آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

الشيخ الغزالي والتغيير

بداية لا بد من التأكيد على حق الشعوب العربية المقهورة والمظلومة في نيل حقوقها والدفاع عن مطالبها في الحرية والكرامة ومن حقها بل ومن واجبها رفض ومجابهة كل مظاهر الظلم والفساد وان تقول للظالم يا ظالم كما وجهها الرسول العظيم محمد عليه الصلاة والسلام وإلا فقد تودع منها..

وشعوبنا العربية والإسلامية في الحقيقة عانت وتعاني من الظلم والفساد وغبن الحقوق والتحكم بمصائرها ومقدراتها والعبث بثرواتها وكنوزها الظاهرة والباطنة من قبل أنظمة وحكومات لا ترقب في مؤمن إلا ولا ذمة, والسكوت على ذلك من اكبر الآثام لذا لزاما ومن الواجب على الجميع الوقوف في وجهها وتصحيح الاعوجاج, وإعادتها إلى جادة الصواب فان هي فعلت فخيرا تفعل , وكفى الله المؤمنين شر المواجهات غير المحمودة العواقب وخرج الناس إلى بر الأمان ظافرين بخيري الدنيا وفلاح الآخرة تحت قاعدة " لا ضرر ولا ضرار " وإلا فإن الوسائل الأخرى لا تنعدم على أن لا يكون بينها ما يخالف تعاليم وقيم الدين الحنيف بمعنى لا يمكن إزالة مفسدة بمفسدة اشد منها ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة كقاعدة فقهية مجمع عليها , وبمعنى أوضح كل سبيل ممكن في مواجهة الأنظمة الفاسدة إلا سبيل انتهاك الحرمات والاستهانة بدماء وأعراض وأموال المسلمين لأنها ليست بالهينة ولها حرمة اشد من حرمة " الكعبة " قبلتنا ومقدسنا الذي نتوجه إليه في اليوم والليلة خمس مرات فمع تضييعها خسارة الدنيا والآخرة كلتاهما وفوق ذلك غضب من الله ورسوله ولا نحب لأحدنا أن يورد نفسه المهالك , ومحذور الانزلاق إلى ما لا يرضي الله ويتعد حدوده.

تعالوا نستمع لنبينا عليه الصلاة والسلام ماذا يقول ويوجه في هذا الخصوص والذي يعرف العرب معرفة جيدة ? ويعرف أغوار الفرقة والخصام في أفئدتهم ? ويريد إشعارهم بالنعمة التي أفاءها الله عليهم ? ولذلك يقول لهم في "خطبة الوداع”: ` ويحكم أو ويلكم!! انظروا لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض `!!. ويقول أيها الناس أتدرون في أي شهر أنتم ? وفى أي يوم أنتم ? وفى أي بلد أنتم ? قالوا: في يوم حرام ? وشهر حرام ? وبلد حرام! قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ? وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم.. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم قال: اللهم اشهد!

ويقول عليه الصلاة والسلام أيضا في هذه الخطبة الجامعة ` أيها الناس ? إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ? ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرونه من أعمالكم ? فاحذروه على دينكم ? وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا ?? أمرا بينا : كتاب الله وسنة نبيه ? وإنكم ستسألون عنى! فما انتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت! فجعل يشير بإصبعه السبابة إلى السماء ٬ ثم إلى الناس وهو يقول: اللهم اشهد اللهم اشهد.

