كانا زميليْ معلامة، ورفيقيْ درب، واستطاعا بقوة التلاحم بينهما أن يصلا إلى سدة الحكم وأن يستمرا فيه عقودا من الزمن.. فلماذا تحطم كل ذلك، وسعى أحدهما (علي عبدالله صالح) لاغتيال الآخر (علي محسن صالح)، ونفيه من الوجود. وليس مرة واحدة، بل مرارا، آخرها الثلاثاء الماضي.
أمعقول أن تتحرك الآليات والمدرعات وراجمات الصواريخ لتنهي علاقة حميمة بين مواطنين اثنين من أبناء اليمن شدا أنظار الشعب إليهما، وصارا محور التقاطب ومحط الأنظار وملجأ الشاكِين ودرب الصاعدين..!
بعيدا عن الثورة والتغيير والصواب والخطأ والفساد والحروب.. هذه خواطر جالت في الذهن وأنا أتأمل هذه الصورة النادرة التي تجمع الرجلين (المرفقة مع المقال)، خواطر عن حالة إنسانية كانت جديرة بالتقدير والإعجاب وصارت مدعاة للشفقة.. إنها حالة من الايثار والتعاضد والثقة انتهت إلى حالة من التآمر والتوجس والألم. فما أبشعك أيها الشيطان وما أضعفك أيها الإنسان وأنت تستسلم لوسوسات عدوك الرجيم.
من كان يظن أن جنديين من بيت الأحمر أحدهما ينحدر من أسرة فلاحة (علي صالح) والآخر من أسرة مشيخ (علي محسن)، سيمسكان بزمام الحكم في الشطر الشمالي من اليمن ثم تأتي وحدة اليمن لتتسع دوائر النفوذ على طول اليمن وعرضه. هما ليسا شقيقين من أم، كما يشاع، لكن قوة العلاقة بينهما كانت سببا في سريان هذه الشائعة التي أصبحت في نظر البعض من المسلمات.
تقاسم الرجلان كل مواقع الخطر وكل مواضع القدم.. كل المدن فيها ألوية تابعة لكليهما بالتساوي.. وكان كل منهما يسيطر على قطاع واسع من المجتمع لا يقدر الآخر على احتوائه.. وهكذا إلى أن جاءت فتنة الأبناء وصار اللواء يقابل المشير بصعوبة... وشيئا فشيئا استولت على المشير فكرة التوريث تلك التي يرفضها اللواء ومن هنا بدأ الشقاق.
في العام 1978، وبمجرد مقتل الرئيس الغشمي في 24 يونيو، اتصل علي محسن بعلي صالح قائد لواء تعز الذي كان يكرم ضباطه على نجاح عملية إبعاد قائد المظلات المنشق عن الغشمي عبدالله عبدالعالم في الحجرية وقال له تعال استلم مقاليد الحكم وكلنا سنقف معك.
سيطر اللواء الأول مدرع (هكذا كان يسمى) بقيادة علي محسن على الاذاعة والتلفزيون وطار صالح من تعز إلى صنعاء وبدأ الاثنان في لملمة الجيش حولهما عبر سلسلة من الاجراءات والحوارات والاقناعات استمرت 23 يوما وتكللت بانتخاب صالح رئيسا للشطر الشمالي من قِبَل ما كان يعرف بمجلس الشعب التأسيسي.
وما هي إلا أشهر وتقع في منتصف أكتوبر 1978 محاولة انقلاب فاشلة من قبل الناصريين للرئيس الجديد الذي كان يومها خارج العاصمة، فاستبسل علي محسن في احباطها وهذا حسب ما رواه لي ناصريون ويقولون لولا محسن لتخلصنا من صالح في وقت مبكر.
وبعدها بقليل استبسلت ميلشيات الجبهة المدعومة من نظام الشطر الجنوبي في عدن الموالي للسوفيت ساعية لاسقاط نظام صنعاء الموالي لدول موالية للأميركان، ونشطت ميلشيات الجبهة في المناطق الوسطى من الشطر الشمالي، وكان علي محسن هو رجل الميدان الذي جمع حوله الجيش والاسلاميين إلى أن تم دحر الجبهة تماما بعد سنوات من النزيف، وأمكن للشمال أن يبدأ فترة البناء والرخاء وصولا إلى يوم اليمن المجيد 22 مايو 1990 تاريخ قيام الجمهورية اليمنية.
