[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

القذافي و"سي آي إيه"

في بداية 1970 طلبت وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) من بعض أطباء التحليل النفسي إعداد بروفايل نفسي للرئيس الليبي معمر القذافي، الذي كانت سنه وقتها 30 عاما. البروفايل النفسي للقذافي لم يكن استثناء؛ فالوكالة دأبت على عمل بروفايلات نفسية لأغلب الزعماء الأجانب منذ الأربعينات، حتى غدت التقارير التي تمزج بين التحليل السياسي والنفسي مادة أساسية، تقدم لصانعي القرار الأميركي حول الطبيعة النفسية للقادة الأجانب الذين يتم التعامل معهم، وغالبا ما تتضمن تلك الملفات معلومات حول تاريخ نشأتهم، أحوالهم الشخصية، وشبكة علاقاتهم العائلية والاجتماعية والمهنية. كما أنها تحتوي على الأمور والقضايا التي تجعلهم يتجاوبون سلبا، أو إيجابا، وأحيانا على تفاصيل فضائحية (جنسية) من حياتهم الشخصية.

هذا الأسلوب الدراسي (البروفايل النفسي) لشخصيات الزعماء الأجانب، الذي طور داخل وكالة المخابرات ووزارة الدفاع، لم يكن أسلوبا أكاديميا (علميا) في الدراسة؛ لأنه كان يعتمد، في الغالب، على دراسة سيرة الزعيم كما تجمعت، عبر مصادر متعددة، لعل أبرزها تقارير العملاء الاستخباراتيين، التي تحتوي، في الغالب، على الوقائع والشائعات والأكاذيب إلى جوار الحقائق، ولهذا لم تكن محل ثقة لدى جمهور المتخصصين حينما برزت أنباؤها للسطح في الثمانينات. وعلى الرغم من التطور الكبير الذي طرأ على دراسة هذه الأساليب بعد ذلك في الإطارين المهني والأكاديمي، فما زال الباحثون المختصون مختلفين حول جدوى أو فاعلية تلك الدراسات النفسية لشخصيات سياسية لم تخضع للفحص السريري الطبي لفترات كافية.

لأكثر من 40 عاما ظل البروفايل النفسي للسيد معمر القذافي يمتلئ بمعلومات بعضها صحيح وبعضها الآخر محض خيالات فانتازية، وتحليلات وتعليقات لا تنتهي لكبار المختصين عن شخصية الرجل، وأطوار التشكل والتمثل التي مر بها خلال العقود الماضية، ويمكن اعتبار «البروفايل النفسي» للقذافي من بين السجلات الأكثر امتلاء إلى جوار أشخاص مثل فيدل كاسترو، وآية الله علي خامنئي. ربما كانت صحيفة «لوس أنجليس تايمز» أول من نشر معلومات تسربت من «البروفايل النفسي» لشخصية العقيد القذافي؛ حيث وصفته المصادر في عام 1981 بأنه «شخصية مضطربة - بشكل استثنائي - وتعاني عقدة نقص خطيرة»، وفي حدود أوائل التسعينات، علق أحد المطلعين على بروفايل القذافي لمجلة «فورن بولسي» الأميركية قائلا: «كان هناك ميل في البداية لاعتبار القذافي شخصية سطحية (ساذجة)، ولكن البروفايلات التي عملت له تظهره على أنه مجنون مثل ثعلب» (قادة على كنبة التحليل النفسي، توماس أومستاد، أغسطس – آب 1994).

يشير نيكولاس هاغير إلى أن القذافي كان على علاقة واتصال بالمخابرات الأميركية منذ بداية الثورة الليبية، حينما لاحظ العملاء الأميركيون أن القذافي كان يبدي ميلا نحو انتقاد التدخل السوفياتي في المنطقة العربية، وقد بات واضحا منذ عام 1971 أنه يعمل بشكل موازٍ لما كانت «سي آي إيه» تأمله، وهو بروزه كقائد وطني معادٍ للاتحاد السوفياتي، ولعل هذا ما يفسر إرسال القذافي طائرات ومساعدات مالية لباكستان خلال حربها مع الهند المدعومة من الاتحاد السوفياتي، واعتراضه لطائرة تحمل سودانيين متهمين بكونهم شيوعيين يسعون لقلب نظام حكم النميري، ولكن سرعان ما تغيرت مواقف القذافي بشكل متناقض؛ حيث أصبحت الولايات المتحدة عدوه الأول ووصل به الأمر لدعم طيف عريض من المجموعات والعناصر الثورية والإرهابية حول العالم (الثورة الليبية 2009). لقد ساعدته «سي آي إيه» في كشف محاولات الانقلاب عليه في بدايات الثورة، لكنه منذ ذلك الوقت تغلب عليه «الذهان» - كما يجادل البعض - فبات يشك في كل تحرك بوصفه استهدافا له من «سي آي إيه». لقد صدرت عن العقيد تصريحات وتصرفات متناقضة، وفي بعض الأحيان شنيعة، وكان يتحدث بعض الوقت من دون أن يكون لكلامه أي معنى، وحتى مظهره الشخصي الذي حفل بملابس غريبة وأزياء فاقعة الألوان لم تخف غلظة نظامه، وضحاياه الذين شملوا أقرب الناس إليه. ليس هذا فحسب، بل إن تصرفاته المثيرة للاستهجان، ورغبته في إثارة الانتباه، متجلية في الألقاب التي خلعها على نفسه، وطاقم الحماية النسائي الأمازوني الذي ظل يرافقه لسنين، وآرائه المثيرة للضحك والتندر. ولكن تحت هذا الكم كله من الملابس والوجوه المتنوعة والألقاب المتناقضة ثمة شخصية شديدة الحيلة وحادة الدراية، تمكنت من الجلوس في الحكم على الرغم من كل العقوبات ومحاولات الاغتيال. لقد كان القذافي يعرف متى يتراجع، وفي أي وقت ينحني للعواصف متى أدرك قربها منه، وكان قادرا، بشكل خطير، على الخداع، فمرة يغتال المقربين منه أو يضعهم تحت الحراسة، وأحيانا يفتح الباب لخصومه للهروب إلى المنفى، أو يعفو عنهم ويغدق عليهم الهدايا، وهو ما جعل الكثيرين غير قادرين على الوثوق به، أو التنبؤ بتصرفاته.