واليوم تشهد كثير من بلاد العرب والمسلمين أحداثا وصدامات بعد ما انطلقت فيها دعوات تنشد الإصلاح والتغيير عبر ظواهر ما تلبث أن تتطور – بفعل فاعل – إلى صدامات تتحول بعدها إلى شرور وآثام وجرائم – بغض النظر عمن قام بها أو تسبب فيها – ( لكنهم جميعا يدعون انتماء للإسلام العظيم ).. يحدث ذلك من خلال الاستهانة واللامبالاة بحرمة الدماء والأعراض والممتلكات العامة والخاصة , وتشجيع الفوضى وتعريض المصالح العامة والخاصة للتدمير , ومع ما يترتب عليها من فقدان الأمن والسلم الاجتماعي وبث روح الكراهية والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد وقبلها العقيدة الواحدة , وكأنها الطريق الوحيد إلى التغيير المنشود و إلى حد تقديم النفس "مشاريع إستشهاد " كما يحلو للبعض أن يفتي في سبيل الوصول إلى كراسي السلطة تحت ذرائع التغيير , وعندها ستتحقق الأحلام الوردية لطالبي التغيير عبر هذا الطريق ونتائجه الكارثية وها هي الشواهد ماثلة للعيان في أكثر من بلد ! ومنها بلادنا الحبيبة اليمن الميمون "ارض الحكمة والإيمان".. وأقول أي إيمان هذا الذي يستحل فيه الإنسان المسلم دم وعرض ومال أخيه المسلم, كما يثور تساؤل مهم للغاية أهكذا تطبق تعاليم الإسلام؟ وهل هذا من مقتضيات الإيمان؟ وهل هكذا تحترم وتنفذ توجيهات النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم؟

من يتحمل وزر تلك الأرواح التي أزهقت والدماء التي سفكت على ارض تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا وغيرها؟ لن يفلت الفاعلون أو المتسببون من عقاب وخزي الدنيا , ومن عذاب الله الأليم في الآخرة " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه الله واعد له عذابا أليما " النساء 93 , والكارثة الأكبر قبل أن يكون ذلك فعلا مشينا ومدانا من كل الشرائع فانه في ديننا اجتراء على الله بمخالفته واستكبار على الله واستهزاء بتعاليمه وأوامره , وكأنها حرب معلنة على الله أو تحد له , وهنا الطامة الكبرى أفأمن هؤلاء عقاب الله ووعيده – نعوذ بالله – اللهم إنا نبرأ إليك مما فعل هؤلاء واقترفوه ..فلا تجعلنا مع القوم الظالمين.

على أن الذي طغى على السطح فيما تشهده البلدان العربية في إطار هذه الثورات التغييرية بروز دور الحركات الإسلامية وبقوة في هذه الأحداث , وخاصة " الإخوان المسلمين " الذين نجلهم ونقدرهم جميعا لسبب أنهم يحملون راية الدعوة وعنوان التوجه العام للأمة الإسلامية وحلمها المشروع في السعي نحو تطبيق قواعد الإسلام الذي نسلم جميعا بأنه الدين الذي ارتضاه لنا الخالق سبحانه وتع إلى " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " صدق الله العظيم , وحتى لا يقال أني إما أن أريد المجاملة إزاءهم أو نقد أسلوب تعاملهم مع الأحداث في طول الساحة العربية والإسلامية فقد حاولت وأنا أتابع هذا الدور لإيماني الشديد بان التوجه نحو تطبيق تعاليم الدين والتمسك بأهدابه هو السبيل الوحيد ليس نحن من اختاره , ولكنه السبيل الذي اختاره الله سبحانه لعباده ويكفي قوله عز وجل " ياأيها الذين امنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " صدق الله العظيم ..

أقول وأنا أحاول رسم صورة هذا الدور وتتبع منطلقات الحركة الإسلامية, وقع في يدي بعض كتب العلامة الكبير الشيخ المرحوم محمد الغزالي جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء لما قدمه من خدمات للإسلام والمسلمين وما تركه من علم نافع وثري من رجل علم ودين وتجربة أتمنى من كل من يريد الانتفاع في دنياه وآخرته الاطلاع على تراث هذا العملاق الكبير.. وقد اغترفت من بحر علمه ما رأيت انه يتناسب وما تشهده بلداننا من أحداث وتطلعات لعلنا نفيد ونستفيد وهي للمنتمين للحركات الإسلامية أفيد .. (واعذروني للإطالة لكنها من درر هذا العالم الجليل) الذي أرجو الله تع إلى أن يشركني في المثوبة معه .. يارب .. ولأنها مقتطفات أوردها هنا من غير ترتيب يقول رحمه الله:

" ....... مصير هذه الشعوب في يد بضعة أفراد مغامرين يعلنون الحرب وقتما يشاءون ويسوقون بلادهم إلى الخراب كلما خطر ببالهم أن يحصلوا على مجد مزيف ? أو أن يبدوا للعالم في صورة الغزاة الفاتحين. ولو كانت في هذه البلاد برلمانات حقيقية منتخبة انتخابا حرا ومناقشات ديموقراطية يتبادل فيها المختلفون الرأي بدل تبادل إطلاق الرصاص ? ولو كانت المنابر فيها قامت مقام المشانق ? لما سمحت الشعوب بمثل هذه المغامرات المجنونة التي تدفع الشعوب ثمنها من قوتها وحريتها وحياتها في غياب الحرية والديموقراطية والرأي الآخر ?