أسهمت أزمة الخليج في إحداث شرخ لم يلتئم بين شريكي الوحدة علي صالح وعلي البيض وانتهى الأمر إلى حرب 94 التي كان علي محسن بطلها الميداني أيضا إلى جانب عبدربه منصور هادي. وأمكن لما سمي بجيش الشرعية أن يبسط السيطرة على رقعة اليمن خلال 60 يوما، وهو أمر محسوب للشعب اليمني شماله وجنوبه، وكان من أهم عوامل سرعة الحسم إعلان البيض في 21 مايو 94 انفصال الجنوب.
بعد 94 اختلف الرجلان على كيفية التعامل مع آثار الحرب، وكان علي محسن ضد فكرة تسريح جيش الحزب متغلغلا في النسيج الاجتماعي الجنوبي الذي عمده بمصاهرة الشيخ طارق الفضلي واحتواء القادة والأفراد من ضباط الجيش الموالي للبيض، في ذات الوقت الذي حالت حكمة الرجل وتعقله من انفجار الوضع على الحدود مع السعودية رغم حدوث مناوشات استفزازية باعتبار السعودية دعمت الانفصال الفاشل وباعتبار محسن قائدا للمنطقة الشمالية الغربية.
طيلة ذاك كان الرئيس صالح محط الأضواء باعتباره في موقع الرئيس ومحور الاهتمام باسمه تدبج المدائح وتلحن الاوبريتات ويتحدث العالم، ويُنسب إليه وحده كل إنجاز، فيما علي محسن لم يظهر في تصريح تلفزيوني إلا قبل أيام حينما أعلن تأييده مطالب الشباب وحماية المعتصمين في ساحة التغيير في الجامعة القريبة من مقر الفرقة الأولى مدرع،.
بعد 94 اهتم صالح بإزالة الفيتو المرفوع اقليميا وعالميا ضده بسبب موقفه من غزو الكويت، كما اعتنى جيدا بتقوية حزبه وازاحة ما تبقى من أطراف سياسية بعضها كان حليفا لصالح مثل حزب الاصلاح، وبسبب عملية الإزاحة "الصندوقية" خسر اليمن الكثير إذ كان الأولى بالنظام معالجة آثار حرب 94 وإصلاح مسار الوحدة وترميم الوجدان اليمني والاهتمام بالتنمية البشرية واستكمال البنى التحية وخلق الانسجام بين أبناء الوطن الواحد، لكن ذلك لم يتم والأدهى أن فكرة التوريث لمعت في ذهن صالح وأعانه عليها شياطين الجن والإنس، وعارضها رفاقه وسواعده وعلى رأسهم علي محسن.
نهاية التسعينات انفجرت طائرة هيلوكبتر وداخلها 20 من أبرز القادة العسكريين على رأسهم محمد إسماعيل (انضم نجله للمعتصمين) وأحمد فرج وعوض السنيدي. من هنا وجد علي محسن نفسه في مجابهة فكرة التوريث ومعه صالح الضنين ومحمد علي محسن وعبد اللاه القاضي (انضم هو ونجله النائب محمد عبداللاه القاضي إلى المعتصمين).
في 2001 حدث الاعتداء على أبراج مانهاتن وأعلنت أمريكا حربها العالمية ضد تنظيم القاعدة.. وبدأت أجهزة صالح تحاول الربط بين علي محسن والقاعدة بشكل متعسف، والحقيقة أن كليهما استعان باليمنيين العائدين من أفغانستان أو من يسمون بالمجاهدين وشارك بعضهم في حرب 94 ضد قوات البيض، وتحول بعضهم إلى مواطنين عاديين فيما انضم القليل منهم لتنظيم القاعدة الذي أعلن العام 1998.
وتركيزي في الحديث هنا على دور علي محسن لا يعني أن علي صالح كان بلا قدرات ولا مواهب، لا.. فموقع الرجلين في الحكم كان كموقع العقل والقلب في الجسد، ولقد تبادل العليّان هذين الموقعين ببراعة طيلة فترات التوهج. لكن رغبة صالح الملحة في التوريث أدت إلى انحراف متسارع وقادت إلى مآسٍ أضرت بالبلد؛ منها حرصه على تهيئة الظروف لنجله عن طريق إزاحة وإضعاف القوى السياسية المنافسة مستخدما امكانيات الدولة ليحشر الجميع في تحالف اضطراري سمي اللقاء المشترك. كذلك أزاح صالح كل الأقوياء في حزبه وعمل على تصعيد قوى هزيلة تمتن له هو بمناصبها (وليس لكفاءتها واستحقاقها) وتطبل للتوريث. وتواطأ صالح وضعفاؤه على حماية الفساد وممارسته في بلد منهك شحيح الموارد. ثم بدأ عمليا في تمكين نجله وأبناء أخيه بأن سلمهم زمام الكثير من المواقع القيادية في مؤسستي الجيش والأمن، فأصبح نجله قائدا للحرس الجمهوري والقوات الخاصة وأبناء أخيه في الحرس الخاص والأمن المركزي والأمن القومي. ليس هذا فحسب بل عمل على تقوية المؤسسات التي رأّس عليها أبناءه، وإمدادها بصفقات أسلحة، واعتمادات مفتوحة، وإضعاف ما عداها كالفرقة المدرعة وغيرها.
