آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

الجنرال والحالة الثورية، والخروج إلى الإمكانية التاريخية!

لَأَولِ مرَّةٍ تصبحُ المسافةُ بينَ الحقيقة والحُلم في حياتنا كيمنيين خلال نصف قرن من الزَّمنِ تُسَاوي عُرضَ إِصْبَع، ويصبح الزَّمنُ والسَّاعاتُ تتحركُ عقاربُهَا بفرحٍ فِيْ بُعدها الآينشتاني النسبي.

ومن هنا يتطلبُ الأمرُ الإمكانية الأخلاقية عندَ مَنْ يستطيعُ أَنْ يمتلك ضميراً وطنياً خالصاً، وحسَّاً يمانياً صِرفاً، وصوتاً لقلبٍ رقِيْقٍ وفؤآدٍ لَيِّنٍ، أَنْ يتقدَّمَ قبلَ ضِيْقِ المسافة بين الحقيقةِ والحُلم، وقبلَ أَنْ يتكوَّرَ المُنْحَنَى الآينشتاني النِّسبي، فينتقل الحُلم من الفراغِ، التي تتفاعل فيه العناصرُ اليمانية الأربعة، لتُنْتِجَ عقلاً يمانياً جديداً، بموضوعٍ جديدٍ، مُتَكِيِّفاً واقعاً جديداً مختلفاً، في دولةٍ جديدةٍ؛ إِنساناً وأرضاً وحياةً.

إِنَّ المسافة بين الحقيقةِ والحُلم هِيَ الإنسَاْنُ ذاتُهُ. ولا شيءَ سوى ذلك. إِنَّ الشَّوقَ الْجَارفَ فِيْ القيادةِ، والرِّيادةِ مع وضوح الرؤيةِ للحالةِ الثَّوريَّةِ، والتَّروِّي في رسمِ الرُّؤيةِ الشفافة والعِلميةِ للحَدَثِ التغييري التَّعبيري عن تلك الأشواقِ الجارفة، يستلزم أَنْ تتبلورَ في انسجامٍ تامٍ مع الطِّريقِ الذي إختارتهُ النَّاسُ سقفاً لثورتها، وأَنْ ينطويَ تحت رايتها كل عناصر المجتمع المدني، ومكونات العمل السياسي لتَكُونَ في اتِّساقٍ يناظر الخطَّ العام للحالة الثَّورية فلا يُقْعِسها عن التنامي ويحيلها إِلى الظمور. ومن أَهمِّ عناصر نجاح هذه الثَّورة، الذي يضيف لها حيِّزاً كبيراً للتمدد أفقياً ورأسياً، هو البعدين الآخرَين؛ عمقها، والبعد الرابع الذي هو الزمن. يبدو الكلام منزلقاً وربمَّا يحتاجُ إلى شيءٍ من الوضوح؟!

لَاْ بأسَ إِذَنْ..
فلنرحلْ قليلاً في العمق والزمنِ الثَّورِيَّين للحالة الثَّورية في اليمَن.
ولعلِّي لا أُبالغ إِذا قلتُ أَنَّ الثَّورات لها قوانينها. وأنَّ الثَّورةَ هي صراعُ إِرَاْدَاتٍ، ومعركةُ إِدَاْرأتٍ. وَإِنَّ لَها بعدينَ مهمَّين: البعد الثالث، العمق؛ والبعد الرابع، وهو الزَّمن. ربما يتفق معي غيرُ قليل. والعُمقُ هنا يحملُ رُكنينِ أَسَاسيين.أَوَّلاً؛ منع حدوثُ فراغ سياسي ودستوري. وثانياً؛ تأمين إنتقال السُّلطة إلى الأطراف المعنية في هذا التحوُّل التاريخي. هذه لحظة تاريخية وحاسمة في تاريخ اليمنيين، ولا بد من تامينها وَاَنْ نحيطها بكل أسباب الرِّعاية كي لا تُجهض هذه اللحظة التاريخية كما أجهضناها في حرب 94. وتبدو لي الفرصة التاريخية الأخيرة لنا.

