حينما نتحدث في العموميات ونتفق حولها لا نواجه مشاكل كبيرة ونتجنب اي لغم قد يفجر التفاهم أو الحوار والتفاوض لكننا حينما ندخل في بحث التفاصيل التطبيقية للاطار العام المتفق عليه فاننا سنواجه المشاكل والعقد والالغام الخطيرة التي تنسف الاتفاق العام وتلغيه
هذا هو معنى المثال المذكور في اعلاه وكان هو اول ما قفز إلى ذهني وانا انتهي من مشاهدة مقابلة تلفازية في قناة الجزيرة حول انفصال جنوب السودان مع السيد حسن الترابي (الامين العام للمؤتمر الشعبي السوداني)، وهي مقابلة خطيرة بكل المعايير لانها تكشف ماكان مستورا أو مموها في مواقف السيد الترابي.
لقد كنت لا اعرف بعض تفاصيل ماكان يجري في السودان، وان كنت اعرف الاطار العام له، لكنني عرفت التفاصيل التي كانت غائبة عني حينما شاهدت المقابلة التي اجراها السيد علي الظفيري في برنامجه (في العمق) يوم 3 / 1 / 2011 فمكنتني من اكمال جمع صورة الوضع في السودان والوصول إلى تحديد اطراف سودانية اخرى تتحمل مسئولية تقسيم السودان تماما مثلما تتحمل اطراف عراقية جزء خطيرا من مسئولية غزو العراق ومحاولة تقيسمه.
في هذه المقابلة كان الترابي صريحا إلى درجة مذهلة وقدم على طبق من ذهب اعترافا كاملا وتاما وبتفاصيل لا غموض فيها تتعلق بموقفه الحقيقي من تقسيم السودان، والمذهل فيه هو ان موقفه الجديد يتشابه بل يتطابق حرفيا مع ماورد في المخططات الصهيونية – الغربية – الإيرانية القائمة على تفتيت الاقطار العربية عرقيا وطائفيا، وفي هذه المرة انطبعت في ذهني صورة احمد الجلبي، العراب الاول لغزو العراق، وتماهت مع صورة الترابي رغم الاختلافات المظهرية في اللون والتقاسيم واللغة الايديولوجية، واستحوذ على عقلي وعواطفي سؤال مهم جدا وهو هل قدمت احداث العقد الاول من القرن الجديد ادلة تكفي لتأكيد ان تياران اسلامويان احدهما في الوطن العربي وثانيهما في إيران اعتمدا من قبل الغرب الاستعماري والصهيونية العالمية وكيانها في فلسطين بصفتهما اخطر ادوات تقسيم الاقطار العربية؟
ان التفاصيل التي قدمها الترابي حول موقفه من تقسيم السودان جعلتني فورا اعتقد ان اسمه الطبيعي هو مستر تفاصيل الترابي، وتنحى اسم حسن وسقط في حفرة في اعماق الذاكرة، لانه اعترف وبلا اي حرج انه شيطاني الهوى والهوية والخلفية بافكاره وطروحاته وبالاخص بضحكاته التي لا سبب لها – والعراقيون يعرفون معنى الضحك بلا سبب - وكان يتعمد ان يفجر ضحكة بين ضحكة واخرى مع انه كان يتحدث في موضوع دم ودموع وكوارث و لا يمكن فيه حتى الابتسام!
ما الذي قاله مستر (تفاصيل) الترابي هذا والذي اجبر ذاكرتي على احضار صورة الجلبي؟
من بين اخطر ما قاله مستر تفاصيل الترابي في تفاصيله الشيطانية ما يلي:
1 – وصف الشمال العربي بانه (الشيطان الظالم) للجنوب وسالب حقوقه، والوصف أطلق على الشمال وليس على النظام السوداني وفي هذا الوصف دلالات كبيرة جدا منها انها اوصاف الغرب الاستعماري والكيان الصهيوني للحالة في السودان. ان الحديث عن ظلم الواقع على الجنوب، وبغض النظر عن صوابه أو خطئه، هو الممهد التكتيكي المعروف لتسويق فكرة تقسيم السودان.
2- تجنب ذكر دور تمرد الجنوب في احداث الفتنة وحمل الشمال العربي مسئوليتها فقط مع ان الجنوب هو من حمل السلاح وقاتل وليس الشمال الذي اضطر للرد.
3 – تجنب التطرق لدور الكيان الصهيوني والغرب في دعم التمرد وحينما ذكره السيد علي الظفيري بالدور الخطير للصهيونية والغرب الاستعماري في دعم التمرد وخلقه وادامته ضحك، وبلا سبب، وقال لولا اننا قدمنا الحجة لما تدخل الغرب ولا الصهيونية! وفي ذلك الموقف يكرر نفس منطق من حرضوا على غزو العراق من العراقيين والذي يصور الاستعمار والصهيونية وكأنهما جالسان فقط لالتقاط الاخطاء والتحرك في ضوءها وكرد فعل عليها، وليس لان الغرب والصهيونية لديهما مخططات معادية تستغل الاخطاء وتضخمها، لذلك فان استخدام الاخطاء كحجة للتدخل والغزو هو منطق الاحتلال ومناصريه فقط.
4 - والاخطر فيما قاله مستر تفاصيل الترابي هذا هو انه انكر وجود هوية وطنية سودانية وعرّف السودان بانه لملوم متنافر لصق لصقا اصطناعيا! تذكروا انه نفس توصيف الاحتلال وعملاء الاحتلال في العراق للعراق. وبناء على ذلك التوصيف فانه اعلن انه يوافق على تقسيم السودان إلى ثمانية دول وليس إلى دولتين فقط كما كان المخطط الصهيوني الاصلي ينص عليه!