هناك مثال واضح على قدرة القذافي على الركوع والتنازل في اللحظات الحرجة؛ ففي 2003 عقد صفقة مع الأميركيين بعد إسقاط صدام حسين؛ حيث باع أسرار تجارة الأسلحة المحظورة دوليا، وسلم مليارات الدولارات لحل قضايا التعويض على العمليات الإرهابية التي تورط فيها، ولهذا لم يكن بمستغرب أن يعلق مايكل هايدن - الرئيس السابق لـ«سي آي إيه» - مؤخرا بأن القذافي كان شريكا مهما وموثوقا خلال السنوات القليلة الماضية، فيما خص الحرب على الإرهاب.

يروي جيفري سايمونز في كتابه «ليبيا.. الصراع من أجل البقاء» (1993) أن القذافي ظل يراوح ما بين دعم الميليشيات والجماعات الإرهابية، وما بين الانقلاب عليها وتقديم معلوماتها لأجهزة المخابرات المختلفة، بحيث يمكننا رسم صورة لبقائه في السلطة كزعيم عصابة يقوم بكل الأعمال المحظورة، ولكنه يتعاون متى أراد مع الجهات الأمنية للتخلص من خصومه، وتخفيف الضغط عليه. ولهذا، فإن التعاطي مع القذافي كان يعني التعاطي مع رجل «كذاب» - كما علق ريغان مرة - ولكن كان يمكن عقد الصفقات المؤقتة معه، إذا كان في مصلحته فعل ذلك.

أمام شخصية القذافي العصية على التفسير، اختلف المراقبون حول النهاية التي يمكن أن يصير إليها الرجل السبعيني بعد قيام الثورة المسلحة ضده. هناك من يرى أنه يمثل شخصية نرجسية تعيش في عالم من الأوهام؛ لذا سيقاتل حتى النفس الأخير، وهناك من يرى أن القذافي لا يعدو أن يكون ديكتاتورا استعراضيا بدد ثروات الليبيين البترولية، وأنه سيسارع إلى الهرب متى أحكم الحصار حوله، ولكن أكثر التفسيرات سوداوية ترى أن العقيد شخصية سيكوباتية تتمتع بذكاء غير اعتيادي على الرغم من التصرفات الشاذة، ولديها القدرة على التخطيط الاستراتيجي ببرود المجرم الشرير.

البروفسور جيرولد بوست، مؤسس مركز تحليل الشخصية والسلوك السياسي في «سي آي إيه»، طرح تفسيرا مهما لشخصية القذافي من واقع خبرة تربو على الـ20 عاما في الإشراف على ملف القذافي النفسي وزعماء آخرين؛ حيث كتب، مؤخرا، مؤكدا أن القذافي كان يستعمل أدوية لعلاج الاكتئاب الحاد الذي يعانيه. أما بخصوص حالته النفسية، فيقول بوست: «إن أفضل طريقة لوصف القذافي هي أنه يعاني اضطراب الشخصية الحدية (Boarderline Personality)، أي أنه يتأرجح عادة بين الغضب الشديد وحالة النشوة. تحت ظاهره الطبيعي، هو غير آمن وحساس للغاية. إحساسه بالواقع يعاني الخلل العرضي. في معظم الوقت يكون القذافي فوق الحد ومتصلا بالواقع، لكنه تحت الضغط قد ينزلق إلى ما دون الحد بحيث يكون مشتتا، وسيئ التقدير» (القذافي تحت الحصار، «فورن بولسي»، 15 مارس - آذار).

أيا ما كانت نهاية القذافي، فإن مرضه النفسي قد أثر، بشكل مباشر، على تاريخ ليبيا المعاصرة، ولعلنا نتساءل: إلى أي حد شوهت سياساته وقمعه الشديد نفسيات الملايين من مواطنيه، الذين عانوا الويلات تحت حكمه؟!

حقيقة، نحن أمام بلد عانى كثيرا حاكما مريضا نفسيا، وقد يلزمه وقت طويل، كأي ضحية، حتى يتخلص من كابوس الماضي، ويتعلم العيش من أجل المستقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى