[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

تحديات اليمن الخام

يتفق لي أن أفكر بأن القضية الجنوبية ذات بعدين مركزيين: الأول بعد سياسي يتصل بالطريقة التي تمت بها الوحدة وإفرازاتها، ثم حرب 94 ومضاعفاتها من إحساس عميق بالاقصاء والحرمان، والاغتراب، ونهب أراضي وسلب حقوق وتسريح ضباط وموظفين وغياب الهويات الجنوبية عن الفضاء العام المشترك.

الثاني: بعد تاريخي حضاري يتعلق بسيرة حياة جنوب اليمن في مقابل سيرة حياة شمال اليمن, إلى أن انتهت حركة التاريخ بالشطرين أن يصبحا ك...يانين مستقلين كل منهما يتمتع بالسيادة، وفي لحظة ما اتفق الكيانين على الاندماج والذوبان أحدهما في الآخر استنادا إلى خلفيات وقواسم مشتركة تاريخية وثقافية وجيوسياسية.

حقق شمال اليمن وحدته مطلع القرن العشرين عن طريق الغزو والضم والالحاق، وفي ستينات القرن الفائت هندس البريطانيون وحدة اختيارية سلمية لكانتونات صغيرة مستقلة شكلت ما اطلق عليه الجنوب العربي، احتوى على بعض السلطنات والامارات وليس كلها، إذ حافظت سلطنتي حضرموت مثلا على استقلالهما. لكن ضمن احدث ثورة اكتوبر جرى أخيرا ضم بقية السلطنات بالغزو والضم والالحاق أيضا وتأسست جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بلا استفتاء ولا تفويض.

هذا يعني أن وحدتي الجانبين كل منهما على حدة، وحدتا نخب فوقية فرضت خياراتها بدون استفتاء أو تراض, لكن عندما اندمج الشطرين انطوى الاتفاق على مسوى من التراضي النسبي، وإن كان للطبقة السياسية العليا الكلمة الفصل. وفي أعقاب أول انتخابات كان يفترض ان تنهي مرحلة التقاسم والمناصفة ليصبح الاندماج كامل وعلى أسس وطنية، اندلعت ازمة انتهت بحرب، تم فيها اجتياح الجنوب عسكريا، لكن بمشاركة فصائل جنوبية كانت ضحية التهجير منذ ستينات القرن الماضي وحتى نهاية ثمانيناته.

عمليا تلاشت دولة الجنوب، مثلما تلاشت مؤخرا دولة الشمال وإن بقي بعض من مظاهرها الا أنها تهدمت في العمق. الباقي سلطة تحكم بهياكل وبنى دولة خداج رخوة هجينة تلبي حاجة الحاكم، بلا ملامح ولا خصال.
وفي الطريق العكسي إلى وضع ما قبل الوحدة، أصبح الجنوبيون يعانون أزمة تمثيل لقضيتهم، أي حامل سياسي يلعب دور الشريك في أي عملية سياسية تفاوضية. الحزب تفكك والدولة ذابت، والحراك متشرذم، والاختلالات التي طبعت عملية توحيد الجنوب في حقية الستينات تلقي بظلالها حاليا في وقت يتطلع فيها الجنوبيون لفك الارتباط مع الشمال وأحيانا فك الارتباط بعضهم تجاه الآخر، وهذا الوضع يرفع من وتيرة تعقيد المسألة، ويجعل من فكرة الانفصال مستحيلة لكن فكرة التمزق الشامل تفرض نفسها بقوة.

الشمال ايضا لا يمتلك الآن حاملا سياسيا موحدا، لا يوجد من يمكنه لعب دور الشريك مع الجنوبيين، لتوقيع الاتفاقات أو نقضها. بنشوء جماعة الحوثي، لقد انهارت وحدة الشمال ايضا وعاد الشمال إلى ماقبل 1918، أي إلي مرحلة شبيهة بصلح دعان.

الآن نحن اقرب إلى اليمن الخام، يمن ما قبل الدولة المركزية، وأمامنا خياران، إما أن نبدأ فورا في العمل على اعادة بناء الدولة بالتوافق وبصيغة تتلافى كل أخطاء وهفوات التاريخ، أو أن ندخل في حالة صومالية مزمنة، تنشأ كيانات صغيرة هنا وهناك، يحالف الحظ بعضها وقد يمنى البعض الآخر بالفشل، تتناحر جماعات وعشائر وتسود الفوضى إلى الابد. حينها مثلما قال الدكتور ياسين سعيد نعمان لن نجد يمنا نختلف عليه لا جنوبيون ولا شماليون.
مبدأ تقرير المصير يشمل الآن كل اليمنيين بلا استثناء، فلا يصح أن تمنح هذا الحق منطقة معينة وتمنعه عن منطقة أخرى.

هذا كلام بديهي جدا ولا ازعم أنني جئت بجديد، لكنه، من وجهة نظري، السيناريو الأقرب إلى ما يمكن أن يحدث في ضوء المعطيات والمؤشرات الماثلة أمامنا.

زر الذهاب إلى الأعلى