مستر تفاصيل الترابي زايد على الكيان الصهيوني في موضوع تقسيم السودان واصبح يقبل بتقسيمه إلى ثمانية دول بدل دولتين كما خططت الصهيونية وقال ذلك وهو يضحك، مرة اخرى بلا سبب. ان انكار الهوية الوطنية السودانية ربما يكون رصاصة الرحمة التي اطلقها مستر تفاصيل على راسه لانه هدم كل تاريخه ومابناه وما اراد تشكيله من صورة عن نفسه كقائد (اسلامي) يبني سودانا قويا واضح الهوية والملامح يكون انموذجا يحتذى به،لكنه الان بانكاره وجود هوية وطنية للسودان ينكر كل تاريخه وكل هرطقاته وتنظيراته ويضع تياره بكامله امام اتهام طبيعي ومشروع بانه مجرد حصان طروادة.
5 – وكما في غزو العراق فان لافتة الديمقراطية وحقوق الانسان، ومنها حق تقرير المصير، كانتا السلاح (الامضى) في محاورة مستر تفاصيل الترابي هذا، فمادام اهل الجنوب واهل دارفور وغيرهم يريدون الانفصال فلم نعارض؟ انه حق تقيري المصير! وحينما اعترض الظفيري وقال له بذكاء ان حق تقرير المصير ليس حقا مطلقا وهناك متطلبات بقاء الدولة ضحك، مرة اخرى وبلا سبب ايضا ضحكته التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد مع ان الموضوع ليس برنامجا هزليا وانما هو مقابلة حساسة في موضوع مصير السودان المفترض انه وطنه! طبقا لمستر تفاصيل الترابي فان حق تقرير المصير حق لا يعلو عليه حق اخر، بما في ذلك حق الوطن في الوحدة، وبغض النظر عما سيترتب عليه من نتائج!
6 – والاغرب في منطق مستر تفاصيل الترابي هذا هو انه قال بعظمة لسانه بان اللغة المشتركة التي يتفاهم بها اهل الجنوب فيما بينهم ومع اهل الشمال هي اللغة العربية وهي سائدة في الجنوب ويتكلم بها الجميع. ان هذا الاعتراف بحقيقة لم اكن اعرفها سابقا، وكنت اعتقد بان اهل الجنوب يجهلون العربية تماما، يضع الترابي امام اتهام صريح جدا بانه يسهم مباشرة وبدور طليعي وفعال جدا في تدمير ثمرة عمل سوداني مرهق ومكلف لعدة عقود وهو تحقيق رابط ثقافي ولغوي مع اهل الجنوب لتعزيز الرابطة الوطنية السودانية عامة وترسيخها وتوطيد وحدة السودان شعبا وارضا.
والنجاح هذا، في جعل اللغة العربية لغة التفاهم الوحيدة بين عشرات الاقوام في الجنوب التي يستخدم كل منها لغته الخاصة فجاءت العربية لتصبح لغة توحيد اهل الجنوب ذاتهم قبل ان توحدهم مع اهل الشمال، مذهل وجبار وانجاز كبير جدا وتشكر عليه كافة الحكومات السودانية التي نفذت خطته لانه قفز بالسودان من حالة بلد منقسم، بين شمال وجنوب بسبب الحاجز اللغوي المتمثل بغياب اللغة المشتركة مما كان يعرضه للتقسيم السهل، إلى بلد يمكن لكافة ابناءه ومهما اختلفت مكوناتهم العرقية والثقافية التفاهم في الحياة والدراسة والتعلم بلغة مشتركة تقربهم وتردم الفجوات بينهم. فهل يمكن لوطني حقيقي ان يدمر هذا الانجاز وهو يصل مرحلة اعطاء الثمرات؟
واذا كان هناك من يعتقد بان تعريب الجنوب عمل عنصري فانه يقع في وهم مدمر لصدقيته لان كل دول العالم المتقدم، بما في ذلك أمريكا والاتحاد الاوربي، تضع شرط اتقان اللغة الرسمية لمنح الجنسية والتمتع بحقوق المواطنة، مادام ازالة الحاجر اللغوي من اهم شروط التقدم والقوة للدولة، فتسييد لغة وطنية عمل براغماتي عالمي في المقام الاول وهو بالاضافة لذلك تقدمي وعصري وانساني وعادل بكل المعايير.
7 – كذلك من اكثر الظواهر لفتا للنظر ان مستر تفاصيل الترابي يريد تطويع اسم الاسلام لخدمة مفاهيم غربية عفى عليها الزمن بعد ان دخلنا حقبة الكشف عن البواطن والتخلي عن الظواهر بعد انتهاء الحرب الباردة، فالترابي يستخدم حق تقرير المصير للوصول إلى احد اهم اهداف الصهيونية والغرب الاستعمري وهو تقسيم السودان. كذلك يستخدم الديمقراطية الغربية كوسيلة للوصول إلى ارادة شعبية جنوبية تقسمه، مع ان العالم دخل منذ انهيار الكتلة الشيوعية حقبة الديكتاتورية العلنية، تجاه العالم الثالث، وحقبة العنصرية العلنية في التعامل مع العالم الثالث ممثلة بغزوات أمريكا في العالم الثالث لنهب ثروات شعوبه التي توصف ب(الجاهلة والمالكة لثروات يجب الاستيلاء عليها من قبل الاذكياء المتفوقين)، والمدعومة – اي الغزوات - بيقظة النزعة الاستعمارية الاوربية تحت غطاء الارهاب، فسقط حق تقرير المصير وذبحت الديمقراطية في العالم الثالث على يد أمريكا أو استخدمت اداة لذبح الشعوب كما حصل في العراق، وتحولت مفاهيم حق تقرير المصير من حقوق مطلقة في زمن الحرب الباردة إلى حقوق مشروطة بخدمة الاستعمار الغربي والصهيونية والا فانها نزعات تفرخ الارهاب ويجب وأدها وهي في المهد كحق شعب فلسطين في التحرر وتحرير ارضه الوطنية التاريخية كاملة أو حق شعب الاحواز في التحرر من الاستعمار الإيراني.