ومعلوم أن تقديم الحاكم (أي حاكم) أقاربه وأصدقائه وأصهاره، وتمكينهم في المواقع والمناصب على حساب القدرات والكفاءات التي يزخر بها آخرون غيرهم من أبناء الشعب هم أجدر بها، والإصرار على ذلك ورفض النصح والنصيحة، هو سبب كل بلاء في كل عصر ومصر لأنه يوغر صدور المحكومين، ويبرر للعصيان، ويفتح باب الخروقات للمتسلقين والمنافقين والواشين، وتنتهي سلطة السلطان مهما كان جبروته، ومهما كانت موجبات الانصياع له..ومعلوم أن الفتنة التي حدثت في عهد ذي النورين الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضوان الله عليه استعرت بسبب تقديمه قرابته، ولم يتراجع هؤلاء بمبرر الخوف على الوحدة الوطنية والجغرافية لدولة الخلافة الحديثة العهد والتي فتحت للتو الشام ومصر والعراق وشمال أفريقيا وأسقطت دولة الروم والفرس!! ولنكمل الحكاية..
وفي صيف العام 2004 اندلع في صعدة تمرد الحوثي كإحدى أخطر الإفرازات الناجمة عن لعبة التوزانات التي يمارسها صالح مستفيدة من المد الشيعي في المنطقة. وشهدت صعدة ست حروب خلال ست سنوات، وكان على اللواء علي محسن الاضطلاع بمهمة إخماد التمرد، بحكم اختصاصه كقائد للمنطقة الشمالية الغربية، وتعرض خلالها الرجل لأكثر من محاولة اغتيال ليس من قبل الحوثيين بل بنيران صديقة، إحداها تم الكشف عنها عبر وثائق ويكيلكس..
ومع الطريقة العبثية التي تمت بها الإدارة السياسية لحرب صعدة؛ التي راح ضحيتها الآلاف من أبناء اليمن، ونزح وتشرد بسببها عشرات الالاف، بدا واضحا للمواطن العادي أن الرئيس يقود البلاد إلى المجهول، وأن النظام يتآكل وأن التمردات والانقسامات والفساد ومستلزمات التوريث تنهشه من كل اتجاه ليفور في 2006 في بعض مناطق الجنوب مرجل الغضب رفضا لهذه السياسات وأملا في إرساء دولة النظام والقانون وإلا العودة إلى ما قبل 90. وعرفت موجة الاحتجاجات هذه بالحراك وهي ثورة بكل معنى الكلمة سبقت ثورة تونس ومصر ولكن صالح استطاع اختراقها وحقنها بالشعارات المناطقية والعنصرية حتى لا تنتقل عدواها لباقي أرجاء اليمن ولكن هذا الأسلوب لم يجد نفعا فمبجرد اندلاع الثورة العربية في تونس ثم مصر سرعان ما أصبح اليمن كله صيحة واحدة تطالب صالح بالرحيل.
