[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

من ينقذ الوطن قبل فوات الأوان؟

لا أحد يريد الحرب، الجميع يخشون من انزلاق اليمن إلى الفوضى، ويحذرون منها، كل الفرقاء في السلطة والمعارضة يدركون بأن اليمن على قاب قوسين أو أدنى من الانهيار الكامل وسقوط مقومات الدولة، ووسائلها، وكلهم لا يتمنون أن وطناً فاقد الأهلية يختلط فيه حابل السلطة بنابل المعارضة..

كل اليمنيين يريدون التغيير الذي لا يكون ثمنه إراقة دمائهم، واستباحة أمنهم، وانتهاك حقوقهم وحرياتهم، اليمنيون يريدون حكاماً يختارونهم بإرادتهم، ولا يريدون أوصياء عليهم ولا طواغيت يحكمون ويتحكمون فيوغلون في الاستبداد والفساد، إنهم يريدون استعادة وطنهم من أيدي الفرقاء، والخصوم، والمتصارعين على تكسير عظامه، ومفاصله، والطامعين في تقاسم أوصاله قطعة قطعة كأنهم وحوش تفترس فريسة فلا هي بالتي أشبعتهم، ولا هم تركوها تعيش من كد سعيها في الأرض.

اليمنيون هم أبناء حضارة موغلة في القدم، ومنذ فجر التأريخ الإنساني حملوا مشاعل الحضارة وطافوا بها مشارق الأرض ومغاربها، كانوا أولي بأس وقوة وإرادة، وكان اليمنيون عبر التاريخ رواداً في البناء والعمران، وأصحاب علم وثقافة وفنون، وأهل نهضة واستقرار ونفوذ، وسيادة، وبهم توالدت وتوالت الحضارات في جنوب جزيرة العرب، وتوسعت جذورها لتمتد إلى ما هو أبعد من جزيرة العرب وصحاريها، إلى مصر وبلاد الشام، والعراق، وشمال أفريقيا، بلاد الغابات الأسيوية الممتدة في أقاليم "الباسفيك"،

وسجلت حضارة اليمن حضورا مرموقاً في بلاد الأساطير من أرض الهند، والسند عبر هجرات، وتجارات جابت البحار، وطافت باليابسة، وشكلت حلقة تواصل بين حضارات شمال، وجنوب المعمورة، وبهذا الحراك الحضاري عرف اليمن في بلاد العرب بوطن الأجداد، وعرفه العالم بأرض السعيدة، غير أن اليمن السعيد بات اليوم يمناً غير سعيد، تتهدده الأخطار، وتتجاذبه العواصف، تتحكم في مصيره الأزمات، وتتقاذف به الأمواج المتلاطمة.

اليوم حول اليمنيون يمنهم إلى فريسة ينهشون لحمه بالباطل، ويحطمون عظامه بالبهتان، يراهنون على وطنهم لكي يخسروه، لا يهم ما دام الثمن مربحاً، وليس مهماً أن يصبح اليمنيون محل تندر العالم من حولهم لما صار إليه حالهم، ولا يهمهم أن يصبح يمنهم مشتعلاً بحروبهم، ومهزوماً في كل معاركهم، ومنكسراً على أيديهم، وفي الأزمات يسوق اليمنيون بعضهم بعضا إلى المحرقة، حتى وهم يثورون باسم الوطن، ويناضلون لرفع الكآبة من على كاهل الوطن، ويرفعون شعارات من أجل أن يحيا الوطن، فهم لا يحسنون سوى التمثيل بالوطن حين يسخرونه لبعض مآربهم، ويتنازعون صكوك ملكيته من بعضهم، وهم يملؤون الدنيا ضجيجاً حين يختصمون، وحين يتعاركون يشعلون الحرائق في أروقة يمنهم ويعانق دخانها سحاب السماء، ثم تذروه الرياح رماداً في الآفاق.