والنزعة الاستعمارية الغربية المستيقظة على طبول التوسعية الاستعمارية الأمريكية تخلت عن الاخلاق والقيم العليا والتي كانت تستخدمها اثناء الحرب الباردة ضد الشيوعية ونظمها، واصبحت المصلحة الخاصة للغرب ودوله هي المحرك الرسمي، الم يحتل جورج بوش الابن العراق هو وتوني بلير تحت غطاء اكاذيب كانت معروفة ومكشوفة ولكن الكونغرس الأمريكي اعطاه الضوء الاخضر كما البرلمان البريطاني وافق عليها؟ وماذا فعل الكونغرس في أمريكا والبرلمان في بريطانيا تنفيذا واحتراما ل(قيم الغرب العليا والتمسك بالعدالة) بعد ان كشف رسميا عن ان غزو العراق كان ثمرة اكاذيب ملفقة ومفبركة؟ لقد ادى الغزو إلى ابادة اكثر من مليوني عراقي ماتوا كنتيجة مباشرة للغزو، وهجر اكثر من سبعة ملايين عراقي من ديارهم خارج وداخل العراق وانتهكت كافة القيم الانسانية والحقوقية على يد الاحتلال وفرق الموت التي شكلها هو أو شكلتها دول استغلت تعمد أمريكا وبريطانيا جعل العراق بلا حماية، فسرق كل شيء بما في ذلك تاريخ العراق ومتحفه واثاره وكنوزه الثقافية النادرة لدرجة ان المخابرات الأمريكية نظمت اكبر عملية نهب أمريكية – اسرائيلية (بعد عملية نهب المتحف العراقي بقرار أمريكي صريح) وهي عملية سرقة كتاب التوراة النسخة الاصلية التي كانت مخبوءة في مقر المخابرات العراقية لحمايتها بالاضافة لسرقة وثائق تاريخية ضخمة اخرى اثناء تلك العملية التي لا تقوم بها الا عصابات محترفة ولكن مخابرات أمريكا قامت بها بمشاركة الموساد الاسرائيلي رسميا!
وهل نسي مستر تفاصيل الترابي، ام انه تناسى، ان تدشين عصر انتهاء الحرب الباردة قد اقترن بصعود عصر افتراضي ووهمي ومخادع اسمته أمريكا عصر انتهاء السيادة أو تقلصها؟ وفي هذا العصر الغيت حقوق كثيرة اخطرها سيادة الدول وهو مفهوم غربي روج في عصر النهضة ثم تعزز لمواجهة ما كان يسمى (الخطر الشيوعي) وروجت في مطلع التسعينيات (نظرية السيادة الناقصة)، فاصبح غزو الدول ممكنا حتى بدون اسباب مقبولة، وتحولت اوربا من كيان يحميه حلف الناتو الذي اسس ليقوم بواجبه في اوربا فقط إلى كيان يغزو بقوة الناتو حينما تقتضي مصالح اوربا ذلك فاعلن رسميا ان حدود واجبات الناتو لم تعد تقتصر على اوربا بل اصبح العالم كله مسرحا لعمله! لقد سقط الغرب بكامل قيمة المزيفة وبرز غرب اخر وحشي وبلا حدود، واستعماري بلا تردد أو غطاء، وتحول العالم إلى مسرح لسباق الاقوياء للنهب واستعباد الاخر، فاصبحت الشعوب الفقيرة اكثر فقرا بعد انتهاء الحرب الباردة وتخلت الرأسمالية عن ابتسامة الليبرالية واستخدمت عبوس الديكتاتورية بوجه الاخر خصوصا الفقير والمتخلف ثقافيا.
ان رمز العصر الجديد بعد الاحداث المفبركة ل (11 ايلول – سبتمبر) هو ابو غريب وما جرى فيه وعرف العالم من خلاله ان الليبرالية وحق تقرير المصير والديمقراطية كانت مجرد ادوات غزو وتخريب في العالم الثالث والثاني (اوربا الشرقية)، بل ان الديمقراطية والليبرالية بدأتا تتقلصان وتضعفان بتصاعد واضح في أمريكا واوربا تحت غطاء محاربة الارهاب، فقيدت حقوق المواطن وحلت قوانين الطوارئ محل الدساتير حتى في الدول الاسكندنافية التي تقذف باللاجئين اليها إلى سلطات بلدانهم وهي تعلم انهم سيذبحون! وتجرأت لتهاجم مقدسات امم اخرى ورموزها الدينية المقدسة دون اي احترام للاخر وقيمه ودينه! فكيف نسى مستر تفاصيل الترابي كل ذلك واستخدم ديمقراطية الغرب الاستعماري وحق تقيري المصير الذان وضعا في عصر مات وانتهى وشبع موتا لتسويق خطة الصهيونية والغرب تقسيم السودان؟ في حالة مستر تفاصيل الترابي نواجه اسلامويا نمطيا لعب دورا خطيرا لعدة عقود باسم الاسلام يقف ليستخدم اسلحة غربية (صليبية) - بالمعنى الديني هذه المرة - من اجل تقسيم السودان. هل يوحي لكم ذلك بخطورة ادوار رجال استغلوا اسم الاسلام للتهيئة لاخطر التطورات المعادية للعرب والاسلام؟