وحينَ أقول منعَ حدوث فراغٍ دستوري؛ فإنَّ ذلكَ يعني وجودَ سُلطةٍ قوية يحترمها الجميع، تؤمِّنُ سلامة الوضع الإجتماعي والسياسي والإقتصادي والإنساني للمجتمع المدني؛ كي لا ينهار المعبد على مَنْ فيهِ. وهو ما يراهن عليه الحاكمُ واللواحق مِنْ أفراد أسرته؛ وَأَنَّ دخول البلاد في حربٍ مِنْ أي نوعٍ تجرُّنا جميعاً بلااستثنآء إِلى أتون معركةٍ لا نعرف نهاياتها. والقوَّةُ الوحيدةُ الباقية لنا هي بقية القيادات في الجيش؛ الذي أدَّعي أَنَّ هناك بينَ قياداته وقاداته مَنْ هُوَ مرشحٌ للقيام بهذا الدَّور. لَا أزعم أَبداً أَنِّيْ سأُسمِّي أَشخاصاً.
لا.. أَبداً!..
ولا أُريدُ ذلكَ إِطلاقاً. وهو ليسَ دوري وإنْ كُنتُ ثائراً على هذا الحاكم من سنوات وإنَّما هوَ دورُ الثُّوَّاْر فِيْ ساحاتِ التَّغْيير. هم مَنْ يَرَوْنَ ويحدِّدونَ ذَلك. إِنَّ الإمكانيةَ التَّاريخية قد تُساعد الثُّوَّارَ ومجلس قيادة الثَّورة. والإمكانية التَّاريخية تعني أَنَّا نعيشُ في واقع له أرضياته وفرضياته؛ وله أُسلوب معروف لكل عاقلٍ في التَّعامل مع موضوعهِ؛ وله معادلاتهُ التي يجب أَنْ نقبلَ بها ضمن قواعد اللعبة السياسية الجديدة التي يجب أَنْ يفرضها الثَّوَّارُ والثَّورةُ وقوانينهما. وهو واقع ليس معقداً كما يرسمهُ البعضُ من المحللين؛ إِلَّا أَنَّهُ وضعٌ دقيقٌ وخيوطهُ اللعبةُ السياسية الجديدة فيه رقيقة.

وإِذْ نحاولُ أَنْ ندلفَ في هذا الواقع الدَّقِيْق المرهفةِ جدَّاً خيوط لعبتهُ؛ فيجب ألَّاْ نُغَيِّبَ عنَّا أَيَّ طَرَفٍ مِنْ الأطرافِ المَعنيَّةِ في ذلك الواقع. والناظرُ أَو المُشَاْهد العادي لِأَلوانِ الطِّيْفِ في تنوع الشَّرائح لبانوراما الشارع السياسي سيجد عدداً مِن الأطراف المعنية في المنظر المشهود الجديد. وهو منظرٌ مشروعٌ أَساساً وقد ضمنه الحقُّ التاريخي، والسياسي، والإنساني، والدستوري، والإمكانية الأخلاقية للعبة السياسية التي تأسستْ في حياتنا منذ زمن الثورتين؛ ثورة سبتمبر وثورة أكتوبر في التَّواجد إستصحاباً للحالةِ الثَّورية، واستحساناً للمشهد التغييري الجذري إرهاصاً، والتجذيري تَخْلِيْقَاً للدولة المدنية القادمة لا محالةَ. وملامحُ هؤلآء الأطرافُ منه ما يمكن أنْ يُصنَّف جديداً؛ ومنه ما يمكن أنْ يصنَّفَ قديماً ؛ ومنهُ ما يمكن أَنْ يُصنَّف من أسباب الأزمة السياسية التي تفاقمتْ وانتهت بهذه الثورة المشهودة. والطَّرفُ الجديدُ الوحيد من الأطراف المعنية، هو مجلس قيادة ثورة فبراير. وربما أعتبرُهُ الطَّرفَ الِمهَنِي المنوط به هندسة هذا التغيير الثوري، والمَعْنِي الوحيد في الوضع والواقع الجديد؛ أَوْ لِِأقولَ الطَّرفَ الَّذي تفوَّقَ فِيْ قيادةِ الشَّارعِ وريادةِ مسالك الثَّورةِ في كل اليمن أَو غالبِ المحافظات بامتياز إكتسح الجميعَ دون نظير.