لأكثر من سبعة أشهر واليمن يرزح في أزمة طالت كأنها دهر، بدا المشهد في بداياته يضج بالبهاء الثوري الذي ينشد تغييراً يقفز بالبلد إلى مستقبل يواكب العصر، يلبي تطلعات أبنائه إلى حياة أكثر استقراراً، وأقل فساداً وبطالة وفقراً، إلى مستقبل يختار فيه اليمنيون حاكمهم، يحاسبونه حين يخطئ، ويحترم إرادتهم حين ينبغي عليه الرحيل امتثالا لسنن الحياة في التغيير، ونواميس الديمقراطية في التداول السلمي للسلطة بين الأجيال، والتزاما بما نص عليه الدستور، حاكم يمثلهم ويعبر عن همومهم، لا زعيماً يتملكهم، ويستحوذ على وطنهم رغم أنوفهم، حاكم يمثلهم ولا يمثل بهم، يهتفون له مرحبين بمقدمه، ويصفقون له عند رحيله، حاكم يرثون حكمه ولا يورثه لأحد من أنجاله أو مقربيه، حاكم لا ينام وشعبه يعاني الفاقة، والبطالة، أو الظلم، ولا يئن وطنه من فساد بطانته، وجشع النافذين على مراتب تحالفاته، ولا يتربص به طامعون في انتزاع حكمه، وكسر إرادة شعبه.

هكذا بدا المشهد الثوري يافعاً مشرئباً يحمل مشاعله شباب يمنيون يافعون، كتبوا شعاراتهم بما كسبت أيديهم، ورفعوا على أكتافهم تطلعاتهم ومستقبلهم يجوبون شوارع المدن بحماس شبابي لا يأتيه الباطل من أمامه، ولا يتبعه من خلفه، يبتسمون لرجال الأمن المدججين بالبنادق، والهراوات، والمتمنطقين بقنابل الغاز الحارقة، يمدون أيديهم سلاماً، ويرفعونها تحية لجنود في مثل سنهم، يحلمون بذات أحلامهم، ويتمنون بذات أمنياتهم، سلاماً بني وطني، كلنا أخوة في المصير وفي الوطن.

كان المشهد الثوري عفوياً، دوافعه مشروعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وبكل ما يحمله الشباب من صفاء، ونقاء سريرة، لم يكن في خلدهم متواليات حدثت، أحزاب فشلت دهراً في صناعة مشروع تغيير واقع أسهمت في تخليقه وتجذيره، فإذا بها تلهث خلف شباب الثورة لتسرق منهم ثورتهم، ثم ما لبثت أن حولتهم إلى وسيلة لمنازعة الحاكم في سلطانه الذي زينته له بعضها، ثم استعصى عليها أمداً طويلاً، وحين استفاق شباب في غفلتها أرادت أن تكون ثورتهم واجهة لتحقيق أهدافها، الشباب أرادوها ثورة على الفساد، ثورة للقضاء على مشروع توريث الحكم، وتأبيده، ثورة من أجل تغيير نظام ترهل، وباتت خطواته متعثرة، وقواه خائرة، بنظام جديد يعبر عن إرادة شعب، ومنه يستمد شرعية بقائه وتغييره، تغيير ينتقل باليمن إلى الدولة المدنية المعاصرة، دولة النظام والقانون، والعدالة والمواطنة المتساوية،

دولة تلبي تطلعات اليمنيين في البناء والتنمية، والأمن والاستقرار، يدين لها شعبها بالولاء، دولة لا تقوم على الولاءات الضيقة، ولا يكون مصيرها ومصير شعبها مرهوناً بمصير حاكم، أو حزب، أو قبيلة، أو فئة، ولا تستأثر بها جماعة أو طائفة باسم الدين أو المذهب، دولة لا ينشق جيشها ولا يعتدي رجال الأمن على مواطنيها، ولا تستقوي عليها قبيلة، ولا جماعة مسلحة تتمرد على دستورها أو النيل من سيادتها أو الانتقاص من نفوذها، أو نهب ثرواتها ومقدراتها، دولة لا يحكمها دراويش باسم الدين، ولا مشايخ باسم القبيلة، ولا ضباط باسم الجيش، ولا أحزاب باسم الديمقراطية والتغيير وهي لا تمارس الديمقراطية ولا تؤمن بالتغيير في مكوناتها، الشعب اليمني يريد دولة مدنية حديثة، والشباب اليمني يريد دولة لا استبداد فيها ولا فساد يلتهم خيراتها، تحافظ على دمائهم وترعى مصالحهم وتحقق تطلعاتهم، وتحمي سيادة وطنهم.. تضمن لهم تعليماً عصرياً متطوراً، وقضاء مستقلاً ونزيهاً، ومؤسسات منتجة، وطريقاً آمناً، وتنمية عادلة وشاملة.

