"ابن خلدون أول من أكد أن استمرار الحاكم في السلطة يؤدي إلى الاستبداد وتفكيك الدولة وخرابها وأن الحاكم بعد طول بقائه في السلطة يصبح سلعة منتهية الصلاحية تعتبر الشعب كرتاً محروقا."
كان من المتوقع أن تكل السلطة مهمة الفتوى بضرورة إلغاء تحديد دورات الرئاسة إلى أحد مشايخ السلفية الماضوية السلطانية، غير أن صحيفة الميثاق استبقت الدور ونسبت في عددها الصادر الأسبوع الماضي إلى أستاذ القانون في كلية الشرعية الدكتور عبد المؤمن شجاع الدين تصريحاً يشير فيه إلى مخالفة تحديد فترات الرئاسة لأحكام الدين الإسلامي، مؤكداً أن هذا التحديد مستوردٌ من الثقافة الغربية!!.
ومع توقعي أن تكون الصحيفة قد قوّلت الدكتور ما لم يقل؛ نظراً لثقتي الشخصية بالدكتور، غير أن حرص الصحيفة على تبني أسوأ نماذج الثقافة السلفية المتشددة يؤكد ضخامة المؤامرة على الشرعية الدستورية والديمقراطية ولو من خلال تبني الأطروحات الفكرية لتنظيم القاعدة التي تذهب إلى عدم شرعية الدستور والقانون والنظام الجمهوري والديمقراطي، وهذا يعني أن السلطة لم تعد بحاجة إلى التواري وراء أقنعة الجماعات الماضوية المتشددة، لتزييف الوعي الديني وتوظيفه في خدمة الفساد والاستبداد، واحتكار السلطة، بعد استمرائها ممارسة هذا الدور بصورة مباشرة.
ومن المتوقع في ظل هذه الأجندة أن يتسابق بعض اللبراليين من مثقفي السلطة مع أبي الحسن المصري ويحيى الحجوري وغيرهم من مشايخ السلفية الماضوية، على تأكيد مخالفة تحديد فترات الرئاسة للشريعة الإسلامية، وأن هذا التقليد محاكاة للغرب الكافر حسب التصريح الذي نسبته صحيفة الميثاق للدكتور عبد المؤمن ، وقد يكتفي أكثرهم حياءً بالتأكيد على أن إلغاء التحديد يجلب المصلحة ويدرأ المفسدة وأنه فوق مستوى اليمن . ولن نعدم من يسارع إلى وصف خطوة تعديلات الدستور وقلع العداد، بالخطوة الحاسمة التي أنقذت البلد من الفراغ الدستوري الذي كادت أحزاب المشترك أن تدفع اليمن نحوه، لولا يقظة السلطة التي سارعت إلى انتشال قنبلة العداد قبل انفجارها، وكأن الحل للهروب من الفراغ الدستوري المتوهم هو إفراغ الدستور من محتواه كعقد اجتماعي يحول دون احتكار السلطة ويسمح بتداولها.
ويظل من الأفضل البحث عن مشاجب أخرى لتعليق تخلفنا عليها بعيداً عن الإساءة لصورة الإسلام المشرقة، وتحميل الإسلام مسؤولية التخلف الاجتماعي والسياسي لمسلمي العصر الحديث.
وعلى خلاف ما نفعله عادة مع بعض من نستشعر صدقهم من أعضاء التيار السلفي، فإننا نرى عبثية استهلاك الوقت في الرد التفصيلي على أمثال هذه الفتاوى السلطانية الجديدة التي تذهب إلى تحريم استيراد النظم السياسية من الغرب، والتأكيد على أن النظم الموروثة في تاريخ بني العباس وبني أمية بما تتضمنه من توريث وانقلابات المتغلبين هي النموذج الإسلامي الصحيح للحكم الذي لا يؤمن بغير الطاعة العمياء أو الخروج الأعمى.
إن مشكلة بعض مثقفي السلطة في الضمير وليست في الفكر، فهم يدركون جيداً ما قاله الفقيه الحنبلي ابن عقيل قبل أكثر من ألف سنة حين أكد أن السياسة في الإسلام ما وافق الشرع لا ما نطق به الشرع وأن صورة الحكم المثلى في الإسلام لا تكمن في الممارسات التاريخية للمسلمين التي استجابت لتحديات عصرها، وأن السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي".
ولا يجهل مثقفو السلطة ما قاله الفقيه الحنبلي ابن القيم الجوزية في التعليق على من يرى أن ابتكار آليات ونظم جديدة لمحاربة الفساد والظلم مخالفة للشريعة يقول ابن القيم:" هذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرّءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها. وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعًا: إنها حق مطابق للواقع، ظنًّا منهم منافاتها لقواعد الشرع" ويؤكد ابن القيم أن هذه الآليات الجديدة لا تتنافى مع الشرع ولكنها تتنافى مع أفهامهم الفاسدة يقول رحمه الله:" ولعمر الله، إنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نفت ما فهموه هم من شريعته باجتهادهم، والذي أوجب لهم ذلك: نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر"
ويؤكد ابن القيم إن الله سبحانه "أرسل رسله، وأنزل كتبه؛ ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان؛ فثم شرع الله ودينه".