وإذا كانَ لا بدَّ أَنْ نَذْكُرَ بقيةََ الأطراف التي ستكون ضمن أطراف اللعبة السياسية الجديدة والتي يجبُ أَنْ تحترمَ الوضع السياسي الجديد، باخلاق السياسي المحترف؛ فلا بُدَّ لنا مِنْ تمهيدٍ تقديمي.
فَلقد شاع القولُ أَنَّ السياسيةَ والسَّياسيينَ يكذبون كثيراً.
لا.. لِأَنَّ الحكمَ بذلك المنطوقٌ؛ يخرجُ بالأشيآء عن إمكانياتها الواقعية. والسياسي لا يكذب. لا تعجلْ.. تابع!
وَإلا لماذا تحدثُ الثورة الآن. لإنَّ السياسي ماطلَ فكذبَ!
فلكل مهنةٍ إمكانياتٌ أخلاقيةٌ؛ والسِّياسةُ لها إمكانياتها الإخلاقية. السياسةُ يا صديقي هيَ لُعبةٌ لها منطقها وواقعها وهدفها واضح تُلْعَبُ مِنْ أجلهِ هذه اللعبة، ولها قواعدها التي قلتُ عنها أَنَّ على السياسي المحترف لا الكذَّاب أَنْ يحترمها. هدفُ السياسة كحِرَفِيَّةٍ كظريةٍ محضةٍ هو الوصول بالقضية محل الخلاف إلى منطقةِ الوسط بينَ طرفي، أَوْ أطرافٍ معنيةٍ في قضيَّة هي محل خِلَاْفٍ وهو مايُطلق عليه Compromise. وَمنْ هُنا يبدو تعريف مصطلح كلمة (الأزمةِ) واضحاً جليَّاً. فالأزمةُ يَصِلُ تعريفها مَعَنَاْ، هنا على أَنَّهُ الإبتعاد عن الحل الوسط، والإنحراف بالقضية محل الخلاف إلى مسار نَصِلُ فيهِ إِلى المثلِ المشهور ( حَبَّتِيْ أَوْ الدِّيْك ) و ( أُرِيْدُ لحْمِي مِنْ كَبشِي، وأُرِيْدُ كَبشِي يَمْشي ).
وربما يصل الأمرُ ألى ما يُسمَّى Brinkmanshipأَيْ ( تصعيد الأزمة ) أو الوصول بالأزمة إلى حافة الحرب لتحقيق مكاسب وغالباً ما تفضي إلى نزاع قد يصلُ إلى حربٍ من أي نوع. ومِنْ هنا؛ فِإِنَّ ميراثَ الأزماتَ ، وتَرِكَةَ الحَرْبِ؛ التي سَيَرِثُهَاْ المشهد السياسي الجديد بقواعد اللعبة السياسية الجديدة المفروضةُ فرضياتها وأَرضياتها مِنْ قِبَلِ مجلس قيادة الثَّورة؛ لَهُوَ ميراثُ ثقيلٌ، وتَرِكَةٌ قِسْمِتها ضِيْزَىْ !

وعليهِ يجبُ على مجلس قيادة الثَّورةِ، ومجالسها التنسيقية، وكل الأحزاب، والشخصيات الإجتماعية المستقلَّة،والحراك، والحوثيين، أَنْ تقوم بتعريفٍ نفسيٍّ، وسياسيٍّ، وتاريخيٍّ، موسوم بالإنصاف والدِّقَّة، والعدلِ والتحديد لنفسها أولاً؛ و لكل الأطراف المعنية التي قلنا عنها آنفاً أَنَّ منها ماهو جديد أو قديم أَو أَحَد مكونات التَّرِكَةِ من أزمات الدِّيكاتور ثانياً. ولَعَلَّنا لا نختلف على المكونات القديمة التي ستدخلُ المشهد السياسي الجديد بقواعد اللعبةِ السياسية الجديدة المفروضة أرضياته وفرضياته من الطَّرف المعني الأوَّل المُتَفَوِّق بِامتياز كاسح على الجميع: ثورة وثوَّار فبراير. إِلَّا أَنَّ البعض قد يختلف مع بعضنا حول طرفين إثنين؛ هما الحراك والحوثيين. مِنْ أَيْنَ تنطلق شرارة الإختلاف؟! إِذا عُدنا للتعريف السَّابق حينَ تحدثنا عن السياسية وتعريفها، وعن قواعدها وهدفها، سنجد أَنَّ الخلاف يظهر جلياً، لِتَنْطَلِقَ شرارتُهُ؛ إِذا إنكفأ كلُ محاور إِلى دِيْكِهِ وحَبَّتِهِ، وكَبْشِهِ ولَحْمَتِهِ!