8- والغريب الاخر في موقف مستر تفاصيل الترابي هو انه اسلاموي تكفيري وقف ضد القوى الوطنية والتقدمية وكفرها وحاربها ودعا إلى تصفيتها، وانتقل بمشروعه التصفوي من السياسية العامة إلى وضع الاقليات بين خيار الابادة وخيار الاسلمة. لم يعد سرا ان مشكلة جنوب السودان قد اصبحت مشكلة انفصال وليست مشكلة مطاليب في اطار وحدة السودان بعد وصول الاسلامويين إلى السلطة وبدء ما سمي بفرض الشريعة على غير المسلمين في الجنوب السوداني عندها تحولت الحرب في الجنوب من حرب مطاليب وفي مقدمتها المساواة بين الجنوب والشمال وانهاء التمييز إلى الانفصال تحت افضل غطاء له جاذبية وهو الاضطهاد الديني والتمييز الاقتصادي والاجتماعي على اساس ديني. هذا ما فعله جعفر النميري وهذا ما اكمله ووسعه وعمقه مستر تفاصيل الترابي حينا اصبح الحاكم المطلق للسودان الذي يحرك كل شيء من خلال تلاميذه العسكر الحاكمين، فحصل الشرخ العميق. ان اهم سؤال في ازمة السودان هو: من هو الطرف الذي مهد للانفصال وبنى اسسه الثقافية والاقتصادية والحقوقية والنفسية؟ اليس التيار الاسلاموي في السودان؟
والان وبعد ان اكمل دوره المرسوم في توفير شروط الانفصال يتخلى مستر تفاصيل عن النزعة التكفيرية تجاه اهل الجنوب ويتبنى الخيار الاكثر ليبرالية حق تقرير المصير - وهو الخيار الاغرب بالنسبة لاسلاموي – مع ان هذا الخيار اما يحتضر في مراكزه الاصلية أو انه اندثر في العالم كله بما في ذلك في الغرب! اليس ذلك امر مدهش ويجبر الانسان على تبني اي احتمال خطير بخصوص الدور الحقيقي لمستر تفاصيل الترابي؟
والا ليقل لنا سماحته هل يمكن في أمريكا مثلا تصور انفصال ولاية كاليفورنيا أو غيرها وفقا لحق تقرير المصير؟ وهل يجهل ان أمريكا ليست امة وانما هي امة في طور التشكل ولا توجد هوية وطنية أمريكية مشتركة لها حتى الان لان اغلبية السكان تحتفظ بثقافتها الاصلية وقسم كبير منهم يتحدث الاسبانية ولم يخضع لعملية الاحتواء الثقافي ضمن اللغة الانكليزية؟ بينما السودان مقارنة بأمريكا يملك الهوية العربية المتبلورة منذ قرون! هل سئل مستر تفاصيل نفسه هل يستطيع ثوار اسبانيا من الباسك مثلا ممارسة حق تقرير المصير في بلد ليبرالي؟ هل يستطيع اهل كورسيكا في فرنسا الانفصال عبر ممارسة حق تقرير المصير؟ ان هذا الانقلاب على النزعة التكفيرية لدى مستر تفاصيل الترابي ليس سوى تطور محسوب منذ زمن طويل ومارس الترابي كل مواقفه خلال العقود الماضية من اجل الوصول اليه ولكن بعد ان يتمكن من اكتساب صفة محببة ومقبولة ويكون له انصار كثر ينفذون طلباته وهو ما تحقق وحان وقت كشف اوراق لعبة القمار على الطاولة السودانية كما كشفت اوراق الاسلامويين في العراق المحتل.
ان الانتقال من التكفيري الظلامي إلى الليبرالي القابل لكل ما يسمح له بالضحك بلا سبب يلخص صورة العمل المخابراتي الغربي الصهيوني وانجازاته الخطيرة، تذكروا ذلك ولا تنسوه وانتم تحاولون فهم ما جرى ويجري في السودان ولا تنسوا ربطه بما جرى ويجري في العراق ولبنان وغيره، فكل هذه الاحدث اجزاء من صورة واحدة متكاملة ومترابطة عضويا والقاسم المشترك بين كل مشارك في التقسيم وخلق الفتن الطائفية هو الانتماء لتيار اسلاموي والعمل المنظم في العقود السابقة لاكتساب سمعة طيبة كي تستغل الان في اغراض شيطانية.
9 – ماذا يقول لنا مستر تفاصيل الترابي عن الكيان الصهيوني وهويته بازاء انكاره لوجود هوية للسودان؟ هل الهوية عمل اختياري صرف؟ ام انه ثمرة تطور تاريخي؟ كنا ومازلنا نقول ان الهوية نتاج تفاعلات تاريخية طويلة تؤدي إلى صهر جماعات بشرية في اطار ثقافي واجتماعي وحضاري واحد أو مشترك فتتكون الهوية. ولكن النظرية الاستعمارية الاوربية الحديثة وفرعها الأمريكية قالت غير ذلك وطرحت النزعة الارادية في تشكيل الهوية أو الامة بديلا عن تاريخية الهوية والامة، فجنوب افريقيا واستراليا وأمريكا والكيان الصهيوني وغيرها كلها بلدان نشأت نتيجة ارادة استعمارية، فهذه البلدان لم تكن موجودة قبل ثلاثة قرون، لكنها نشأت بعد هجرة الابيض الاستعماري إلى تلك الاراضي وقام الابيض بابادة السكان الاصليين أو استعبادهم تحت غطاء انشاء امم جديدة بالقوة وخلال عقود من الزمن.