وخلال سبعة أشهر منذ اندلاع ثورة الشباب اليمني في الساحات، وميادين الاعتصام، شهد اليمن الكثير من التحولات، والأحداث، والمتغيرات التي أفرزتها تداعيات الأزمة الراهنة.. مواجهات دامية، وانشقاقات، وتحالفات، ومبادرات، واضطرابات أمنية، وتعطيل الخدمات.. غلاء وشح في الوقود، وانقطاع في الكهرباء، وشلل في مفاصل الدولة والأسواق، وحرب في العاصمة، وحروب متفرقة في المحافظات، مسيرات واعتصامات وتظاهرات، محاولات اغتيال وتبادل اتهامات، وفوضى عارمة في الداخل، وضغوط من الخارج، تصريحات وخطابات مليئة بالغضب والتحديات، ومناشدات هنا، ومناوشات هناك، وجمعة الشرعية "ثورية" هنا، وجمعة الشرعية "الدستورية" هناك.

بعد سبعة أشهر على "الثورة" و"الأزمة" يبدو المشهد اليمني مخيفاً، وكئيباً، يلفه الغموض والتوتر، وتطغى عليه الاحتقانات، وتصفية الحسابات.. جميع الأطراف تخوض حرباُ صامتة وناطقة، والجميع لا يريدون حرباً أو هكذا يدعون، وعملياً فإن البلد تعيش حالة حرب غير معلنة بين طرفي الأزمة، وكل طرف يحشد أنصاره، قبائله، وجيشه، والأسلحة خلف المتاريس على أهبة الاستعداد.. عربات مصفحة ودبابات، ومدافع من كل العيارات، ومسلحون بلباس الجيش، ومقاتلون بعباءة الدين، ونوازع القبيلة ينتشرون في الأزقة والشوارع والطرقات، وقناصون متمددون خلف نواضير بنادقهم فوق أسطح العمارات، الكل يتأهب للحسم، والكل يريد أن يحسم.

في اليمن لا يمكن لطرف كسر إرادة طرف آخر، وما نشهده اليوم لا يبدو أكثر من كونه مشهداً عبثياً وضع البلد في نفق مظلم، خلط أوراق، وصراع "كارثي" موغل في السواد.. صراع إرادات بين قوى متناحرة، ومتربصة ببعضها ، أحزاب وجماعات انقضت بشراسة على "ثورة" الشباب، انتزعت من أيديهم البيضاء راية "التغيير" وجعلت منها بيرقاً لمعارك انتظرت زمناً لتخوضها ضد نظام جرعها غصص الاستبعاد، والتهميش، والمصادرة، والاتهامات، لا يهمها أن تنتهي بتدمير وطن بأكمله، وكل همها أن تكسر إرادة حاكم أسهم بعضها في تقويته، وتزكيته على نفسها ذات يوم ليس بعيد، وزينت له الاستحواذ على وسائل القوة، والسطوة فاستبد بها، وإسقاط نظام كانت جزءاً منه إلى أمس قريب، أحزاب وجماعات بات مصير الوطن آخر همها..

أما الطرف الآخر فيتمثل في منظومة النظام الحاكم الذي فشل ثلاثين عاماً في تبني مشروع دولة مدنية معاصرة، كان متفرغاً لاستحضار كل ما من شأنه إضعاف خصومه، وكسر شوكة معارضيه، وإقصاء منافسيه من حلبة الصراع على السلطة.. ثلاثين عاماً كان آخر همه بناء دولة مؤسسات تقيه، وتقي شعبه الصراعات والأزمات، وتنأى بالبلد من عوامل الضعف والترهل، والخنوع لتحالفات استأثرت بالثروة والنفوذ والمصالح على حساب الشعب، وعلى حساب الوطن، وهيبة الدولة ومقومات سيادتها.

الشعب اليمني اليوم خائف مما سيأتي به الغد، قلق على وطنه من شرور ونوايا الأضداد المتصارعين على كسر إرادات بعضهم، وحيث لم يعد للحكمة اليمانية وجود على خارطة الحرب الصامتة، وحيث لم يعد للحكماء مقدرة على نزع فتيل الحرب الراهنة لمنع حروب قادمة، وحيث تجاوز المشهد الراهن سلمية "ثورة" التغيير الشبابية، وتخطى منطق "الشرعية" الدستورية فإن ما يبدو حرياً بنا أن نخاف من حدوثه في نهاية المشهد "الكارثي" هو كسر إرادة اليمن، وتقطيع مفاصله، وتوزيع ما تبقى من حطامه فيداً على المتحاربين ، وهو ما لا يتمناه كل يمني، ولا يرجو حدوثه غير المتصارعين على غنائمه إن بقي ثمة غنائم يتصارعون عليها.

زر الذهاب إلى الأعلى