إننا في هذه المنطقة يجب أن نتعلم كيف نختلف ؟ فنحترم من يخالفنا أو يعارضنا كما نحترم أنفسنا ? لا أن نبادر بإلقاء تهم الخيانة على كل من لا يتفق معنا في رأى أو يختلف معنا في طريق , الإسلام يمنحنا حرية الرأي ? ولكنه لا يسمح لفريق منا أن يفرض إرادته على فريق ? يفرض زعامته على أمة على الرغم منها ? أو يحول المسلمين إلى أغنام يسوقهم أمامه ? وكأنه الراعي الوحيد ? شرط الإسلام الأكبر أن يكون المسلمون أحرارا ولا مكان فيهم للطغاة ولا للعبيد ? فلا تزجوا بالإسلام في خلافاتكم .. وحاولوا أن ترتفعوا إليه ? بدل أن تنزلوه إليكم!

****

"إن التغيير الحاسم لا يتم ارتجالا ? ولا يتم بين عشية وضحاها ? ويجب أن يتجرد له رجال لا يخافون في الله لومة لائم ? ولا تخلع قلوبهم رهبة أو رغبة ? يمشون في الطريق الطويل الذي سار فيه الأنبياء ? ولا يفكرون في انقلابات عسكرية أو ثورات مسلحة ? إنما يفكرون في الإصلاح المتأني ? والتغيير الذي جزم القرآن الكريم بنتائجه قال “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. وهناك من يطلب السلطة لتكون بين يديه أداة التغيير المنشود!. وأكره أن أتهم نية هؤلاء أو نهجهم ? فقد عشت معهم ومازلت بينهم ? ووجهة هؤلاء الرجال أن الحكم في أرض الإسلام منحرف من زمان بعيد ? وهم يتساءلون: ما الشرعية التي يعتمد عليها هذا الحكم؟ الحكومات المدنية تستند في مشروعية بقائها على أنها تمثل الشعب ? والحكومات الدينية تستند إلى أنها تطبق الدين!. فماذا لم يكن ثم تمثيل للشعب ولا تحكيم للدين فأين مشروعية البقاء ؟ والنزاع الدموي الطويل الذي شجر بين الفريقين يرجع إلى التنافر الحقيقي بين الأمر الواقع وطلاب التغيير!.

وأنا أدعو هنا إلى سياسة جديدة في خدمة الإسلام ? وبناء أمته التي تتواثب حولها شياطين الإنس..."

****

"إن الذين يسعون إلى السلطة لتحقيق رسالة رفيعة لابد أن يكونوا من الصديقين والشهداء والصالحين أو من الحكماء المتجردين والفلاسفة المحلقين! وأين هؤلاء وأولئك؟ إنهم لم ينعدموا ? ولكنهم في الشرق الإسلامي عملة نادرة. ومع ذلك ? فان أي حكم رفيع القدر لن يبلغ غايته إلا إذا ظاهره شعب نفيس المعدن عالي الهمة.! إذن الشعوب هي الأصل ? أو هي المرجع الأخير! وعلى بغاة الخير أن يختلطوا بالجماهير لا ليذوبوا فيها وإنما ليرفعوا مستواها ويفكوا قيودها النفسية والفكرية ? قيودها الموروثة أو التي أقبلت مع الاستعمار الحديث... وجاء الاعتراض السريع: إن السلطات القائمة لن تأذن لهم بذلك فهذه السلطات إن لم تؤجل على منافعها وجلت من القوى الكبرى التي تملك زمام الأمور في العالم الكبير ? ومن ثم فسوف تخرس الدعاة وأولى النهى... ولم تخدعنى هذه الحجة على وجاهتها الظاهرة ? ولم أرها ذريعة للاشتباك مع الحاكمين ? وأخذ الزمام من أيديهم بالقوة ? فقد راقبت كثيراً من مراحل الصراع على السلطة درست ناسا نجحوا في الوصول إلى المناصب الكبرى فلم أرهم صنعوا شيئا ? بل لعلهم زادوا الطين بلة..!