لدينا الان أمريكا واستراليا والكيان الصهيوني وجنوب افريقيا وغيرها وهي كيانات مصطنعة اساسها ارادة الاستعمار في العثور على موارد جديدة تزيد ثراءه، ولاجل تشكيل مجتمعات تدعم المشروع الاستعماري استغل بؤس الفقراء في اوربا لتهجيرهم إلى قارات اخرى تسكنها شعوب بسيطة ومتخلفة ثقافيا، أو ان الجوع القاتل اجبر الالاف على الهجرة بحثا عن مصدر رزق في قارات واماكن جديدة، واخيرا لعب الاضطهاد الديني في اوربا دورا في اجبار كثيرين على الهجرة لاماكن جديدة لممارسة ديانتهم بحرية. لو نظرنا إلى أمريكا الان وليس بالامس فقط ماذا نجد؟ هل نجد امة؟ هل نجد هوية أمريكية وطنية؟ اذا كان المقصود هو سمات سلوكية معينة نعم أمريكا لديها هويتها المميزة جدا وهي هوية انكار انسانية الاخر وتدميره بالقتل والاستغلال والاهانة وغزو وطنه من اجل الاستيلاء على ثرواته بلا اي تردد، لكن هذه الهوية ليست هوية وطنية بل هوية عصابات ومافيات من حيث الجوهر، لان الهوية الوطنية هي بالاساس هوية ثقافية وسلوكية ونفسية مستقرة على قاعدة التعايش أو العيش المشترك لعدة قرون وربما لالوف السنين، كما هي حال الامم العريقة كالعرب والصينيين، ودون وجود نزعة اباد الجار أو البعيد لنهب ثرواته وارضه.
فهل توجد حالة تفاعل طبيعي بين بشر يسكنون القارة الأمريكية الشمالية انتج امة تكفي مياسمها وخصائصها لبروز هوية واضحة وثابتة لامة متكونة؟ كلا لا توجد هوية وطنية حتى بعد مرور اكثر من مائتي عام على ولادة الدولة الأمريكية وما يوجد هو جزر انانية من جاليات مختلفة ثقافيا ونفسيا واجتماعيا ومصلحيا، رابطتها قوية فقط حين تكون مصالحها الانانية الضيقة مضمونة اما حينما تتعرض للخسارة أو المصاعب فان الانا الضيقة للفرد تطغى على النحن فيصبح اهم معايير المواطنة المنضبطة – وليس الوطنية - هو تحقيق الفائدة الشخصية بخط مستمر وبلا انقطاع، وهذا ما رايناه بعد غزو العراق وتفجر ازمات اقتصادية خطيرة في أمريكا وتزايد الفقر وحصول عجوزات في مالية في ولايات غنية كولاية كاليفورنيا التي بدات قطاعات منها تطالب بالاستقلال عن أمريكا لتجنب مواصلة دعم الولايات الفقيرة ولحقتها بالمطالبة بالانفصال حوالي عشرة ولايات اخرى غنية. فهل تشكل ظاهرة الانانية الفردية أو الكتلوية سمات هوية وطنية أمريكية؟
هذه الملاحظات حول أمريكا والدول الحديثة النشوء ما هي الا مقدمة لابد منها لطرح سؤال حاسم على المستر تفاصيل الترابي وهو: لم تريد حرمان السودان من هويته السودانية الواضحة والمتبلورة منذ قرون طويلة وقبل ان تظهر أمريكا واستراليا وجنوب افريقيا إلى الوجود؟ نعم توجد اقلية غير مسلمة في الجنوب اصولها غير عربية، كما توجد اقليات مسلمة غير عربية في الشمال، ولكن هل اصول السودان كلها عربية؟ ان السودان والصومال وارتيريا امثلة تجسد حقيقة ان العروبة ليست عرقا بل هي انتماء اختياري، فالعربي في لبنان اميل للبياض والعربي في العراق اسمر وحنطي وفي السودان وارتيريا والصومال اسود وفي المغرب العربي الانسان بين الابيض والاسمر والحنطي، انه كنز عزتنا ان تكون قوميتنا العربية انتماء ثقافيا واجتماعيا وليس عرقيا نشأ عبر تفاعلات اختيارية وليس عبر غزوات استعمارية، ولكن ونتيجة لتدخلات الاستعمار لم تتوحد الامة في دولة وطنية واحدة وقسمت إلى اقطار فكانت الهوية الوطنية لكل قطر تعبير عن مياسم الهوية الام: الهوية القومية العربية.