و لا شك أن الدكتور عبد المؤمن لا يجهل أن الإسلام لم يحدد نمطاً واحداً للحكم، وترك التحديد للناس، ولا يجهل إشارة ابن القيم إلى خطورة قصور الوعي الديني عن استيعاب الآليات المستجدة في محاربة الظلم وإقرار العدل.
وقد سبق أن تحاورنا العام الماضي في صحيفة الأهالي مع رموز التشدد من مشايخ السلفية السلطانية، حول شرعية تحديد ولاية الحاكم، و أقر أبو الحسن المصري أمير دار الحديث في مأرب بشرعية المطالبة بتحديد ولاية الحاكم إذا كان هذا التحديد يمنع الاستبداد والظلم، وشارك في الحوار أحد المستنيرين في الجماعات السلفية الكاتب عبدالرقيب العزاني ، وأكد أن القول ببقاء الحاكم الصالح غير الظالم في الحكم طوال حياته على سدة الحكم من عقيدة السلف رضوان الله عليهم أكد أن هذا القول مما لا يمكن استساغته.
ونقتطف للدكتور عبد المؤمن وصحيفة الميثاق هذه الفقرة التي نشرت في مقالة هذا الأخ السلفي في صحيفة الأهالي قبل سنة ونصف تقريباً يقول الكاتب السلفي المستنير " إن فترة الحاكم في الحكم لم يرد فيها نص شرعي مما يجعلنا نفهم إن كنا نفهم أن قضية فترة بقاء الحاكم خاضعة للمتغيرات الزمانية والمكانية، وفي العصر الحديث صار الحكم عقد اجتماعي بين حاكم و محكوم فعلى الحاكم واجبات و له حقوق بموجب القانون المُتوَاضعِ عليه سياسيا وفق أصول الشريعة المجمع عليها، وكذلك على المحكوم واجبات و له حقوق..
فواقعنا اليوم يثبت أن سياسة (حاكم حتى الموت) تُصَادر في ظلها الحريات و الحقوق، ولا تشهد البلد تطورا إلا في تخزين الأسلحة و تشييد السجون، فالحاكم عندما يحكم ثلاثة إلى أربعة إلى خمسة أجيال تشهد مرحلته العديد من الاضطرابات لأن قدراته الإبداعية في القيادة تنتهي في فترة محددة تقدر بثمان سنوات كما هو المعمول به في الحكومات الديمقراطية الراقية، كما أن الحاكم عندما يحدد له الدستور فترة معينة تنقسم إلى فترتين يعلم أن الأمر مجرد عقد تعاقد به مع الشعب فلا بد من الوفاء به". وهذا الكاتب السلفي اليمني لا ينفرد بهذا الرأي دون سائر السلفيين، فجميع مشايخ المدرسة السلفية الإصلاحية يتبنون هذا الرأي وعلى رأس هؤلاء الشيخ حاكم المطيري أمير الجماعة السلفية في الكويت، والشيخ سلمان العودة وغيرهم".
وفي مقدور الدكتور عبد المؤمن أن يتحرر من مرجعيات تنظيم القاعدة ويأخذ بأخذ بأراء علماء المدرسة السلفية الحديثة، أو أن يعود إلى أهل الذكر في المجال الإداري وعلم الاجتماع والسياسة ليسأل إن كان يجهل عن أوجه المصالح والمفاسد في تحديد ولاية الحاكم، وعليه أن يعرف أن العلامة اليمني المسلم عبدالرحمن ابن خلدون رحمه لله سبق الأوربيين بمئات السنين في التحذير من خطورة استمرار الحاكم في الولاية وما يسببه هذا الاستمرار من تهميش للحريات وإقصاء للمشاركة الشعبية في السلطة و تكريس للاستبداد وهرم للدولة وصولاً إلى مرحلة انحطاط الدولة وخرابها.
وجاء في مقدمة ابن خلدون في عنوان الفصل الثالث عشر في أنه إذا استحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم وفي الفصل الخاص بأطوار الدولة واختلاف أحوالها، أكد ابن خلدون أن الحاكم لا يمكن أن يكون عادلاً صالحاً لممارسة الحكم دون استئثار إلا في الطور الأول من ولايته يقول ابن خلدون اعلم أن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجددة، ويكتسب القائمون بها في كل طور خلقاً من أحوال ذلك الطور لا يكون مثله في الطور الأخر، لأن الخلق تابع بالطبع لمزاج الحال الذي هو فيه. وحالات الدولة وأطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار: ويرى ابن خلدون أن الطور الأول: طور التأسيس والبناء يقول ابن خلدون "يكون صاحب الدولة في هذا الطور أسوة قومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة والحماية، لا ينفرد دونهم بشيء لأن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب وهي لم تزل بعد بحالها".
