لم أستطع إقناع ابنتي أن علي عبدالله صالح هو المسئول عن مجزرة الجمعة 18 مارس وما تلاها من مجازر، ولم تستطع أن تبرِّر لي سبب يقينها. كنت أتألم وأنا أرى الاندهاش على وجهها، وكان واضحاً أنها تتعرَّض لصدمة نفسية قاسية. من الصعب أن تتصور طفلةٌ في الصفّ السادس أن صاحب الصور الجميلة والابتسامة الأجمل، التي نراها كل يوم في واجهات الشوارع وعلى شاشة التلفزيون، أن ذلك الرجل (بغض النظر عن صفته كرئيس) يمكن أن يكون قاتلاً، خاصة وأنها تربَّت في منزل لا علاقة له بالسياسة، فلم تتعوَّد على سماع ما يشوِّه الصورة المرسومة في مخيلتها للرئيس.
وأعتقد أن هذه الصدمة التي واجهَتْها قد تعرَّضَ لها كثير من الأطفال والكبار، فلم يكن يتصور اليمنيون أن رئيسهم على هذه الدرجة من القبح رغم الجمال الظاهر في صورته وشخصيته الجذابة. لقد استطاع هذا الرجل أن يرسم له صورة مثالية في أذهان الناس، وأظهر زهداً في السلطة لا مثيل له. أبلغونا ذات عام ونحن في مدارسنا أن علي عبدالله صالح قدَّم استقالته وأنه مصرٌّ على عدم الترشح، خرجنا من مدارسنا إلى مقر ممثلي الشعب ونحن نهتف ببقائه ولا نريد عنه بديلاً، وفي المساء جلسنا نشاهد صورنا في التلفزيون فرحين أن الرئيس قد نزل عند رغبتنا وقبل ترشحه مرة أخرى.
يحسب له أنه استطاع أن يتخلص من خصومه بطرق بعيدة عن التصفية الجسدية، وحافظ، إلى حد ما، على سجلّه نظيفاً في هذا الباب، وتوقعنا أن يحرص على إنهاء تاريخه السياسي بأسلوب مثالي، خاصة بعد بناء جامع الصالح الذي يوحي أنه يريد أن ينهي حياته مع المسبحة والمصحف في هذا المسجد الذي يعدّ أثراً معمارياً رائعاً.
وإذا كان هناك محطات تاريخية تكون فاصلة في حياة أي شخصية هامة فإن يوم الجمعة 18 مارس يعد، بحق، يوماً فاصلاً في تاريخ الرئيس، ففي هذا اليوم دمّر علي عبدالله صالح كلّ رصيده الإيجابي، وبدأ من هذا اليوم يرسم له صوره أخرى بعيدة كل البعد عن الجمال. وأصبح الحديث عن خروج مشرّف مجرّد مغالطة أو تسمية جميلة لشيء قبيح. فليس للرئيس بعد ذلك اليوم المشهود وما تلاه أيُّ شيءٍ مشرّف، حتى وإن خرج بموسيقى عسكرية مؤثرة ومراسيم وداع مهيب. أيُّ خروج مشرِّف هذا الذي لن يتم إلا بعد ضمانات بعدم الملاحقة القانونية عن الجرائم التي ارتكبها في حق الشعب. أيُّ نهاية هذه التي جعلت الحديث عن جرائم الرئيس أمراً مألوفاً وكانت إلى قبل ذلك التاريخ أمراً مستبعداً.
وإذا كان الإسراف في القتل جريمة لا تدع مجالاً للحديث عن أي قيم أخلاقية بعدها فإننا نرى التعريج إلى صفة الكذب ليس كقيمة أخلاقية بل كأسلوب في حل المشكلات، أسلوب جرّد الرئيس من مصداقيته أمام كل القوى السياسية. والكذب، في الأصل، أمر وارد في السياسة ومقبول إذا كان في حدود ما تقتضيه اللباقة الدبلوماسية، ولكن من غير المقبول أن يتحلى أيُّ رئيس بالكذب كصفة لازمة تسمح له بالتملُّص من أي اتفاق، بحيث تفقده المصداقية وتنزع مبدأ الثقة الذي يجب أن يحكم العلاقة بين الأطراف السياسية في المجتمع.
وقد كنت أعتقد أن كلّ كلام المعارضين اليمنيين حول افتقار الرئيس للمصداقية ومراوغته وتملِّصه من الاتفاقات أمر مبالغ فيه، فلم أكن أتوقع، قبل سماعي حديثه مع العربية، أن الرئيس يمكن أن يكذب إلى هذه الدرجة. قال في الحوار إن آخر جملة تجبّ ما قبلها، وفي تفسير هذه الجملة قال للمذيعة ما معناه إن ما يقوله في نهاية الخطاب أو الحوار يمكن أن ينقض ما قاله في بداية الخطاب أو الحوار. إن أيّ جملة في أيّ وقت قد تمحي كل ما قاله سابقاً، أيُّ مصداقية لرجل هذا منطِقُه.
قد يقول قائل إن الجملة تحتمل معنى آخر وهو أن السياسة ليس فيها أمر ثابت وكل المواضيع قابلة للأخذ والرد والنقاش. لكن الجملة المشار إليها قيلت في سياق أحكامه (المتناقضة حسب المذيعة) التي أطلقها على خصومه ومن ضمنهم الشباب المعتصمون المطالبون برحيله، ولم تكن في سياق الحديث عن قبول أو رفض أفكار معينة، فجاء ردُّه لفك ذلك التناقض وهو أن الجملة الأخيرة تجبّ ما قبلها. وها نحن ننتظر بشوق الجملة الأخيرة للرئيس.