا، لا بميزان العدل والحق والحقائق؛ وينتهي الواقع الذي نعيشهُ إلى مجرد بشر لا تدركُ الفرق بين الحقيقة والوهم، وبين آفاق النهوض ومحاذير السقوط والإنهيار؛ وبين ما نريد وما يُرادُ لنا وما يُرادُ بنا؛ وبين المحاولة والركون؛ وبين الإنسان والحيوان.. حين يحدثُ ذلك تفقد الحياة قيمتها وقِيَمِها وقمَّتِهَا..
حينَ يُصبحُ الناسُ في صباح اليوم التالي وهي لا تمتلك القدرةَ على الرفض ولفظ السم من أفواهها، وتنظيف بيتها من قذارات ليلة الأمس المقيت، وإماطة أذاها عن الطريق... حين يُصبح الناسُ بتلك الهيئة في صباح اليوم التالي؛ تظهر فئةٌ من الخارجين عن القانون، وتسيطر على الأحداث جنرالات الحروب، ويستولي قطَّاعُ الطُّرق على الإنسان والأرضِ والحياة.. حينها يَأخذ المرض مكان الصحة في الإنسانِ والدعارة مكان التُّقى، ويحلُّ طغيان الفرد محل أَثَرَة القانون الجميل الذي يرعى ميزان المصالح بين البشر فوق الأرضِ؛ ويعْدِلُ التقاتل بسيئاته عن التكافل والتدافع لأخذ إسباب إستمرار الحياة وحفظ النوعالإنسانيْ الأخلاقي في الحياة...
حين ترى ذلك يا صديقي فَثِقْ جَيداً أَنَّ الخروج على القانون أصبح في ذلك الصباح هو القانون، حينَ يتقيؤنا التاريخ فنمسي خارجَ التاريخ!
وإذْ نحنُ مُمْسُونَ خارجَ التاريخ قيئاً، لا نحسُ قئياً أَلبتةَ؛ لِأَنَّا أصلاً فِيْ القيْ نفسه. والإنسان في دائرة الشيء لا يكاد يرى الشيءَ؛ ولنْ يُقيِّمَ الشيءَ إلا بخروجهِ عنْ دائرتهِ! فهل بقيتْ لنا قُدرةٌ تحركنا خارج الدَّائرة؟ وَإِذَا وجدنا أنَّ بنا بعض قدرةٍ تحركنا إِلى خارج الدائرة.. هل نملك البصر القادر على تمييز وتحديد ألوان الأشيآء حوالينا؟ وهل نملك بقيةً من بصيرة تتداركُ تقييم تلك الأشيآء لنعرف أين مكاننا الذي يجبُ أَنْ نكونهُ في موازين الناس، ومقاييس الحياة، ومعايير الأرض؟
أسئلةٌ تبقى صعبة في حالة واحدةٍ فقط...
إذا هربنا إلى خلفها كاذبين على أنفسنا هروباً من مُساءَلات المواجهة أمام مرءآة الحالة التاريخية الصعبة التي نعيشها اللحظة؛ سَحَّاتينَ أنفسَنا مهانةَ القعودِ والجلوسِ والحبوِ والإنبطاحِ، عادلين بها كبريآءَ الشَّهادات والنهوضَ والإنطلاقَ والوقوفَ فوق قاماتنا التي تقزَّمت ردحاً غير هَيِّنٍ؛ فارِّينَ من أنفسنا التي تُحبُّ أَنْ تنهضَ لأَنَّ ذلك هو القانون الطبيعي لها إلى أنفسنا التي قبلت التقاعد المبكر، والتقاعس عن أدآء دورها الحضاري المتوقع لها أنْ تؤديهِ بتأهل وتفوق تحت شرط الإنتصار على نفسها أوَّلاً!
وهي أسئلةٌ سهلةٌ إذا أقررنا أنْ تلكَ هِيْ حقيقتنا الآنَ. وهي مرثاةٌ حزينةٌ تُبْكِي وتؤلمُ مَنْ لهُ قلبٌ ذكيٌّ وعقلٌ جميلٌ وروحٌ لطيفةٌ ورقيقة تحسُّ فتبدو على الحقيقةِ فعلاً محركاً بالإتجاهِ المستقيم الوارثِ للحقائقِ!
إِذا ركَنَّاْ إلى ديمقراطيةِ الحصان في بلادنا؛ فنحنُ فيها!
فماذا جنينا من هذه الديمقراطية؟ الديمقراطية يا سادة هي في النهاية تحمل في طياتها مبدأَ العدل الإجتماعي الذي يُقَنِّنُهُ في النهاية المثلث المتساوي الأضلاع الذي ابتدعتُهُ في رسالتةٍ سابقةٍ؛ مثلث ( الإنسان + المال+ الحرية ).. فابحثْ معي عن ضِلعٍ واحدٍ مُسْتوٍ؟! يا سادة الكلامُ أسهل ما يكون القيامُ بهِ. والتاريخ لا يدور بالكلام أبداً؛ التاريخ يحبُّ مَنْ يستفزهُ؛ ولهذا قلتُ سابقاً أَنْ التاريخَ يحترمُ صُنَّاْعَهُ لا ضُيَّاْعَهُ ! فهلْ نحنُ قادرون على الثورةِ على أنفسنا يا سادة ؟ ورفضَ الإنبطاح والحبو والإختبآء؟
المَسْألةُ تبدأَ في قدرتنا على تحديد مفهوم التضحية وقيمتها في تحديد وتوجيه مسارات الأمم والتاريخ الكبير. مفهوم التضحية يمكن فهمه ببساطة في قدرتنا على رؤيةِ الأشيآء ومعاني الحياة أبعد قليلاً من أرنبةِ أُنوفنِا لنتجاوز محابس النرجسيةِ والأنانيةِ التي ترانا نحنُ فقط ولا ترى أبناءنا أبداً.والتضحية هي القيمة الإنسانية التي يدفعها البشر مقابل التغيير الذي يواجه الغول الرابض في صدورنا. التضحيةُ هي باختصارٍ شديدٍ ما جاء في الأثَر في التوقيع الذي يقرر أَنْ ( إطلبِ الموتَ تُوهب لك الحياة ).
