آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

الثورة ترقص.. أنا خائف

قمت مساء اليوم بزيارة الشيخ ياسر العواضي عضو اللجنة العامة للموئمر الشعبي العام إلى المستشفى حيث يرقد بعد اصابته بجروح متفرقة نتيجة الهجوم على مسجد دار الرئاسة.

كان يتكلم بصعوبة, ولقد شعرت بغصة وانا ارى صديقي يتألم والجروح تملأ رأسه ووجهه واصابة بالغة في ركبته. قال انه تأخر عن السفر للعلاج انتظارا لأمه لأنها ستج...ن، كما قال، لو سافر قبل ان تجيء من القرية.

ياسر شخص ودود ودافئ وشهم، وهو يرى الصداقة أكبر من الانتماء ومن الموقف السياسي، يحتفظ بعلاقات انسانية عميقة مع أشخاص من كل الاطياف السياسية. آخر مقيل جمعني به في بيته كان بحضور النائب صخر الوجيه والنائب علي العنسي قبل اسبوع تقريبا.

لن اخوض في حيثيات ومبررات التزامه جانب الرئيس فهذا امر يخصه، ومواقفه تلزمه وحده. لكنه في الاول والاخير صديق عزيز. ومن الصعب ألا احزن وأتألم لأجله مثلما احزن وأتألم لكل من يقتل أو يجرح في ساحات التغيير.

كان جان مارك، وهو أحد الشخصيات المركزية في رواية "الهوية" لميلان كونديرا، يحب أن يقول لنفسه: بين الحقيقة والصديق أختار الصديق دائما. وذات يوم أخذ مارك يشرح لعشيقته كيف أن الصداقة كانت في نظره هي البرهان على وجود شي أقوى من الإيديولوجية ومن الدين ومن الأمة، مستشهدا بقصة الأصدقاء في رواية الكسندر دوماس الشهيرة: "الفرسان الثلاثة"، الذين تقاطعت مصائرهم بين معسكرين متعارضين غالبا، ووجدوا أنفسهم مرغمين على أن يقاتلوا بعضهم بعضا، وكيف أن ذلك لم يعكر صفو صداقتهم. ولم يتوقفوا قط عن مساعدة بعضهم سرا، بدهاء، ساخرين من حقيقة معسكر كل منهم. "لقد وضعوا الصداقة، فوق الحقيقة، فوق القضية، فوق أوامر الرؤساء، فوق الملك، وفوق الملكة، وفوق كل شيء" بتعبير كونديرا على لسان جان مارك.

الاحتفال بحادثة النهدين على هذا النحو في ساحات التغيير هو اقرار مؤسف لمبدأ العنف بعد ان احرزنا مكسبا كبيرا وارثا حضارايا راقيا يتمثل في أساليب العمل والنضال السلمي المدني للتعبير عن الرأي والاعتراض وفرض المطالب. اي اننا قد نجازف باعادة اليمن إلى ما كانت عليه قبل 3 فبراير.

من يفرحون لانهم يرون في الحادث قصاصا للشهداء، لا يقيمون وزنا للشعارات التي تلخص مبادئ ومفاهيم للعدالة والقانون، يفترض انهم سيعملون بمقتضاها ويحكمون على الامور من خلالها.

إن لم يجر تلافي تداعيات هذه الحادثة المثقلة بالدلالات الخطيرة وادانتها، فإننا على عتبات مرحلة جديدة من التصفيات والاغتيالات لا نهاية لها.

حكم الرئيس صالح شبه منتهٍ بهذه الحادثة وبدونها، والساحات حققت مآثرها العظيمة بأخلاق عالية وسمو ورشد وحكمة، وليس من المفيد أن تهلل لجريمة كهذه وترقص. استطيع أن اتخيل الأثر القاسي والمستفز الذي تتركه هذه الاحتفالات السابقة لاوانها في نفوس الموالين للرئيس صالح الجريح، الامر الذي يدفعهم لخيارات وردود فعل عنفية انتحارية متخذة من حادثة النهدين ذريعة.

في هذه اللحظة الدقيقة من تاريخ اليمن، اكرر ما كتبه توماس فريدمان عن حاجتنا "لقيادة استثنائية تصر على دفن الماضى، بدلا من أن يدفنها. والعالم العربى في أمس الحاجة لزعماء على غرار زعيمى جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا وديكليرك؛ عمالقة من الجماعات المتعارضة يسمون فوق الأحقاد القبلية والسنية الشيعية من أجل صياغة عقد اجتماعى جديد. وقد فاجأتنا الجماهير العربية ببطولتها. ونحن الآن بحاجة إلى قادة عرب يفاجئوننا بشجاعتهم وبصيرتهم. وهو ما لم يتحقق حتى الآن".

أشرت في فبراير الفائت إلى أننا في لحظة ينقسم فيها التاريخ إلى قيمتين: الثورة والثورة المضادة. وأعرف أن من شيم الثورات الفرز والاستقطاب والتصنيف والوشاية والشك والتناقض والتخندق واستباحة حق الفرد في أن يكون ما يريد، وقد ينتهي كل شيء بانتكاسة ومأساة. لكن حينما كان علي أن اختار، اتخذت جانب الثورة متجاهلا كل المخاوف التي تطرقت إليها في مقالات سابقة.

اوجه حديثي غالبا لشباب التغيير وقوى المعارضة لأنها هي من يفترض بالجميع اختباره الآن كنموذج بصورة مستمرة: أخلاق ومٌثل وسلوكيات شباب التغيير وأنماط تفكيرهم وتصورهم للحريات العامة وحقوق الإنسان وقيم العدالة والحب والصداقة والتسامح والرحمة والجمال. شباب التغيير هم من يديرون عجلة قيادة التاريخ حاليا وليس النظام المتداعي الذي برهن طيلة ثلاثة عقود على همجيته وفشله وفوضويته، وبالتالي فالمستقبل يتمظهر في كل ما يبدر عن الشباب من تصرفات ومواقف وشعارات.

زر الذهاب إلى الأعلى