وفي حالات عدم اكتمال اندماج اقليات اختياريا فذلك لا يعني انها لم تصبح عربية الهوية فالعربي في النهاية وحسب اقدم تعريف واقدسه للعربي هو من تكلم العربية واحب العرب، وهو تعريف نبينا الكريم محمد (ص) والذي اعتمد من قبل الحركات القومية العربية التقدمية وصار اساسا لتعريف العربي وتحديد هويته وتمييزه. اما حينما لا تختار الاقلية الاندماج وتريد المحافظة على هويتها غير العربية وغير الاسلامية فهذا حقها الطبيعي ويمكنها ان تبقى جزء من النسيج الاجتماعي والوطني الطبيعي وفي اطار المساواة التامة بين الجميع وبغض النظر عن اللون والدين والطائفة والاصل. هل نسينا ان الاقليات غير المسلمة، كاليهود والمسيحيين والصابئة وغيرها، عاشت قرونا طويلة داخل الدول الاسلامية دون تمييز أو اضطهاد؟
الان ياتينا مستر تفاصيل الترابي ليقول ان سكان الجنوب ليسوا عربا ولذلك من حقهم الانفصال رغم انهم اختاروا العربية لغة تفاهم فيما بينهم ومع عرب الشمال واصبحت اللغة الوحيدة التي تربط بين السودانيين! نحن لا نعترض على عدم عروبة هؤلاء فهذا امر واضح ولكن الخطير في الامر ان مستر تفاصيل يبدو كانه يريد ايقاف عملية تفاعل واندماج عفوية بدأت منذ قرون بين جنوب وشمال السودان بهدف الوصول إلى هوية مشتركة لنسمها عربية أو سودانية ولكنها موجودة وابرز تعابيرها ان اللغة العربية هي لغة الجميع في السودان، وهذا بحد ذاته المقدمة الطبيعية لتبلور هوية مشتركة بين العرب وغير العرب. اما الهوية العربية لشمال السودان المتكونة والمتبلورة والمستقرة قبل نشوء أمريكا بكثير فلا ادري لم انكرها مستر تفاصيل الترابي؟ هل لاكمال دوره وهو تقسيم السودان من خلال نفي وحود اي هوية؟ فهمنا هوية ابناء الجنوب غير مستقرة ولكن ماذا عن هوية ابناء الشمال؟ انهم ينتمون لهوية واضحة هي العربية فاصولهم عربية مغموسة بدم افريقي واضح لكنهم نتاج اندماج ناجح وانتهى بتكون هوية منذ مئات السنين، وغير العرب في الشمال ينتمون للاسلام وهم ليسوا مثل اهل الجنوب غير المسلمين ولذلك فانهم باسلامهم وبكون العربية لغتهم ليسوا هوية غريبة عن العروبة، وما برز من خلافات لم يكن سببه الهوية بل المصالح الاقتصادية القبلية المتمحورة حول المراعي والمياه...الخ، فكيف نسى مستر تفاصيل كل ذلك ودعى إلى قيام ثمانية دول في السودان ولم يكتفي بدعم انفصال الجنوب؟ نكرر ونذكّر حتى الكيان الصهيوني وهو اشد اعداء العرب لم يطالب ولم يخطط الا لتقسيم السودان إلى دولتين فهل لدى مستر تفاصيل الترابي معلومات عن مخطط صهيوني سري غير معلن لتقسيم السودان إلى ثمانية دول اعلن هو انه يدعمه؟
نحن لا ندعوا إلى الارادية في تشكيل الهوية فتلك عملية غير انسانية وهي غالبا اقترنت بالقوى الاستعمارية، ولكن ما كان يجري في السودان هو نشوء هوية لاهل الجنوب لا تختلف عن هوية اهل الشمال، فلم لا تدعم بطرق سلمية وديمقراطية من اجل ان تكتمل وتنضج؟ ان قطع عملية تكون هوية لاهل الجنوب مبنية على اللغة العربية والثقافة العربية عمل مشبوه بكل المقاييس ودعمه عمل مشبوه ولا يقل خطورة عن عملية قطعه. ومما يزيد الشبهات حول داعمي انفصال الجنوب السوداني هو ان الجنوب قرر قبل الانفصال جعل اللغة الانكليزية لغة رسمية له مع انها ليست لغته الاصلية ولم تسد أو يعرفها الا افراد، فلم هذا الاستبدال المشبوه جدا للغة استوعبت واتقنت وصارت لغة مشتركة لجميع اهل الجنوب ولكل السودان بصورة سلمية واختيارية بلغة جديدة ليست لها جذور أو جمهور؟ ان الجواب يعيدنا إلى اصل الموضوع وهو وجود مخطط معاد للامة العربية.
اننا نطرح على مستر تفاصيل الترابي سؤالا مكررا وهو: لم يريد اعادة تثقيف ابناء جنوب السودان على اساس لغة جديدة مع ان هويتهم كادت تكتمل؟ ولم يتجاهل ان أمريكا واستراليا وجنوب افريقيا واسرائيل دول قامت على القهر وابادة السكان الاصليين من اجل تشكيل هوية جديدة؟ هل للابيض حق لا يملكه الاسود والاسمر والحنطي العربي مع ان العربي لم يمارس الابادة تجاه السكان الاصليين بل اندمج معهم وصار منتميا لهوية واحدة معهم كما حصل في العراق ومصر والمغرب العربي؟ ان أمريكا تمثل لملوما متناقضا من بشر هاجروا اليها من مختلف القارات والثقافات والهويات كالاوربيين والصينيين والعرب والافارقة والاسبان وغيرهم ومع ذلك يعدهم الترابي هوية. اما الكيان الصهيوني فانه صنع لغة لم تكن موجودة اصلا وهي العبرية والتي تختلف عن العبرية القديمة واجبر سكانه على تعلمها والتخلي عن لغاتهم الاصلية الانكليزية والروسية والفرنسية والعربية وغيرها، فهل يحق للكيان الصهيوني القيام بعملية غير تاريخية وقائمة على الارادة فقط لانشاء شعب مصطنع فيما لا يحق لشعب السودان امتلاك هوية وطنية مع انه يمتكلها فعلا وواقعا ومنذ مئات السنين؟ ان المستر تفاصيل يزوّر التاريخ والواقع بكل صراحة بانكار الهوية الوطنية السودانية. فلمن يخدم ذلك؟