في ظني أن الرئيس لو باشر التعاطي مع هذه الاحتجاجات بعزل أقاربه من مناصبهم كتأكيد على جدية عدم التوريث وقام بتنفيذ المبادرات التي أعلنها هو بداية الاحتجاجات خلال فبراير الماضي وشرع في اصلاحات جادة لكان استطاع محاصرة الثورة وسحب البساط من المعارضة، وأكمل فترته بسلام؛ لكنه قتل مئات الأبرياء في صنعاء وأبين وعدن وتعز والحديدة وإب، وأبدى اصرارا على المضي في أسلوب المراوغة والنكث بل واستعان بالفاسدين لقمع المحتجين، وقام بتجييش الشعب على بعضه البعض عبر توزيع الأسلحة، وتأليبه على بعضه البعض عبر الإعلام، ولايزال. لكن التحول الأبرز في ذلك هو إعلان اللواء علي محسن ومعه عشرات الآلاف من الضباط والجنود من مختلف الوحدات تأييد مطالب الشعب وحماية المعتصمين في كافة المحافظات، بعد مجزرة ساحة التغيير بصنعاء في 18 مارس المنصرم التي ذهب ضحيتها نحو 50 متظاهرا سلميا والتي خرج صالح بعدها بساعات قليلة معلنا حالة الطوارئ وزاعما أن المواطنين قتلوا بعضهم البعض ومقدما رواية جاهزة لمجزرة طالت أشخاصا مطالبين برحيله ولما يبدأ التحقيق فيها بعد. ولم يتوقف الأمر عندها بل شهدت أبين مجزرة، غير مباشرة، راح ضحيتها قرابة 150 بينهم عشرات الأطفال، وتبعهم نحو 20 آخرين في تعز والحديدة لينضاف كل هؤلاء إلى قرابة 47 سقطوا في بداية الاحتجاجات في عدن وتعز وصنعاء وعمران.
إذن؛ وجد علي محسن نفسه واقفا في صف الاحتجاجات المطالبة برحيل رفيقه، وأعلن أنه لا يريد من وراء هذا الموقف اعتلاء الكرسي، وأنه لو أراده لأخذه في عام 1978، وأنه مع نظام برلماني مدني لا يتاح لفرد فيه الاستحواذ على كامل السلطات، ولعل من يعرف علي محسن يدرك أن الرجل جاد فيما يقوله.. والآن تقف بلاد بأسرها أمام رغبة فرد يرأس البلاد ولا يسيطر إلا على نصف العاصمة، ويرفض المغادرة.. ثم لا يتورع عن أن يشعل حربا بين المواطنين مع بعضهم، وبين بعض من قوة الحرس الجمهوري والجيش مقابل إعادة ترتيب الوضع ليتلاءم مع بقائه وأبناء أخيه، مستخدما آلة الإعلام الرسمية في تضليل المواطنين وتأليبهم على بعضهم، ومستنزفا الخزينة العامة لحشد مسيرات تؤيده..
وفي حقيقة الأمر باتت كل عناصر قوة الرئيس صالح الحقيقية تحتشد ضده ومعها ضمير الشعب، وأشواقه، بينما من يقفون معه فوقوفهم ليس حبا في بقائه بل أكثرهم خوفا من المجهول بسبب عدم اتضاح الصورة في أذهانهم لما بعد رحيله، أو كرها في منافسيه الذين يخيل لهؤلاء أنهم سيخلفونه، خصوصا بعد أن قام الإعلام المؤتمري والمعارض بتضخيمهم كرجل الأعمال حميد الأحمر وغيره، أو كرها في خطاب منافسيه وهفواتهم المتكررة في قناتي سهيل والجزيرة وشعارات الساحات التي فيها الغث والسمين، أو بدافع التعبئة التي يوفرها إعلامه، أو طمعا في مقابل زهيد يحصلون عليه، أو حياء من بعض الأعيان الذين يجبرونهم على الاحتشاد،، وكل هذه دوافع لم تعد قادرة على إبقاء الرجل في الكرسي بعد سيلان الدماء وسقوط الآلاف من الشهداء والجرحى والمصابين، وانفلات الوضع، وإقالة الحكومة وانتهاء الفترة الدستورية للبرلمان الممدد، وفرار الآلاف من الأجانب المقيمين في اليمن إلى بلدانهم، وعصيان مدني تشهده بعض المدن، وحدوث أزمات تموينية وخدماتية واستقالات فردية وجماعية من الحكومة والمؤتمر.. فهل يتذكر الرئيس صالح أنه كان فلاحا يرعى الأغنام في قرية بيت الأحمر وأصبح رئيسا لـ33 عاما أخطأ فيها وأصاب، وها هي ذي بلاده تتمزق أمام عينيه، وشعبه يتوثب للاحتراب بسببه.. هل يستجيب لصوت الضمير ويسلم السلطة إلى نائبه أو إلى مجلس انتقالي وبشكل آمن، صوناً لما تبقى من هذا اليمن التائق للهدوء؟.. إن فعلها سيكون خلّد نفسه وصان اليمن وكسب التاريج وإن أبى فهو أكبر الخاسرين.
ربنا اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات وجنّبنا كل مكروه، وتقبّل شهداءنا، واختم لنا بخيرٍ يا الله.