بينما يعاني ملايين اليمنيين من أزمات كارثية تضرب قلب معيشتهم تتمثل في انعدام مدخلات الطاقة والغذاء والمأوى والرزق وآخرين يلاقون ويلات القذائف والبارود، تظل عودة الرئيس الجريح صالح ديدن الإعلام المحلي والعربي وحتى مثار حديث المشهد المحلي قاطية. وكان هذا التركيز الاعلامي كون مصير هذه العودة مؤشر عملي مهم على مصير ثورات عربية مشتعلة ومحتملة أخرى ترزح تحت نير أنظمة فردية مماثلة، تماماً مثلما اهتدى نظام صالح ذاته بنموذج القمع العسكري لثورة البحرين ونسخها في قمع اعتصامات تعز ومن قبلها محاولة ضرب مرافق مقر الفرقة الأولى قبل اجتياح اعتصامات صنعاء. رغم ذلك فهذا المقال يوكد عدم عودة صالح للحكم، والذي كان رحيله صادماً لكل الناس، وإن حدثت فليس في ذكرى حكمه الثالثة والثلاثين وإنما بعد وقت طويل نسبيا بغرض تسليم عهدة المنصب لاغير للأسباب أسفله.
أولا: أصبح موقف الثورة على الأرض قوياً وحاسماً تجاه النظام، خصوصاً إزاء تقلص سيطرة نظام صالح وعجزه عن السيطرة على الثورة وإعادة الحياة الطبيعية في كل المحافظات تقريباً، ورحيل خبراء إنتاج النفط وتوقف انتاجه لأسباب متعددة، ونفاذ أموال الدولة وتوقف منظمات التنمية، والعجز الكلي عن توفير احتياجات الناس ودفع رواتب بعض الفئات.
ثانياً: وجود قوات مسلحة نظامية وقبلية تدفع نحو عدم عودته إلى الحكم لأن البديل الآخر هو الحرب من "طاقة إلى طاقة" كما هدد صالح سابقاً. وسبب هذا الافتراض هو استحالة اندحار الثورة بسبب عقبتها الأخيرة وهي عقبة الحرس الجمهوري.
ثالثاً: ضاقت العزلة الداخلية حول صالح تماماً، فلم يعد خلف صالح من يثق بهم ليشاركوه الحكم بعد الآن. فقد تشتت رجاله بين منظم للثورة، لاسيما أقربائه وإعلامييه ووزرائه وبرلمانييه، وخائن له يطعنه من ظهره، ومساند له لا يحظى باحترام الناس أمثال من يظهرون يومياً على الإعلام ، وصامت منتظر لمصير النظام حتى يحدد خطوته القادمة ولا يريد حالياً أن ينخرط في عداد أعداء الثورة. وخير دليل على ذلك أن أحداً لم ير إعلانات الاستنكار والادانة لهجوم المسجد إلا من 4 شخصيات حكومية فقط على صفحات الصحيفة الرسمية "الثورة" خلال أسبوع عقب الهجوم. كما لم ظهر أحدهم على الإعلام الحكومي منذ بداية الثورة.
رابعاً: اكتملت العزلة الدولية على صالح، وخير برهان على ذلك عدم إرسال أي زعيم دولة في العالم برقية تهاني لصالح بمناسبة ذكرى الوحدة إلا من زعماء قطر، ثم البحرين وسوريا واللذان يشهدان نفس مخاض صالح. كما لم يتصل به أحد من أولئك الزعماء إلى مشفاه بالرياض للتهنئة على سلامته إلا اتصال هاتفي يتيم من عاهل السعودية كونه ضيف لديه. وقد نجح استعداد اللقاء المشترك لتوقيع المبادرة الخليجية خمس مرات ثم موافقتهم على الطرح الأمريكي الأخير بتطبيق البند الدستوري بعد عجز صالح نجح في اظهار أن الحل بيد صالح فقط وأن الأمر يعود إليه فقط. كما يؤكد ذلك تركيز الضغط الأمريكي والخليجي مؤخراً على صالح وليس المشترك والزيارات الأمريكية الرسمية ثقيلة المستوى وحاسمة اللهجة بنقل السلطة "فوراً" كمقدمة لتحميله المسئولية عن أي تعقيدات لاحقة كما حصل لمبارك في أيامه الأخيرة.
خامساً: تفريط صالح بالأمن القومي لليمن، وذلك بإصرار بعض قوى الجنوب على انفصال الجنوب، وفتح أرض وسماء اليمن للاستخبارات الأمريكية لضرب رعاياه أنى شاؤوا وكم شاؤوا والزعم بأن القوات اليمنية هي من قامت بذلك، وتسليمه صعدة لتاجر السلاح ومأرب والجوف للمسلحين القبليين وأبين وأجزاء من لحج للقاعدة والسماح للعشرات من عتاة مجرمي القاعدة من الهروب من سجن المكلا، ثم تركيز دباباته على قتال حزبيين في قرى الحيمة وأرحب ونهم وأحياء مدنية من مدينة تعز وغيرها. كل ذلك جعل إعادة السيطرة أمراً مستحيلاً وعرّض وحدة الأرض اليمنية إلى خطر داهم. في ذات الوقت، عملت سياساته على توحيد كافة الفعاليات السياسية والمناطقية والمذهبية على رقعة أرض صغيرة، وزاد من وحدتها وقوتها سياسات التأزيم والتضييق على معيشة كافة مكونات الشعب وبشكل معلن وغير مبال.
لقد استنفذ صالح وقته في استخدام كافة الأوراق الفاشلة التي أشار بها عليه مستشاروه وأبناؤه وهو يستخدم الان الورقة قبل ورقة الحرب الأخيرة وهي ورقة تأزيم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للناس الذين لم يعد المساندون له منهم يستطيع الكذب على نفسه وأطفاله من أجل فرد مريض لن يعود.للحكم إلا على جثث الملايين. فهل له أن يعي الحقائق سابقة الذكر أم أنه لا يزال يحتاج إلى زلزال رباني آخر.