يعتب عليَّ الكثير من الأصدقاء -ونحن في غمرة الجدل السياسي- من الطروحات التي أثيرها عن الوضع السياسي في البلاد، وعن مستقبل التدافع الخطير للأحداث، ولا أجد مضاضة من ذلك، ما دمت أتكئ على عبر ودروس الماضي، وبخاصة تلك التي شهدتها هذه البلاد، وما تتفرد به من عوامل مختلفة؛ اجتماعية، ودينية، واقتصادية، وثقافية، وهي عوامل لها مقومات الاستمرارية والتواصل في الجسد الاجتماعي اليمني، بما يمكِّن من التكهن بما تخبئه هذه التطورات من أحداث قد تعصف بكل ما هو جميل، وتتسبب بحدوث أسوأ ما يخشى منه.
وهنا، لا يمكن -بأي حال من الأحوال- القول أن الثورة الحاصلة في كل مدن البلاد ثورة شبابية صرفة، أو أنها ثورة شيوخ فحسب، وفق ما تعنيه المفردة الأخيرة في ثقافة اليمنيين، فضلا عن دلالتها الدينية التي حضرت بقوة في تجليات المشهد الثوري الذي يملأ الساحات، ولكن يمكن أن أصفها بأنها ثورة شبابية مُشيَّخة، وفوق هاتين الحلقتين يهيمن الحزب والقبيلة على وجوه مستقلة، وبين هذا وذاك -أيضا- يراوح المثقفون المستقلون بين الرضا والامتعاض، وبين الترقب والتوثب، وهم في لجة هذا الغليان الثوري، والتوجس من تداعياته التي يرونها بعين الغيب المجرَّب، أما الذين ليس من مبادئهم أنصاف الحلول وأرباعها فقد غادروا الساحات وانزووا بعيدا يرقبون المشهد المغتصَب، وقد استبد بهم ذلك النزوع وحال دون أن يُبدوا عين الرضى ولو كان بما يشبه التشفي من التداعي المتسارع للنظام القائم الذي يكنون له العداء ويؤملون زواله على عجل.
لكن ماهي دواعي القول بوحشة العهد الذي يطل براياته المتعددة؟ إن هذا الائتلاف المصطنع بين كل قوى الساحة الثائرة والمثارة يضمر اختلافا عميقا وملموسا لدى الجميع، وهو ائتلاف يقوم في حقيقته على مبدأ" إنّا لنَبُشُّ في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم" وقد سمعت ذلك مرارا على مدار عشرين عاما من بعض أفراد أحد التنظيمات التي تسعِّر بقواها المختلفة أتون الصراع القائم، ولعل هذا التوافق- من وجهة نظر المؤتلفين- أهم وسيلة في أسنح فرصة للتخلص من الخصم الذي يمسك بزمام السلطة بعد أن نبذهم منها ذات يوم، بل والذي أفشلهم في نظر المجتمع مع كل سانحة يسوقها القدر، وقد جاءت الفرصة الآن لرد بعض الصفعات، مع تجلي الرغبة لدى النظام بانتهاج سياسة رعناء لا يستوعبها الزمان ولا المكان، من خلال التسويق الجريء لفكرتي التمديد والتوريث، والتي بدت على نحو فكاهي ومستفز، في مقولة هي من أشهر التقليعات التي ابتدعها رجال السلطة، وهي "قلع العداد" التي شرقت وغربت في اليمن، وارتدت بقوة لتهدد بقلع الكرسي الرئاسي ذاته.
إن الملامح التي تحدد مستقبل ما بعد ثورة الثالث من فبراير تتجلى مؤشراتها من لحظة احتلال تلك القوى للساحات، بل إن اعتبار يوم الثالث من فبراير تاريخا للثورة آخذ في الزوال والطمس، بعد مزاحمة تواريخ لاحقة لها دلالاتها وغاياتها، ذلك أن الشباب كانوا الأسبق في التوقيت إلى الميدان، ولو بدى ذلك السبق خافتا، ثم وجد المنضمون إليهم من كل مشرب أن مسألة التوقيت ومن الأسبق إلى الساحة في جوهرها ليست ذات أهمية، بل أن جوهر الهدف يسمو على ظاهر الحدث وتوقيته.
وبالعودة إلى أهم الملامح التي تحدد مستقبل ما بعد الثورة، تسعفنا ذاكرة التاريخ السياسي اليمني بمؤشرات لها من الواقعية ما تحتبس لها الأنفاس، وتشتد معها العمليات الحسابية، باختلاف أنواعها، وكأن التاريخ يطل مرة أخرى، بنفس الرؤى والوقائع والأشخاص والتنظيمات، وقريب جدا من المزامنة التي احتضنت تلك الأحداث إذا قيس ذلك ببقاء أثر الحدث وبقاء بعض شخوصه أو بقاء امتدادات كل منهما، لتبدو هذه الأحداث كما لو أنها تكرار لأحداث حركة الخامس من نوفمبر عام 1967م، وما تخلل عهدها الغامض والمضطرب والمتناقض من انتكاسات وتحلل لقيم ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م، وهو عهد له ما له، وعليه ما عليه، وحلقة هامة من تاريخ الثورة اليمنية، انتهت أغلب ملامحها ببزوغ وتجذر مبادئ حركة الثالث عشر من يونيو عام 1974م.