إنني أناشد أولى الغيرة على الإسلام وأولى العزم من الدعاة أن يعيدوا النظر في أساليب عرض الإسلام والدفاع عنه ? وأن يبذلوا وسعهم في تغيير الشعوب والأفكار ? سائرين في الطريق نفسه الذي سار فيه المرسلون من قبل... والإسلام اليوم يعانى من أمرين: الأول تصوُّر مشوَّش يخلط بين الأصول والفروع ? وبين التعاليم المعصومة والتطبيقات التي تحتمل الخطأ والصواب وقد يتبنى أحكاما وهمية ويدافع عنها دفاعه عن الوحي ذاته!!. الثاني جماعات متربصة تقف بعيدا دون عمل ? تنتظر بأعداء الله الويل والثبور وعظائم الأمور ? وهى في ميدان الدعوة الإسلامية بطالة مقنعة لأن المسلم سواء ملك سلطة رسمية أم لم يملك ? إنسان ناشط دءوب لا ينقطع له عمل في الشارع أو البيت أو المسجد أو الحقل أو المصنع أو الدكان أو المكتب... وليس العمل المطلوب مضغ كلمات فارغة ? أو مجادلات فقهية أو خصومات تاريخية ? إن العمل المطلوب أسمى من ذلك وأجدى!

إننا نحن المسلمين انهزمنا في ميادين كبيرة لا تحتاج إلى عصا السلطة ? والمجتمع الذي يعجز عن محو تقاليد سيئة في دنيا الأسرة لن يحقق نصرا في دنيا السياسة وكيف ينفذ قوانين الشريعة من لم ينفذ قوانين الأخلاق؟".

****

"ولكني أسأل: لماذا لا تتعلمون الدين وتحسنون فقهه والعمل به، ثم تحسنون الدعوة إليه ؟ عندما يراكم العالم أدنى مستوى منه فلن يسمع منكم ولن يرتضيكم قادة له ، لا يجوز أن يكون الإمام أجهل من المأموم..!

ما وظيفة السيف في أيديكم وأنتم متظالمون؟ جائرون عن سبيل الرشاد؟. "

****

"واليوم توجد طفولة إسلامية تريد الإنفراد بزمام الأمة، وعندما يسمع أولوا الألباب حديثها يطرقون محزونين!!. والمخيف أنها طفولة عقلية تجمع في غمارها أرباب لحي ، وأصحاب هامات وقامات!! يقعون على أحاديث لا يفهمونها ثم يقدمون صورة الإسلام تثير الانقباض والخوف..! "

****

"المهم أن المنتمين إلى الله يحسنون أولا الدعوة ويوفرون فرص السلام والمصالحة، ويقدرون أخطاء الطباع البشرية ...."

****

"يؤسفنا أن الشورى أينعت ثمارها في أقطار واسعة وراء دار الإسلام. ونحن نطلب الشورى، ونريد اعتبار الوسائل المؤدية لها فروضا عينية على أساس من القاعدة الفقهية «ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب».

ويتقاضانا ذلك وضع تفاسير صحيحة لأحاديث الأمر والنهي وتغيير المنكر ومقاومة مرتكبي الكفر البواح، وتوضيح الفروق الدقيقة بين المعارضة المشروعة والثورة التي تنقض بنيان المجتمع، أو بين النقد الواجب، والخروج المسلح...

من خصائص «الديمقراطية» الحديثة أنها اعتبرت المعارضة جزءا من النظام العام للدولة! وأن للمعارضة زعيما يعترف به ويتفاهم معه دون حرج! ذلك أن مالك السلطة بشر له من يؤيده وله من ينقده، وليس أحدهما أحق بالاحترام من الآخر...

والواقع أن هذه النظرة تقترب كثيرا من تعاليم الخلافة الراشدة، إن علي بن أبي طالب لم يستبح من عارضوه، أو يحشد الجموع لضربهم، بل قال لهم: ابقوا على رأيكم ما شئتم على شرط ألا تحدثوا فوضى ولا تسفكوا دما ، أي أن الرجل العظيم يريد معارضة بناءة لا هدامة، ولا يرى أن الاعتراض على شخصه منكر!.