وَلظُروفِ بُعدي عن المشهد السياسي القديم، والمشهد السياسي الجديد؛ فإنَّهُ قد يغيبُ عني تفاصيلُ كثيرةٌ، من موازنات القوى في الشارع السياسي، ومعادلات أطياف العمل السياسي، وَآداب اللعبة السياسية، وأخلاق العمل السياسي، واحتراف أخلاقيات اللاعب السياسي؛ التي قد تؤثر في استخلاصاتي الختامية في طرحٍ ما. وهذا هوَ ما يبرر لي كتاباتي، أَنْ تُسَاْقَ في مسلكٍ فلسفي عام، ونظري جامع؛ دون الخوض في توازنات الشارع الدقيقة، ومعادلات العمل السياسي. إِلَّا أَني على إتصالٍ واسعٍ مع الدَّاخل، مع كثيرٍ من كوادر المجتمع المدني، وأطراف العمل السياسي. ولا يُعتبرُ ذلك أَنَّني أَتواصلُ معهم لَماماً، بل ربما بشكلٍ شبه يومي، وبشكل مريح، يتيح لي رسم التصورات الفلسفية، أو الطرح النَّظري، بصورةٍ تكاد تقترب كثيراً من الواقع، وتلمس الأشياء بعمقٍ، وقربٍ. ويؤلمني كثيراُ أَنْ أكونَ بعيداً لظروفي الصحية الحرجة كإنسان يعيشُ بنصفٍ قلبٍ في هذه اللحظات التاريخية التَّوُّلية في أهم مرحلة من مراحل التاريخ اليمني كله.

ولستُ أبالغ لو أزعم ذلك !
وبنآءاً على ذلك، لم تسنح لي السَّحابَاتُ بفرصةٍ للتواصل مع قادة الحراكِ، أَوْ الحوثيين. وَلَعَلِّيْ لَا أُخَوِّنُ أَحَدَاً، ولنْ أَفعلَ، أَوْ أَشَكِكُ في نواياه، ولنْ أَفعلَ، وَأضربُ في وطنيتهِ وحبهِ لليمن ، ولن أفعلَ، إِلى اللحظة بعيداً عن أَيَّةِ مواقف سابقة للحدث الثَّوري هذا أَو تفسيرات قديمةٍ مبنيةٍ على المشهد السياسي القديم، أو تحليلات سياسية، إجتهاديةٍ تقبلُ الإصابةِ، من عدمها . إنَّ الإزماع في ذلك يدفنُ الحوار في مهده!.. ويصل بنا إِلى تصعيد الأزمة كما فهمنا من التقديم الآنف.

والثَّورةُ تَجُبُّ ما قبلها بِحَسَبِ قوانين الثَّورةِ، والثُّوَّاْر، ودراسة الموضوع الذي تَجُبُّهُ الثَّورةِ، إِنْ قَبِلَ قانونُ الثَّورةِ، ونواميسُ الثُّوَّاْرِ بذلك. وإذا قَبِلْنَاْ بذلك، فَإِنَّ على الحِراك والحوثيين والأحزاب المعارضة داخل وخارج اللقآء المشترك، أَنْ يصلوا أولاً مع أنفسهم، إلى منتصف الطريق في أسقفِ المطالب، وعليهم تقع المسؤولية التاريخية، والدينية، والوطنية، في الوصول إلى المنتصف، والقبول بقواعد اللعبةِ الجديدة التي فرضتْ أرضياتها وفرضياتها التي فرضتهما الثَّورة . إنَّ الحاكم الذي تَخَلَّقَتِ من خلاله تلكما الأزمتان، سيذهبُ حتماً. والعِلَّةُ تدورُ مع المعلول وجوداً وعدماً. فإذا انتهىْ.. انتهى!

ولا أشكُّ أَو أُشَكِّكُ مطلقاً في مواقفهم الوطنية فِيْ أَسقٌفِهَا التظلُّمِيَّة، سوآءاً في المشهد السياسي القديم، أو ما ابتنوا عليه مواقفهم في المشهد السياسي القديم؛أَوْ المشهد السياسي الجديد؛ ما دمنا نلعب ضمن حدود اللعبة، ولا نتحاور إلا مع اللاعبين الجالسين على الطاولة في اليمن. والحراكُ، والحوثييون، هم لاعبون محترفون في العمل السياسي. ولا أَشُكُّ في ذلكَ ألبتةَ؛ ولهذا أَزعم أنهم يحترمون قواعِدَ اللعبة السياسية الجديدة، بأرضياتها وفرضياتها الجديدة، اللتينِ فرضتهما الثَّورةُ، وفرضهما الثَّوار، في ساحات التغيير في كبريات المدن اليمنية: صنعآء، وتعز، وعدن،وحضرموت، والحديدة، والقية الباقية.