10 – حينما يحرجه السيد علي الظفيري بتذكيره بان تقسيم السودان خطة أمريكية وصهيونية يضحك مرة اخرى، وبدون سبب ايضا، ويقول ان زمننا الان مختلف والقوى الدولية شرسة ونحن لا نستطيع الوقوف بوجهها لذلك يجب ان نقبل خيار الانفصال! هذا هو المعنى لما قاله عبر الجزيرة، لكن مستر تفاصيل نسى أو تناسى ان أمريكا بعد غزو العراق تحولت من اعظم واغنى قوة في التاريخ، وهي كانت كذلك، ومن اشرس قوة في التاريخ واكثرها وحشية ولا انسانية، وهي كذلك، تحولت إلى ارنب مرتجف يريد الهروب من العراق بعد ان واجهت مقاومة الشعب العراقي الباسلة التي لم تبقي الوضع الذي خلقته أمريكا في العراق على حاله وفي حدوده وهو وضع الكارثة الشاملة، بل نقلت الكارثة إلى أمريكا ذاتها فاخذت تهدد بتفكك أمريكا من داخلها اذا واصلت غزو العراق، وهذا من اعظم انجازات البشرية الحرة، واعظم انجاز كفاحي لشعب العراق. والسؤال الذي تجاهله مستر تفاصيل الترابي هو: لم لم يفكر بالجهاد المقدس ضد أمريكا حفاضا على وحدة السودان وعروبتها وعلى الاسلام مع انه ولعدة عقود ملأ الدنيا باحاديث عن الاسلام والجهاد والتضحيات لكن حينما جد الجد صار الترابي ارنبا ك(اصدقاءه) الأمريكيين في العراق؟ هل شعب السودان اقل شجاعة من شعب العراق؟ وهل ما يهدد السودان اقل مما يهدد شعب العراق؟ اننا نقول بان شعب السودان الشقيق لا يختلف عن شقيقة الشعب العراقي بقدراته الجهادية وشجاعته ورجولة ابناءه واستعدادهم للتضيحة من اجل العرض والوطن والدين والهوية، فلماذا قفز من فوق ذلك واعطى انطباعا بان شعب السودان عاجز عن الدفاع عن نفسه وان كل ما عليه هو قبل الانبطاح لأمريكا والكيان الصهيوني؟
ثمة من يردد الان بان انفصال الجنوب شكلي وسيعود للوحدة أو لشكل اخر من الاتحاد مع السودان، كما فعل (الخبير) السوداني الدكتور حسن مكي محمد رئيس جامعة إفريقيا العالمية بقوله أن الجنوب يتجه لانفصال "صوري" وقلل من خطر انفصال جنوب السودان المتوقع في استفتاء 9 يناير الجاري ووصف مكي جنوب السودان بأنه في طريقه "لانفصال صوري" عن بقية أجزاء القطر، مدللاً على ذلك بتزايد معدلات التعريب والثقافة الإسلامية في الجنوب بفعل التواصل مع الشمال ووجود 1.75 مليون مسلم في منطقة الجنوب). (مفكرة الإسلام-1-2011). وهناك من توقع فشل الانفصال لان الجنوب سيكون دولة فاشلة وبلا مقومات، كما ان هناك من يقول ان دولة الجنوب ستكون مضطرة لاقامة علاقات جيدة مع السودان ومصر وبقية العرب.
هل هذا صحيح؟ كلا طبعا وهذا المنطق اما يصدر عمن لا يعرف أو انه يصد من جهة تريد تخدير ردود الفعل على انفصال جنوب السودان وامرار الانفصال بلا اي مقاومة أو تأخير. وثمة عدة اسباب تجعل هذا المنطق خاطئا بالنسبة لحسني النية وعملا مخابراتيا بالنسبة لمن يشارك في تقسيم السودان عمدا:
1 – ان انشاء دولة مستقلة في جنوب السودان اصلا كان مخططا صهيونيا معروفا شمل كل الاقطار العربية بالتقسيم على اسس عرقية أو طائفية دينية، وفي اطاره قررت الصهيونية وكيانها في فلسطين اعتماد ستراتيجية ثنائية الاتجاه: اتجاه اول وهو دعم الاقليات العنصرية أو الاثنية في الاقطار العربية كالاكراد وجنوب السودان، والاقليات الدينية والطائفية كالشيعة في العراق والمسيحيين في لبنان وغيره. واتجاه ثان يقوم على (نظرية شد الاطراف) وهي تقول يجب على الكيان الصهيوني اقامة علاقات تعاون ستراتيجي شامل مع الدول غير العربية المحيطة بالاقطار العربية في اسيا (إيران وتركيا) وفي افريقيا (اوغندا وكينيا والسنغال وغيرهما) من اجل تطويق الاقطار العربية وعزلها باصدقاء لاسرائيل من جميع الجهات، ومن يريد الاطلاع على هذه الستراتيجية وهو مستعجل ولا يريد اتعاب نفسه ليقرأ ما كتبه عوديد ينون الاسرائيلي في عام 1982 تحت عنوان (ستراتيجية لاسرائيل في الثمانينيات) والتي تلخص كل خطط اسرائيل القائمة على تقسيم الاقطار العربية والتي تنفذ في العراق والسودان بشكل خاص حرفيا وبدقة.
اذن السؤال الجوهري في ضوء هذا هو هل اسرائيل غبية وعملت عقودا طويلة وضحت بالكثير للوصول إلى اقامة دولة في جنوب السودان كي تتركها تصبح صديقة للعرب ومتعاونة معهم وليس حليف ستراتيجيا لها؟
2 – تبنت أمريكا وبدعم الاتحاد الاوربي مشروع الشرق الاوسط الجديد أو الكبير لاقامته بعد عدوان عام 1991 على العراق وهذا النظام يفترض ان يضم الكيان الصهيوني وتركيا وإيران بعد التعديلات المطلوبة على نظامها، بالاضافة إلى كيانات غامضة الهوية كانت تنتمي إلى دول عربية سابقة قسمت أو همشت. وحينما جاءت ادارة بوش الصغير تبنت بالاضافة لهذا المشروع المشروع الصهيوني وهو تقسيم الاقطار العربية بعد ان كانت أمريكا حتى ادارة بيل كلنتون تتبنى ستراتيجية تقزيم الاقطار العربية وليس تقسيمها. ولذلك فان النظام الشرق اوسطي في بنيته الاساسية يقوم على القوى الاقليمية غير العربية وتوضع الكيانات التي كانت عربية تحت سيطرتها وفي خدمتها بعد شرذمتها أو تقسيمها أو تقزيمها. وتقسيم السودان هدف محوري في الستراتيجية هذه لعدة اسباب منها سبب خطير جدا وهو ضرورة منع العرب من تحقيق اي استقلال غذائي عن طريق تنمية السودان وتنفيذ ستراتيجية تجعله سلة الغذاء التي تشبع جوع العرب، وفي هذا الاطار الستراتيجي العام والخاص فان تقسيم السودان جزء مركزي من خطة انهاء ودفن الامة العربية عبر حرمانها من امكانية سد الفجوة الغذائية الخطيرة والمتسعة بصورة هندسية.