وعبارة علي رضي الله عنه للخوارج هي «كونوا حيث شئتم، وبيننا وبينكم ألا تسفكوا دما حراما، ولا تقطعوا سبيلا، ولا تظلموا أحدا! فإن فعلتم نفذت إليكم بالحرب!».

قال عبد الله بن شداد: فوالله ما قتلهم حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدم الحرام.

قال الصنعاني: فدل ذلك على أن مجرد الخلاف على الإمام لا يوجب قتال من خالفه، وبهذا التفكير الصائب فسر الحديث الشريف«من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة. ومات فميتته ميتة جاهلية» أي كأهل الجاهلية إمام له.

ذلك كله ما لم يجنح إلى الثورة المسلحة، فإن جنح إليها فله حكم آخر، وعن عبد الله بن عمر قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : «من حمل علينا السلاح فليس منا»..

......... إن للغايات الجليلة وسائل نبيلة تعين على إدراكها، ومن غير هذه الوسائل يصعب أن تقوم شورى صحيحة كما يصعب أن يقوم جهاد نزيه ناجح!

****

لقد وصل الغرب إلى ما وصل إليه من حرية على جسر من الدماء والأشلاء ? أما العرب فإن الإسلام منحهم هذا الطراز من الحكم هدية من السماء ? وليتهم قدروا ما نالوا وصانوه! على أية حال إن طريقة الإسلام في إدارة دفة الحكم هي التي جعلت الشعوب تفتح ذراعيها له ? لأن الحكم كان عبادة لله ? ولم يكن شهوة منهوم إلى العظمة ? أو مفتون بالسلطان.. وإدراك أن الحكم مسئولية مؤرقة هي التي جعلت الخليفة في المدينة المنورة يعد نفسه مسئولا عن أطراف الدولة البعيدة حتى قال عمر: لو عثرت بغلة في العراق لحسبت عمر مسئولا عنها لِمَ لَمْ يسوِّ لها الطريق... ثم جاء من رأى الحكم غنيمة تكثر فيها الأرزاق ? كما حكوا عن هارون الرشيد ? أنه رأى غيمة مارة فقال لها: أمطري حيث شئت فسيأتينى خراجك! ثم جاء عبيد يرفلون في النسيج الغالي ويتطلعون إلى ما هو أنعم كما قال أبو الطيب في أحدهم :

يستخشن الخز حين يلبسه وكان يبرى بظفره القلمُ!! والويل لأمة يكون الحكم فيها شهوة مريض بجنون العظمة ? أو شهوة مسعور باقتناء المال..!

وفى ديننا نصوص كثيرة ترفض الرياسة ? والحرص على الإمارة ? وتوصى بحرمان عشاق المناصب من المناصب التي يعشقون. وفيه ترهيب من استغلال النفوذ ? وجعل الحكم مصيدة للثراء سواء كان ذلك للمرء أم لأقاربه.. وفيه تخويف من الظلم ? والاستهانة بآلام العامة ? وإيصاد الأبواب دون مطالبهم. وحسبك أن من ولى أمر عشرة من الناس جىء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه ? فَكَّهُ عدلُه ? أو أوْبَقَهُ جَورُهُ. ومع هذه الآثار الحاسمة فإن التقاتل على الإمارة كان سمة ملحوظة في تاريخنا. ولم يكن ذلك بداهة تنافسا في مرضاة الله وخدمة عباده ? بل كان تنافسا على حطام الدنيا ومتاعها المدبر!!.......... إن الاستبداد السياسي فيما رأينا من قريب ومن بعيد ليس عصيانا جزئيا لتعاليم الإسلام ? وليس إماتة لشرائع فرعية فيه ? بل هو إفلات من ربقته ودمار على عقيدته..!".