إذنْ عرفنا إلى الآنَ.. الطَّرفَ المعني الأوَّل؛ وهو مجلس قيادة الثورة والمجالس التنسيقية لمجلس قيادة الثورة. وعرفنا طرفاً معنياً آخر وهو الحراك، والحوثيين. أمَّا لانظام صالح فقد فقد شرعيتهُ من لحظة إنطلاقة الثُّورة، ودقَّتْ أبوابَ أوَّل إنتصاراتها واجترحتْ بادرةَ ثمارها حينَ تعمَّدت بدمِ الشُّهَدَآء!

على أنَّ القارئ يجبُ أَنْ يَتَنَبَّهَ إِلى أَنَّ التَّرتيب لَاْ يعني ترتيباً لغرضٍ، بقدر ماهو إلَّا ترتيباً عابراً لا يحمل جانباً ذا أهميةٍ. فجميع الأطراف المعنية في المشهد السياسي الجديد، تحمل من الوطنية، وحب الوطن، ما يكفلُ لها الدخول في المشهد الجديد، وهو ما يُكَلِّفَها المسؤوليةَ التاريخية، والنَّفسية، والوطنية، لتحملَ أَماناتٍ لإحلام الناس، وآمال البسطآء؛ في النهوض بهم من البئر السحيقة، التي هم فيها إلى مراقي الخير، وأفآقِ المحبة، ومرافئ السَّلامة، وشواطئ الآمِنِ، في وطنٍ ينعمون فيهِ بالسَّلام الإجتماعي، تحت ظِلالِ علمٍ واحدٍ غزير العطآءِ ولآءاً، وقانونٍ لا يرَ النَاسَ إلَّا سواسية كأسنانِ المشط عدلاً، وفي كَنَفِ مجتمعٍ مدني يحترمُ الإنسانَ كونه إنسان، وفي يوتقةٍ دولةٍ مدنيةٍ يحترم المواطَنةَ المتساوية لكل أبنآء اليمن من أطرافه، ومن أقصاهُ إلى أقصاه بلا استثناء أَو مراتب غير أخلاقية.

والأحزابُ المعارضة، داخلَ، وخارجَ اللقاْءِ المشترك، يكوِّن طرفاً معنياً أيضاً. أًَزعمُ أَنَّ الأحزاب اليمنية تمتلك مخزوناُ من التجارب التاريخية التي تراكمتْ منذ حوالي خمسينيات القرن الماضي وتكللتْ تلك الخبرات في إدارةِ الأزمة السياسية إلأى ماقبل الحالة الثَّورية المشهودة الآنَ وَإِنْ تعثَّرتْ في فترات خلال إدارة الأزمة، والتَّقدُّم بالحالة السياسية أنذاك إلى حلحلة الأزمة. ولعلَّ من أهمِّ أسباب الإخفاق هوَ حاكم النظام الجاهلِ بمسألة تسوية الأزمة بما يفرضهُ الواقع السياسي وقواعد اللعبة السياسية ونظام الحاكم الصَّلِفِ الذي لا يؤمِن إِلَّا بدكتاتوريتهِ المريضة. فكانَ أَنْ تحلحل الشَّارعُ لحلحلةِ الأزمة؛ فأُعْلِنَتِ الثَّورةُ، كحلٍ جذري بشرَّ بنهاية صالح ولانظامه الغارقِ بكل صروف الفساد. والأحزابُ االيمنية متمرِّسَة عنْ حنكةٍ بارعةٍ أَبقاءها على رمَقٍ حَتَّى اللحظة، في ظلِّ نظام منع الهوآء النَّقي في بيئةٍ ديمقراطية ملوثة، إختنقَ بها هو أولاً، ويكاد يلفظ نَفَسَهُ الأخير.

