بينما نحن جلوس على مأدبة عشاء تجمعنا بنفر من الإخوة البحرينيين أخذنا الحديث في الشأن اليمني المليء بالإثارة ، فتشعب الحديث ليستقر بنا عند الآية الكريمة {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} [سبأ: 15]..
وكان من ضمن ممثلي اليمن في المأدبة الأخ حازم لما سمع الآية الكريمة الآنفة الذكر وأن المقصود بها أهل اليمن، انتفض من مكانه كأنما لسعته حية وقال بصوت المستغرب: أسألك بالله !!!! أنا أول مرة أعرف هذا الشيء، وهنا انفجر الموقف بالضحك وتطايرت حبات الأرز من الأفواه لترتسم على وجوه بعضهم بعضاً وتصبح تلك الوجوه مطرزة بحبات الرز البيضاء...
لم يكن الموقف ليمر مرور الكرام على فكري، بل استوقفت نفسي للتأمل عند الآيات القرآنية الكريمة التي تحدثت عن أهل اليمن وبالذات الآيات التي في سورة سبأ، فذهبت أبدأ النظر فيها وأعيد .فإذا حقائق تتكشف لي بوضوح واستطعت لأول مرة أن أعرف أن أجدادنا القدماء كانوا أول انفصاليين نادوا بالنعرة الانفصالية وانقلبوا على النهج الوحدوي عندما قالوا:{رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19].
لقد كانت الوحدة قائمة بين الشام وبين اليمن والتي اتسمت بأهم عنصر عزز هذه الوحدة وهو عنصر الأمان حيث قال الله:{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ } [سبأ: 18].
لقد كانت وحدة اقتصادية عندما كانت القوافل التجارية تجوب الجزيرة العربية من سواحل بحرها العربي لترسوا على حوض البحر المتوسط،
ولقد كان الدافع الذي دفع هؤلاء للانفصال بالمفاوز والفلوات التي ينعدم فيها الأمن وتكثر فيها الوحش وقطاع الطرق، كان الدافع هو البطر الذي أصابهم يوم أن رأوا الثروة التي حباهم الله بها في الجنات التي كانت عن اليمين وعن الشمال، وظنوا أن الثروة التي تحتويها أرضهم كفيلة بأن توفر لهم ما يؤمنهم في الوصول إلى المكان الذي يريدونه، ولكن الذي وقع أن الله تع إلى مزقهم كل ممزق.
مع الفارق الكبير بين الأمس واليوم إلا أنه يظهر أنه نفراً فعلوا باليمن ما فعله الأجداد ، وارتكبوا الخطأ الذي ارتكبه الأجداد فمارسوا انفصالاً من نوعٍ آخر.
لم يعد الانفصال اليوم يحمل معنىً جيوسياسي تعقبه ترسيمات حدودية تظهر على معالم الخرائط، بل إن الانفصال يتعدى هذا المعنى ليشمل معانٍ كثيرة أبرزها تلك الانفصالات التي تحدث على المستوى الاجتماعي والمستوى الاقتصادي والمستوى السياسي...
فعلى المستوى الاجتماعي ظهر الانفصال بأبشع صوره فهناك انفصال اجتماعي تسبب في تقسيم المجتمع إلى طبقات: طبقة السادة، وطبقة القبائل، وطبقة المهمشين، وتتميز طبقة السادة بأنها انفصالية من الطراز الأول، وذلك لأن بعضاً منهم يزعم أنها محاطة بنصوص مقدسة وبأنها سلالة متميزة في العرق ومختصة باختصاص إلهي.
وهناك صورة أخرى للانفصال الاجتماعي على الشكل الآتي: طبقة المشايخ، وطبقة الرّعيّة،ولكل طبقة مميزات تفصلها عن الأخرى، فطبقة المشايخ تتميز بمجموعة من الصفات تشبه إلى حدٍ كبير رعاة البقر مع فارق التشبية، حيث تعتبر طبقةُ المشايخِ القطيعَ الذي يحكمونه رعِيّة (بكسر العين وتشديد الياء)، فالشيخ يعتبر أتباعه مجرد قطيع يسوقهم إلى حيث يريد، وما على القطيع إلا أن تنصاع للأوامر المشْيَخِيَّة.
.وهناك صورة أخرى للانفصال الاجتماعي على أساس المنطقة والجهة: أصحاب (مطلع)، أي: اليمن الأعلى، وأصحاب (منزل)، أي اليمن السافل.
وهناك صورة أخرى للانفصال الاجتماعي على الشكل الآتي: دحباشي ، برغلي، وصناعة أشكال الانفصال الاجتماعي تتجدد وتتنوع بحسب تجدد وتنوع الثقافة، وكل يوم والشرخ الاجتماعي يزداد، والهوة في المجتمع الواحد تزداد،وتبدأ التعبئة من كلا الطبقتين في تجييش المثل الشعبي والنكتة المضحكة للسخرية من الآخر بحيث تمرر على المستوى الشعبي ليصبح هذا الفعل نمطاً ثقافياً مألوفاً ..ودائماً ما يكون الانفصال الاجتماعي لصالح الجهة الأقوى، ودائماً ما يظهر طرف قوي يضطهد طرفاً ضعيفاً.
وعلى المستوى الاقتصادي نشهد انفصالات من نوع آخر لا تبتعد في التشابك والتعقيد عن المستوى الاجتماعي، فهناك طبقة التجار، وطبقة الإقطاعيين، وطبقة الفقراء، والأخيرة هي الأغلبية الطاحنة، فطبقة التجار انفصالية من الدرجة الأولى حيث انفصلت عن المساواة و الاتحاد التي تتجسد فيها قيم الإسلام والإنسانية.
ثقافة الانفصال تتجسد اليوم لدى اليمني بأشكال متعددة، ففي ظل نظام لا يلتزم بمعايير المواطنة ولا يلتزم بأدنى حقوق الإنسان ولا يعمل على إرساء بنية تحتية تكون كفيلة بعيش كريم للفرد في ظل سيادة القانون، تظهر انفصالات متعددة وولاءات ضيقة تضعضع المجتمع في كل المستويات.
إن النظام الذي يتخلى عن الوحدة الاجتماعية في جعل الناس سواسية كأسنان المشط في الحقوق والواجبات، ويتخلى عن الوحدة الاقتصادية في تحقيق المساواة، و في توزيع الثروة وفي تأمين مصادر الدخل للمواطن، ويتخلى عن الوحدة السياسية في إقصاء كل المنظمات والتجمعات والمكونات السياسية عن المساهمة في سياسة البلاد والتداول السلمي في الإشراف على مصالحها العليا.
إن النظام حين يتخلى عن الوحدة السياسية فيدخل المعترك السياسي منفصلاً عن أحزاب المعارضة، ويقطع كل المؤتمرات الحوارية التي تُوصِل بين كل الآراء الوطنية، وتعمل على تلاقح الرؤى فيما يعود بالخير للوطن والمواطنين ...
إن النظام حين يمارس ويؤيد ما سبق تنطبق عليه السنّة التاريخية التي قال الله عنها {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19].
أخي القارئ لم تعد ثقافة الانفصال ثقافةً مصنوعة في الخارج أو مصنوعة من قبل قوى تآمرية تريد العبث بالداخل، وإنما صارت صناعة داخلية بامتياز حين يمارسها نظام بكل هياكله ومؤسساته بهذا الشكل.