****

حدود السمع والطاعة بين الحاكم والمحكومين

"من أمارات الإحكام في شئون الجماعة والدولة ? أن تنتقل الأوامر من الرؤساء إلى الأطراف ? كما ينتقل التيار من المولد الكبير إلى الأسلاك الممتدة ? فلا يقطع نوره خلل ولا يرد قوته قطع أو خبل. إن الجسم المعافى تستجيب أعضاؤه “للإرادة” التي تنقلها الأعصاب من الدماغ المفكر فيتحرك أو يسكن وفقها. ولن تعجز الإرادة عن بلوغ أهدافها إلا إذا اعتل الجسم ? وأصيبت أجهزته بالعجز والشلل. والمجتمع الصحيح كالجسم الصحيح يشد كيانه جهاز دقيق ويضبط أموره نظام محكم ? وتتعاون ملكاته العليا وقواه المنفذة تعاونا وثيقا يسير به في أداء رسالته كما تسير الساعة في حساب الزمن. وقد وضع رسول الله “صلى الله عليه وسلم” قاعدة هذا النظام المتجاوب وجعل القيام عليه من معالم التقوى ? فإنه لن يستقر حكم ولن تصان دولة إلا إذا سادتها الطاعة والنظام. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: `من أطاعني فقد أطاع الله ? ومن عصاني فقد عصى الله ? ومن أطاع أميري فقط أطاعني ? ومن عصى أميري فقد عصاني`.

وقال الله عز وجل: `أطيعوا الله ` أي: اتبعوا كتابه. ` وأطيعوا الرسول ` أي: خذوا بسنته. `وأولي الأمر منكم` أي: فيما كلفوكم به من أمور تخدم الكتاب والسنة."

****
"وهيهات ? فقد تغلغل هذا الضلال في نفوس الناشئة حتى سأل بعضهم: هل يظن المسلم نفسه مسلما بعدما خرج من صفوف الجماعة؟ ولنفرض أن رئيس الجماعة هو أمير المؤمنين وأن له حقوق الخليفة الأعظم “!” فهل هذا يؤتيه على أتباعه حق الطاعة العمياء؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤت هذا الحق! ففي بيعة النساء يقول الله له: `..ولا يعصينك في معروف`!. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ` قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : `السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية ? فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة`. وروى مسلم عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة والناس مجتمعون عليه ? فأتيتهم فجلست إليه فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ? ومنا من ينتضل ? ومنا من هو في شجرة ? إذ نادى رسول الله: `الصلاة جامعة` فاجتمعنا إلى رسول الله فقال: `إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ? وينذرهم شر ما يعلمه لهم ? وإن هذه الأمة جعلت عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها ? وتجئ الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتى ? ثم تنكشف ? وتجئ الفتنة فيقول المؤمن: هذه ? هذه!... "

****

"والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ? وألا ننازع الأمر أهله أي نطلب الحكم من ولاته إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان. وإنني لأمقت أن أكون داعية لحاكم ما ? وأستعيذ بالله من أن أعين بكلمة على بقاء والٍ جائر. غاية ما أبغى أن أشرح قانون السمع والطاعة وأن أمنع الكهان والدجالين من الاحتيال به على ناشئة قليلة الفقه في الإسلام. إن تغيير حاكم شئ والانصراف عن واعظ غير موفق شئ آخر. لقد كان الراسخون في العلم يدعون إلى الله ويتجردون للدعوة ? فكان الناس يرون طاعتهم من طاعة الله لأنهم تلقوا دروس معرفته عنهم. ثم جاء الراسخون في الجهل يطلبون حقوق القيادة ? ويتحدثون عن قانون السمع والطاعة ? ولست أعنف دعيا من هؤلاء على مزاعمه ومطالبه. فالأمر كما قيل: `بعض الناس طغاة لأننا نركع لهم`.

القول بعصمة الأئمة غير معروف بين جمهور المسلمين من أهل السنة. فمذهبهم أن القائد أو الحاكم يجئ من أي طبقة ? وأنه في موضعه العالي من تصريف الأمور يجوز عليه أن يخطئ وأن يصيب. وأن نصحه إذا أخطأ كمؤازرته إذا أصاب واجب على الأمة. بل إن أهل السنة يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ? على جلالته قد يخطئ فيما لم ينزل به وحى... ولكن الإرشاد الأعلى يستدرك عليه ويوجه اجتهاده إلى الصواب الذي فاته.".