3- ومن يعتقد بان الغرب الاستعماري والصهيونية العالمية ستتركان جنوب السودان يعاني من نواقص ستراتيجية في كيانه واهم فهذه الاطراف ستضع كل خبرتها وامكانياتها المادية والبشرية المتخصصة لجعل دولة جنوب السودان من انجح الدول في العالم الثالث ليس فقط لمواصلة عملية تفتيت السودان وعدم الاكتفاء بفصل الجنوب ومواصلة تنفيذ تلك الخطة بفصل دارفور، وهو ما اكده مستر تفاصيل الترابي عراب تقيم السودان الاول، بل ايضا لتشجيع اقليات اخرى في اقطار عربية اخرى على الانفصال كاكراد وتركمان ومسيحيين ويزيدية وشبك في شمال العراق، وتقسيم لبنان بين دول متعددة ان لم تنجح خطة سيطرة إيران عليه كليا، وتقسيم سوريا وانهاء الكيان الوطني الاردني باقامة كونفدرالية فلسطينية – اسرائيلية في الضفة الغربية المقطعة وعلى انقاض الاردن وفي غرب العراق، وسوف تتحول الاضطرابات الاخيرة في تونس والجزائر إلى نزعات انفصالية سواء الان أو بعد اعداد مضاف قريبا وسيكون تقسيم السودان عامل تشجيع النزعات الانفصالية المدعومة من الغرب واسرائيل في المغرب العربي وهي تتستر بغطاء عنصري (بربري)، أو ديني ينكر العروبة ويجعل من الاسلام نقيضا لها، كما تدل تسمية (المغرب الاسلامي) التي تبنتها القاعدة بدل تسمية المغرب العربي، اما مصر فسوف تقسم شر تقسيم ويصبح الكيان الوطني المصري اشلاء بعد تعريضه للموت عطشا عمدا ووفق تخطيط قديم تم تجديده مؤخرا.
وفي وقت تتعرض فيه كل الاقطار العربية للتقسيم والاضطرابات والتهميش سيبرز جنوب السودان دولة مستقرة وتتقدم بفضل الدعم الغربي الصهيوني الواسع النطاق، الا ترون الان كيف ان الكيان الصهيوني والغرب يدعمان الكيان الانفصالي في شمال العراق وجعله نسبيا مستقرا ويختلف عن باقي العراق المضطرب؟ وهذا بحد ذاته عامل تشجيع على التعجيل بتقسيم الاقطار العربية الاخرى وسحق القوى الوطنية والقومية العربية المدافعة عن وحدة اقطارها وهويتها الوطنية وانتماءها القومي العربي. من هنا فان تقسيم السودان يأتي في اطار تنفيذ خطة عامة لتقسيم كافة الاقطار العربية ومن هذه الخطة يستمد فصل جنوب السودان زخمه وخطورته على مستقبل الامة العربية.
4 – ان الدور الإيراني في السودان كما في العراق ولبنان والخليج العربي والسعودية والمغرب العربي هو نشر الفتن الطائفية تحت غطاء نشر التشيع، ويكفي ان نتذكر ان نشر التشيع الإيراني تزامن ويتزامن مع عمليات ضرب القومية العربية منذ نهاية السبعينيات وحتى الان، ووصل التلاقي الستراتيجي بين أمريكا والغرب الاستعماري والصهيونية وكيانها من جهة وإيران من جهة ثانية حد التعاون على غزو وتدمير العراق وافغانستان والتفاوض الرسمي لتقرير مصير العراق وتولي إيران وبدعم أمريكي صهيوني كامل مسئولية نشر الفتن الطائفية، واضطرار إيران نتيجة لانكشاف هذا التعاون الستراتيجي للاعتراف بانها تعمل وفقا لمصالحها القومية وليس بدافع الاسلام. لقد وصل التشيع إلى السودان كما وصل إلى مصر والمغرب العربي وحرك حساسيات وصراعات طائفية بين الشيعة والسنة العرب في كل تلك الاقطار، والسودان منها، لذلك فان ما يواجه السودان الان ليس استمرار التعايش بين الطوائف الاسلامية كما كان الحال حتى الثمانينيات من القرن الماضي بل سيشهد السودان صراعات حادة وعدائية بين الطوائف الاسلامية وتصبح هي الصراع الرئيسي وليس الصراع مع الجنوب غير المسلم أو غيره، وهذا الامر لاحظناه في العراق ولبنان وهو صراع مستمر امام نواظرنا ولا يجوز تحت اي تبرير ان نهمله ونتجاهله لانه القادم الاخر في السودان بعد فصل الجنوب. ونتيجة للتقسيم والفتن الطائفية فان انفصال الجنوب سيكون محصنا بالعداء للمسلمين والعرب وليس العكس.
ومن يريد التاكد من ان دولة جنوب السودان ستكون قوية ومتقدمة وافضل من السودان بالمعايير الدولية عليه ان يتابع حماس اوباما وهيلاري وبايدن وكارتر للانفصال، انه فرح من لديه خطة شاملة.
يتبع إن شاءالله..
*كاتب وسياسي عراقي