[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

ثلاثة دروس من الزلزال المصري

انتهى عصر الخطب والمواعظ. لم يرفع هؤلاء الشباب أدلجة القومية والوحدة ومفردات العروبية، ولم يسمع منهم أن الإسلام هو الحل وكأنهم أدركوا أن هذه الشعارات المستهلكة كانت جزءاً من مسيرة الكوارث الطويلة.

الدرس الأول: نهاية عصر الشعارات وفقدان الثقة في الأحزاب الحجرية المتكلسة. الذين قادوا ثورة التغيير من ميدان التحرير هم آلاف الشباب من الطبقة المصرية الوسطى الذين لم يرفعوا شعاراً سياسياً ولم يحرقوا علماً ولم يهتفوا بالموت لحضارات الشعوب في الشرق والغرب. شباب كانوا يبحثون عن الأمل والمستقبل والوظيفة والمحاسبة، وأكثر من هذا سلطنة المعرفة وسلطان الحرية. انتهى عصر الخطب والمواعظ. لم يرفع هؤلاء الشباب أدلجة القومية والوحدة ومفردات العروبية، ولم يسمع منهم أن الإسلام هو الحل وكأنهم أدركوا أن هذه الشعارات المستهلكة كانت جزءاً من مسيرة الكوارث الطويلة. ثمانية عشر يوماً في ميدان التحرير لآلاف الشباب من الطبقة الوسطى، ومن الواضح بمكان أن هذا الحشد قد احتشد بكل شيء إلا من (المنصة والميكرفون) وكأنهم يرفضون الإملاء وحصص التعبير. لم يبق من مكان للحزبيين والوعاظ والكتاب والمثقفين إلا بطون الفضائيات العربية والعالمية، لأنهم اعتادوا عليها، وهؤلاء الانتهازيون لا مكان لهم في أوساط الجيل الجديد ولا يتحدثون باسمه. لعشرات العقود، ومصر تزخر بعشرات الأحزاب الرسمية والمحظورة، وفجأة مثلنا، تأخذها الدهشة مما يحدث وتستيقظ في اليوم الثاني فلا تجد لها مكاناً بين حشود الشباب الذين لم يرفعوا لافتة حزبية وكأنهم يرفضون كل ما هو قديم ويضعونها كلها بلا استثناء في قائمة التهمة.

الدرس الثاني: نهاية عصر الكذبة الأميركية وخيال النفوذ الإمبريالي لقوى الاستكبار العالمي التي لم يعد لها من مكان إلا في خطب أباطرة السياسة المحنطة. اكتشفنا أن الحديث عن النفوذ الأميركي وعن قدرة أميركا الخارقة على حماية الأنظمة وعن خيالاتنا الكاذبة أن كل فرمان في زوايا العالم لابد من دفعه بالتوافق الأميركي مجرد كذبة عظيمة. اكتشفنا أن أميركا لا تختلف عن نيكاراجوا أو السلفادور، واكتشفنا أنها مثلنا جميعاً إنما تراقب الأحداث وتصدر كل مساء بياناتها المضطربة. تارة تقف في صف الشعب، لأنها لا تريد الوقوف على الجانب الخطأ من التاريخ وتارة تشعر بالقلق الشديد على حليف كنا نظن أنه صنيعتها الذي ستحميه فإذا بها تقف قسراً في موقف المتفرج. اكتشفنا ضعف النفوذ الأميركي وهي تحاول بلا حيل أن تمسك العصا من المنتصف، واكتشفنا سقوط النفوذ المزعوم والدعم المزعوم، فأميركا اليوم لا تختلف عن أحد في شيء. اكتشفنا أن أميركا ونفوذها ومؤامراتها وجبروتها واملاءاتها مجرد كذبة شحن بها عقولنا كتاب العرب وفضائياتهم وسدنة حديثهم القومي أو الليبرالي أو الإسلامي، وكل هؤلاء ساهموا في صناعة وهم كاذب لدى هذه الشعوب عن الإمبريالية الأميركية التي ذابت مثل كيس ملح في بحيرة جارفة.

الدرس الثالث: سقوط كل تنبؤاتنا وتحليلاتنا الكاذبة، وهنا سأعترف وأعتذر شخصياً عن كل نبوءة أو تحليل. نحن جميعاً ضحايا جيل محنط متخلف من الجيل القديم لسدنة الخطاب التحليلي السياسي من الكتاب والمثقفين وديكة الفضائيات ومراكز الدراسات والأبحاث وصانعي نشرات الأخبار وقارئي المستقبل العربي. هؤلاء يحاولون اليوم أن يركبوا المجداف الشبابي الجديد بعد أن غرقوا في الموجة التي اعتادوا ركوبها من قبل. هؤلاء كما أثبت البرهان جزء كبير من الهزيمة الفكرية والعلمية ومن المسؤولية عن التخلف السياسي والثقافي، وهؤلاء لا يختلفون في شيء عن الأنظمة التي يتشدقون على الفضائيات منذ عقود بمناهضتها والعداء لها، وهؤلاء هم بائعو الوهم البديل الذي يقدم نفسه لملء الفراغ. هم الديكتاتورية البديلة للديكتاتورية ولكنهم يقدمون أنفسهم في ثوب ناعم وملمس طري ولكنهم ذات الحناجر والأصابع. هؤلاء يبحثون عن دور سلطوي طالما ظنوا أنه أمامهم في الخطوة التالية فإذا بهؤلاء الشباب يفاجئونهم بسرقة المكان ووضع أقدامهم في مكان الخطوة المحتملة.

زر الذهاب إلى الأعلى