وهي أحزابٌ شاركتْ في الثَّورتين؛ وهي أحزابٌ حكمتْ؛ وفي بعضِ الأحيان لها خبرات حتى في الإنقلابات العسكرية، التي ولَّى عصرها بالطبع. وقد قلتُ في رسالةٍ سابقةٍ أَنَّ على كل الأطرافِ المعنية إمَّا الإنضوآء؛ وإمَّاْ الإنطوآء ، حينَ تفوَّقَ الشَّارع بامتياز لا نظيرَ له، وَإنْ لَمْ تكنْ مُسَيْسَة بالمعني التنظيمي أو الحزبي.

إِلَّا أَنَّ الحزبَ لا يعني الإنتماء إليهِ، بطاقةً عضويةً؛ ذلكَ مفهومٌ قديم وتقننية عفى الزَّمنُ والعصر عليه. الإيمانُ بمبادئ الحزب، أَو بعض مبادئه، هو ما يعني اليومَ الإنتمآءَ العملي لفكرةٍ، أو لحزبٍ ما، يحملُ تلكَ الفكرة.

وهي أحزاب في غالبها ناضجة بالمعنى الحِرَفي السياسي، أو بالمعنى الإحترافي، وتحملُ فكراً ناضجاً تعرَّض في بعضِ المراحلِ لإخفاقات،وانتكاسات، إستلزمتْ مراجعات وإصلاحات عبر المسيرة اليمنية في العمل السياسي. ولذلك فقد كان لها دور ، يجبُ ألا ننكرهُ عليهم ، فهو رصيدهم، في تنمية التصورات السياسية للمفاهيم اليومية في العمل السياسي، وبلورة الأفكار حول العديد من القضايا التي كانت في يوم ما، محل إهتمام الشارع المحترف والعادي وموضوع الساعة في مرحلة ما. مما كان له أثره الفعَّال في ذهنية غالب شرائح الشارع السياسي، ومستويات الكتلة الإجتماعية في تصوير القضايا وتسمية الأشيآء بمسمياتها السياسية التي تتعلق بقضية وطنية وخلافه؛ وساعدتْ كثيراً في تحديد المفاهيم وتنقية الأفكار وغربلتها؛ وقد وصلتْ في بعض الحالات إلى تحديد ملامح بعض القناعات لدى كثير من مقاطع المجتمع المدني أفقياً ورأسياً.

وهاهو الشَّارعُ يدير الثورة باستقلال يثير الدهشة، ويقود الناسَ بتفوقٍ مثير، ويرتاد الأحداثَ بامتياز يستحق الوقوف له تقديراً واحتراماً. ودلالة نجاحات الثورة التي تكاد تقتربُ من النموذج المصري إلى حدٍ كبيرٍ لا تغيب إلا على متجاهلٍ أعمى، أو صَلِفٍ زنيم عُتُلٍ. وإلا فلمَ المبادرة تلوَ المبادرة من لانظامٍ متهالك على شفا حفرةٍ من النار. إنَّ الشَّوقَ الجارف لدى الشَّباب المتغير الجديد توَّاقاً للقيادة والرِّيادة بعنفوانٍ لا نظيرَ له؛ ويحق لهم ذلك؛ ففي بلدهم هذا فإنهم يمتلكون مخزوناُ نفسياً، ودافعاً تاريخياً زاخراً، وزخماً وطنياً في عشق اليمن أَرضاً ووحياةً وإنساناً. وَلِمَ يستشهدون! ولنْ يخلفَ الثُّوَّارُ إلا يمناً جديداً يحرسهُ ناسٌ جُدُد من طرازنادرٍ فريد.. بعد ليلٍ إمتدَّ لثلاثٍ وثلاثين من الأحوال المٌمِضَّة العِجاف!..

وأستذكِرُ خلجةً وخاطرةً قفزتْ إلى ذهني في لحظةٍ؛ وهي خلجةٌ وخاطرةٌ للثُّوَّار... أَقُولٌ لهم إِعْلَاْنُ الثَّورةِ يأتي مَرَّةً واحدةً، وهو حالَ بدايتها مفاجأةً، وانطلاقتها فلتةً،َ وانفجارها بغتةً؛ أَمَّا إِعْلَاْمُ الثَّورةِ فهي عملية مستمرةٌ لاتتوقف مكينتها، وهي ميكانيكية وآليةٌ تعتمد عليها الثَّورةُ في بعثِ الرسائل للعواصم المهتمة بالحدث إقليمياً ودولياً، وإشارات للعواصم الكبيرة. تلكَ نقطة من الأهمية بمكان... إعْلَاْنُ الثَّورةِ مرَّة؛ وَإِعْلَاْم الثَّورةِ َهو مكينةُ الثَّورة التي تعطيها الزَّخمَ اللازم في بداياتها.