والآن، لنرى من هم الذين يملؤون الساحة حراكا وصخبا، هنا وهناك؟ ومن هم خصومهم في السلطة؟ وماهي منابت الأزمة التي أشعلت فتيل هذا الصراع؟ وأيّ واقع سنجد أنفسنا فيه؟ وأخيرا؛ لا ننسى الأطراف الخارجية الضالعة في تهديم البيت القديم، وكذا التي تهيئ البيت الجديد على طريقة: "ما نشاء لا ما يشاؤون"، ولماذا؟ ومتى؟ لتبدو صنعاء كبيروت مسلوبة القرار حتى يرضى عنها أخ أكبر اغتصب كل الثروة وتحكم بالمصير، في ارتهان متكرر لا نقوى معه القول: ارفعوا أيديكم عنا، وقد سمعنا مثل ذلك يردَّد قبل أقل من شهرين في ميدان التحرير في القاهرة والثورة في مراحل مخاضها الأخير.
عندما تصادمت الأفكار الثورية بين رجال ثورة سبتمبر وثورة أكتوبر كل على حده، أراد كل تيار أن يؤثر نفسه على الآخر، وقد كان الإخوان المسلمون في الشمال أسبق إلى كسب القبيلة من القوميين والأمميين، كل بحسب ثقافته وبيئته التي ترعرع فيها، إلا من قليل في طرفي المعادلة، وقد كانت تحركات وخطابات وكتابات أبي الاحرار محمد محمود الزبيري مؤشرا على ذلك، وهو ما توجس منه القوميون الذين كانوا يستأثرون إلى حد ما بالمفاصل الهامة للدولة، فكان أن تواروا(الإخوان) مع رحيل الزبيري إلى بارئه، ليطلوا مرة أخرى في بثوب القبيلة والدين معا، في اتحاد عفوي مع الأطراف القومية في أشد مراحل الخطر الذي تعرضت له الثورة في صنعاء إبان حصار السبعين يوما، بين أوائل ديسمبر عام 1967م إلى أواسط فبراير عام 1968م، في مرحلة كان النظام الجمهوري على مرمى حجر من حفرة حتوفه.
وقد تسنى للقوى التقليدية آنذاك الظفر بكرسي الرئاسة وتوابعه الهامة، بعد أن أُقصي صناع ذلك التحول، لتدخل البلاد مرحلة أقرب ما تكون إلى مفهوم اللا دولة، وأظنني هنا قد أغضب امتدادات القلة القليلة التي عاثت آنذاك فسادا، مع عدم الإنكار بما تحقق في بعض المجالات، ولو بدى ذلك قليل بالمقارنة مع حجم الطموحات التي كانت تراود اليمنيين في ذلك العهد، وما اعتقدوا أنه بالإمكان تحقيقها فيه، وكذا مقارنة بالمدة غير القصيرة التي قضتها تلك القوى في إدارة الدولة في تلك الحقبة؟ رغم وجود رموز كثيرة من رجال العمل الثوري من ذوي الاتجاه القومي في جهازي الدولة المدني والعسكري، لكنهم كانوا في أغلبهم أشد نزوعا إلى القبيلة منهم إلى روح الثورة وجوهرها التغييري، بغية تحقيق التوازن إن لم يكن التفوق مع ظهور بوادر الخلاف بين تلك القوى التقليدية التي تستأثر بالبلاد.
واليوم، ونحن بين عهدين؛ عهد يوشك أن يتداعى، وعهد يطل على قلق متعدد النواحي، أتساءل: أليست الملامح هي هي؟ أليست القوى والوقائع هي هي؟ مع اختلاف في قليل؟ مؤكد أنْ ليس على النظام الجمهوري من قلق، لكن الوحدة التسعينية في أحرج حالة من الانكسار، والوطن برمته في أسوأ وضع من التشظي، وبؤرة الأزمة الرئيسة هي النظام السياسي، الذي أسس لكل ذلك بفكرة التوريث، وبما تخلل ذلك العهد من تصرفات تشي بسيادة نظام المُلك، الذي استأثر ثروات البر والبحر وما تحتهما وما فوقهما، فاستبدل معارضو اليوم قوة السلاح بقوة الشارع، ولملموا أشتاتهم كذُرة مجذوب، وبدا في هذه الأزمة الرئيس المشير على عبدالله صالح في مقابل الرئيس المشير عبدالله السلال آنذاك، وتمثل الوجه العسكري للأزمة باللواء على محسن صالح ومن إليه من القادة العسكريين في مقابل الفريق حسن العمري ومن إليه ممن سبقوه إلى إحداث التغيير في تلك الفترة، وظهر أبناء الشيخ عبدالله الأحمر ومن إليهم كامتداد لأبيهم، وانصهرت تيارات العمل السياسي المتناقضة كانصهارها يومذاك، وتبدت في الحالتين كما لو أنها المنقذ الأوحد، وهي اليوم ترى أنها دون سواها من بعثه الله لإنقاذ بلد تجتاحه أخطار التوريث، والانفصال، والتمزق، والقاعدة، والقبيلة والهواجس الدينية المُفرِزة لأكثر من حرب.. وما أشبه الليلة بالبارحة!!
فما المستقبل الذي يُخبَّأ لنا وقد تراءى لنا ثلاثة أرباع المشهد إن لم يكن كله؟ وما هو موقع الشباب المستقل مما يجري؟ وما هو موقفه أيضا؟ بصرف النظر عن زيف القول بعالمهم المنفرد، لأنهم جزء من هذا الواقع؟ بل أن أغلبهم تجرجره الحزبية من مناخره، وما التغني بثورتهم غير المتحزبة إلا كقول ابن معمر:
وكلٌ يدَّعِي وصْلاً بِليْلَى ولَيْلَى لا تُقرُّ لَهُم بِذَاكا
إلا أن الأمل يظل قائما في تحقيق الآتي الأجمل لا المُجمَّل، ولعلها سنة الكون، صراع الخلف والسلف، وليحذر الحاكمون الجُدد أن القادم سيكون موضع مقارنة بالماضي، وأن الثورة مستمرة، ولن تعدم الأجيال وسيلة التغيير، وبيننا وبينهم الساحات.