****

"إن الترتيب المستفاد من تعاليم الإسلام أن تكوين الدولة يتم بعد تكوين الفرد ? وأن وضع النظام يجىء بعد إنضاج الإيمان ? وقد تنزلت آيات الأحكام بعد مهاد عريض من اليقين والإخلاص وإرادة الآخرة.. إن التطلع إلى الحكم كما يكون لإعلاء كلمة الله قد يكون لرغبات خاصة كامنة أو مكشوفة..! والحكم الإسلامي قبل أن يكون لمعان أسماء أو تسنم مجد ? هو تفانٍ في الله ورغبة فيما عنده.. وإلا فالأمر كما قال الله : `من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون`. وقد كنت أعظ نفسي وإخواني بهذه الحقائق من ديننا ? وأقول: إنه قبل أن يكون المرء صاحب منصب رسمي يستطيع أن يؤدى للإسلام أجل الخدمات في الميدان الثقافي والاجتماعي.. والذين يسوفون في البلوغ بأمتهم سن الرشد حتى يتسلموا أزمة الحكم لن يفعلوا شيئا طائلا حين يحكمون. وقلت لنفسي وإخواني : إن الحكام في الشرق العربي والإسلامي يعدون المناصب حياتهم.. فالرئيس أوالوزير في أوروبا مثلا قد يترك وظيفته ويسير آمنا في أية مدينة أو قرية.. أما في شرقنا العليل فإن عددا من الزعماء إذا ترك الحكم تابعته ترات قد تودى به ? وتخترم أجله ? ومن ثم فإن حرصه على الحكم لون من دفاعه عن حياته.. ورؤساء كثيرون يشعرون بالخطر على أشخاصهم إذا أحسوا أن الدعاة المسلمين ينشدون الحكم أول ما ينشدون.. ومن أجل ذلك فهم يشمون رائحة الموت من وراء المطالبة بالحكم الإسلامي. ونحن المسلمين لسنا قتلة ? ولا تحركنا عداوات خاصة ? ولا نطلب الحكم لنحيا ويفنى غيرنا..

****

إني أطلب من المسلمين أن يطرحوا الأسمال العقلية والاجتماعية التي أزرت بهم وحطت مكانتهم ? وأن ينصفوا الإسلام من أنفسهم حتى يستطيع هذا الدين الانطلاق في الأرض ? وإسعاد البشرية ? وتحقيق الرحمة العامة للعالمين... أما الاستمرار بحكم فردى يخنق الحرية ? ويستبيح الحرمات. أو إيجاد قوانين تملك المال ولا تملك العدالة والرحمة. أو الاستمرار ببطالة عقلية تهمل العمل والفكر وتحقر نتائجها ? وتؤخر العباقرة وتقدم التافهين.. أو استمرارنا بعوائل همها في الحياة المتعة لا التربية ? والفوضى الاجتماعية لا الأخلاق الدقيقة والتقاليد الزكية. أو استمرار القصور العلمي في المادة وما وراء المادة.. أي في شئون الدين والدنيا جميعا. أو الاستمرار بدعاة يتساءلون عن الصلاة مع دم البعوض في قمصانهم.. ولا يتساءلون عن مستقبل أمة أرخص دمها ? حتى أصبح سفكه لا يثير جزعا ولا فزعا. إن الاستمرار بهذه الذاكرة المفقودة.. لا تستفيد من التجربة ولا تنتفع من عبر التاريخ. إن استمرارنا في هذه الحياة على هذا النحو هو خزي الأبد.. فإما عشنا مسلمين حقا. وإما ممات لا قيامة بعده ممات لعمري لم يقس بممات!"

***

" تلوت سورة القصص ? وربطت آخرها بأولها ? فرأيت أن الله سبحانه شرح أحوال الاستبداد السياسي والطغيان الاقتصادي في قصتي فرعون وقارون ثم ساق هذا القانون الحضاري الصارم “تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين”. إنه بعد عشر صفحات من السرد التاريخي الحافل قرر هذه الخلاصة أن الاستعلاء والفساد يستحيل أن يأتيا بخير ? كل فرد مزهو بنفسه , فوضوي في سلوكه , سائب في إدارته’ ظالم لغيره , ناس لربه لابد أن يجنى الويل من هذه الخلال ." (محمد الغزالي)

زر الذهاب إلى الأعلى