أما الطور الثاني من أطوار صاحب الدولة يصفه ابن خلدون رحمه الله ب: طور الاستبداد، استبداد صاحب الدولة على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة. ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنياً باصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع، والاستكثار من ذلك لجدع أنوف أهل عصبيته وعشيرته المقاسمين له في نسبه، الضاربين في الملك بمثل سهمه. فهو يدافعهم عن الأمر ويصدهم عن موارده ويردهم على أعقابهم، أن يخلصوا إليه، حتى يقر الأمر في نصابه، ويفرد أهل بيته بما يبني من مجده، فيعاني من مدافعتهم ومغالبتهم مثل ما عاناه الأولون في طلب الأمر أو أشد، لأن الأولين دافعوا الأجانب فكان ظهراؤهم على مدافعتهم أهل العصبية بأجمعهم، وهذا يدافع الأقارب لا يظاهره على مدافعتهم إلا الأقل من الأباعد، فيركب صعباً من الأمر".
وحسب تحليل ابن خلدون فإن الحاكم في هذا الطور ينظر إلى جميع القوى المشاركة في السلطة باعتبارها كروت محروقة يجب التخلص منها، لترسيخ واقع التفرد والاستئثار بالسلطة والثروة، وتوريثها للأبناء فقط دون الإخوة ومن يليهم.
إذا كان هذا هو حال الطور الثاني من أطوار صاحب الدولة فهل من الحكمة يا مشايخ السلفية السلطانية و يا دكتور كلية الشريعة وعضو لجنة الانتخابات السابق، هل من الحكمة ترك الحاكم حتى يصل إلى طور الاستبداد وما بعده من أطوار الاضطراب والتفكك والانحطاط؟ أم أن الأولى منعه من ذلك وإنقاذ السفينة قبل أن نغرق جميعاً؟
وهذا يعني أن صاحب الدولة في هذا الطور من أطوار بقائه في السلطة أصبح خارج إطار فترة الصلاحية حسب تعبير الزميل عادل الأحمدي، وأن الفاسدين من التجار هم الذين يروجون لسلعة منتهة الصلاحية تنظر إلى الشعب باعتباره كرتاً محرقاً..
وهل من الأفضل أن نستفيد من وسائل العدل في الدول الكافرة التي استقامت حضارتها بالعدل والكفر، أم نستفيد من وسائل الاستبداد في تجارب المسلمين التي أهلكها الظلم يقول ابن تيمية رحمه الله "وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم: أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام" رحمك الله يا ابن تيمية وعظم الله أجرنا في مشايخ سلفية اليوم الذين استبعدوا العمل على إقامة العدل ومحاربة الظلم من أولوياتهم.
ختاماً: أتنمى ألا تساهم صحيفة الميثاق في نشر فقه أكثر ظلامية من الفقه السلفي الحنبلي المتشدد،لأغراض سياسية وأود أن أقول للدكتور عبد المؤمن: كان يكفيك إذا كنت مضطراً لتصريح كهذا أن تتعلل بتخلف الواقع كما فعل غيرك في تبرير تأبيد السلطة، بدلاً من تحميل الإسلام وزر كوارث الفساد والاستبداد والاستئثار بالثروة وعقم السياسات الناتجة عن طول بقاء الحاكم في الحكم، ونناشد الأخوة في صحيفة الميثاق الكف -على الأقل- عن الإساءة إلى الإسلام إذا لم يكن في مقدارهم الكف عن الإساءة إلى الوطن والشعب، ولا أعتقد أن الأخ رئيس الجمهورية يقبل تشويه الإسلام لتبرير بقائه في السلطة، ولا أظن أنه يقبل تشويه الثقافة الإسلامية اليمنية ممثلة بعلامة اليمن الكبير عبدالرحمن ابن خلدون و التي كان لها الفضل والسبق في التأكيد على خطورة بقاء الحاكم في السلطة، ولا أدري هل يدرك عبد المؤمن وصحيفة الميثاق خطورة التحذير من الاستفادة من التجارب الغربية في تداول السلطة واستقرارها وشفافيتها؟ وهل تريد الميثاق إرشادنا إلى تجاربنا اليمني ومنها تجربة اغتيال الغشمي والحمدي و الانقلابان الأبيضان على السلال والإرياني، والثورة المسلحة على الأئمة يحيى وأحمد والبدر والانقلاب الإمامي على العثمانيين، والحروب الطاحنة على السلطة والانقلابات الدموية على مدار مئات السنين؟
إن تحميل الإسلام وزر القول برفض التحديد السلمي لولاية الحاكم بدلاً من الإزاحة العسكرية حسب تجاربنا العربية الأصيلة، جريمة في حق الإسلام والمسلمين لا يقتصر وزرها على اليمن فقط، فقد يستخدم أعداء الإسلام من الصهاينة ومنظمات فوبيا الإسلام العنصرية الحاقدة، ما نشرته صحيفة الميثاق دليلاً على أن الإسلام يرفض أنظمة الحكم الرشيد وأنظمة الشفافية التي تقوم على تدوير المناصب ورفض احتكارها واعتبارها ملكاً للأمة لا لعائلة أو حزب، نأمل أن تسارع صحيفة الميثاق إلى الاعتذار عن هذا الخطأ،والبحث عن وسائل أخرى للتزلف إلى من تريد، دون الإساءة إلى الصورة الحضارية لديننا المشرق.. ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا ولا تجعلنا من {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}.