وكفى!
والسؤال هوَ: هل نحنُ قادرون على التضحيةِ كقيمةٍ إنسانيةٍ غاليةٍ في مقابل التغيير الثَّمين؟! ليسَ بالضرورة أَنْ تكونَ الإجابة ب ( نعم ) أَو ب ( لا )؛ فَالإجابتانِ يكمنُ فيهما بدايةُ الحل! نحنُ لا نستطيع حتى الإجابةَ بالسَّلبِ! وهنا مكمنُ الدَّآءِ والدَّوآءِ يا سادة .
الحوادثُ التاريخية الفخمة التي قادتْ تواريخ البشرِ، وحركتْ نوازع الإنسان نحو ابتغآء النور والفجر والمعرفة والريادة، ثؤكدُ أَنَّ الحركةَ المنتظمةَ لِأيِّ مجتمعٍ لا تأتي طَفْرَةً محضَةً أَوْ مُصادفةً صِرْفةً، بل أَنْها تتحركُ وِفْقَ قُوىً مُنْتَظَمَةٍ ومُنَظِّمَةٍ.
وَأَوَّلُ تِلْكَ القوى والأُسس لحقيقة تحريك الإجتماع الإنساني أَيَّاً كَاْنَ يكمنُ فيما أزعمُ في رغبات الفرد، وأفعال الفرد، ورد الفعل الناتج بعدئذٍ من فعلهِ. وماهو أي إجتماعٍ إنساني سوى مجاميعٌ من البشر قررت أَنْ تتدافع، وتكوِّن كتلةً سويَّةً متكاملةً؛ يحركُ تروسَها قانونُ التنافسِ الشَّريفِ، وناموسُ التدافع العفيف، ومكاييلُ التكافل، وموازينُ التعادلية.
والأساسُ الثاني فيما أزعمُ أيضاً يكمنُ في الإحساس بالتوازن الإحتماعي واستشعار العدل. إِنَّ مبدأَ العدل وجوده أَوْ عدمه هو في الحقيقة المحرك القوي للتاريخ، وأحداث التاريخ، سِيَّان فِيْ بنآء التاريخِ أَو هدمهِ. وهذا الركن الأساس الذي سمَّاه الدينُ والفلسفةُ والفكرُ والمنطقُ والجَمالُ العدالةَ ، هو أهمُّ المبادئ وَأقوى الأركان فيما أطلق عليه الناسُ وتعارفوا على تسميتهِ ب "الحكومة".
يقرر جُلُّ علماءِ الإجتماع المدني وعلى الرأسِ يأتي إبن خلدون أَنَّ قضية رفض الظُّلمِ، ورد الفعل الفردي والإنساني في أيِّ إجتماعٍ مدنيٍّ؛ هما ما يقرران التغيير؛ ومِنْ ثَمَّتَ تطوُّر، النظام في ذلكَ الإجتماعِ المدني. وهي التي مثلَّها القانون الموروث ( العينُ بالعينِ، والسِّنُّ بالسِّنِّ، والبادي أظْلَمُ )، الذي جاءت لهُ فيما بعد الدياناتُ، والقانون الإنساني، ليضعَ له ضوابطه وقيوده وشروطه؛ لئلا تعم الفوضى ويستشري القِوَدُ الفردي محل الناموس الطبيعي الذي ابتناه الإنسان المتمدن الذي يطلقُ عليه (القانون المدني).
ومع بقآءِ حقِّ الرفضِ للظلم، حقَّاً إنسانياً لا يطولهُ الإستسلامُ، ظهر الإنسانُ في أوقاتٍ عصيبةٍ حينَ بدتْ ساحاتُ التاريخِ يقفز إلى أروقِتِهَاْ وأبهائها البغاةُ، والزناة،ُ وأهلُ السُّحْتِ، والمرتزقةُ، والمتسلَّقونَ خفآءَاً، وقُطَّاعُ الطُّرقِ، وجنرالات الحروب، ورؤوسُ الجهل، والقياطينُ المسبِّحون، ليعيثوا فيها فساداً ومروقاً عن نواميس الأشيآءِ وقوانين الأحداثِ ظهر الإنسانُ مُمَارساً حقَّهُ في الحياةِ بِاتجاه التغيير، وتحويل أشرعةِ أحداث الأُمةِ في وجهتها المستقيمةِ، وهَزِّ التاريخِ؛ لتحقيق المكاسب الأحرىْ لكتلةِ الإجتماعِ المدني. وقد قبل التاريخُ في تلكَ الأوقاتِ الإنسانيةِ العصيبةِ كلَّ تلك الأفعال لتحقُّقِ الشُّروط المُوجِبةِ للتغيير: " التضحية " !
وسوف تبقى طبيعةُ الأشيآءِ هيَ قانون اللهِ ساريةً على الإنسانِ والأرضِ والحياةِ؛ الذي يُجلدُ بهِ كلُّ مَنْ تعدَّى على ذلك النَّاموس. إِلَّاْ أَنَّ الإنسانَ هو المنفذ المؤهلُ لتحقيق ذلكَ القانون إِذَاْ غاب القانون ! ,
عبدالكريم عبدالله عبدالوهاب نعمان
مهندس معماري واستشاري
الولايات المتحدة الأمريكية.