بَقِيَ لنا طرفان مَعْنِبَّاْنِ في المشهد السياسي الجديد. وهما القبائل، والجيشُ. وَأَنَا هما لا أتحدثُ عن الحرسِ الجمهوري أو الحرس الخاص فهما الأكثر ولآءاً، وإِنْ كٌنتُ لا أستبعدُ عنصرَ المفاجأةِ فيهما. إلأَ أَنَّ الثَّورةَ لا تعتمدُ على حسابات المفاجأةِ إِلَّا في انطلاقتها. القبيلةُ في اليمن، وفي بحر التاريخ منذ سبأ، وبلقيس، والعرش، والمعبد، والشورى التي عُرِفَ بها اليمنيون كأوَّلِ ديمقراطيَّةٍ في العالم.. القبيلة كانتْ مِفصلاً من مفاصل أتخاذ القرار، ومُعادِلاً سياسياً في موازنات الواقع في كل الأزمنة التي مرَّتْ بها اليمن رضينا أم أبينا. والخِلافات القائمة بين بعض شرائح المثقفين مبني على مواقف سابقة. وهذا خطأ نرتكبه.
إِنَّ تفكك القبيلة لا يحدث بقرار سياسي. تفكك القبيلة يحدث نتيجة تفاعل عام للكتلة الإجتماعية بشكل عام ضمن رؤية شاملة ومشروع تتبناه الدولة بمساعدة المجتمع الدولي وهيئاته التي تسعى بعض مؤسساته إلى مثل ذلك. إنَّ القبيلة أُرهقتْ من حماية نفسها بنفسها؛ القبيلة أُرهقتْ من قضايا الثَّارات والصراعات الصغيرة التي رعتها الأنظمة منذ مايزيد على ألف عام لخدمة الأنظمة لاغير.. القبيلة لا تلجأ إلى ذلك لإنَّ القانون معدوم والعدل مفقود والأمان ضائع. إقلبْ الوضع معي!
إذا وجد الأمن، والعدل، والأمان، والطمأنينة، والمواطنة المتساوية، والتوزيع العادل للثروات والأرزاق، وإذا وجدت المدرسة والمستشفى والنور والماء النَّقي وكل مستلزمات الحياة الكريمة.. صدقني ياصديقي القبيلة أول مَنْ سيرمي سلاحه في خيمته وسيسعى إلى التحوُّل بدون قرار سياسي. الزمن تغيَّر. ومشائخ القبائل تغيرت وهم مثل غيرهم .. اليمن تتسع لكل شريف يحب وطنه وناسه وأرضه.

الخلاف يظهر على السطح إذا أقصى كلٌ منا الآخر أو ألغاه. إنَّ مبدأ الوسطية في حل أي أزمة هو مفتاح حل الأزمات. يجب أن نعي ذلك ونحن نبني الدولة المدنية الجديدة. والثَّورةُ هي التي ستغربلُ الشخوص والفكر والمنظومة السياسية والإجتماعية والإقتصادية كاملة. وعلى الثَّورة أَنْ تبقى في الشارع لممارسة الضغط على أي وضع قد ينحرف بالثورة وأهداف الثورة عن مسارها التي قامت من أجله. الشارع يجب أن يبقَ في الشارع!

بقي الطرف الأخير.. الجيش!
الجيش وقادته الأنقيآء هو أكثر عنصر يتحمل المسؤولية التاريخية للإنتقال بالثورة من الحالة الثورية إلى الدولة المدنية، ولنا في النظرية المصرية أفضل دليل. الفوضى تحدث متى وُجِدَ الفراغ السياسي والدستوري. وجود الجيش صمام الأمان في عملية الإنتقال إلى الوضع الدستوري. وأقول الجيش. أي مجلس أركان الجيش على النظرية المصرية. وإذا تحركت السفينة إلى الشاطئ الآخر.. حينها للثوار أن يقولوا كلمتهم التي يروَنها تحت ظلال القانون !
وهذا هو البعد الرابع !

زر الذهاب إلى الأعلى