[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

لتكن ثورات لا ثارات!

كان الثأر ممارسة صاحبت الانقلابات التي حدثت بالمنطقة كافة، ومن المأمول أن ما يحدث الآن بالبلدان الثائرة ثورات لا انقلابات. على اعتبار أن الانقلاب يبدأ وينتهي باستلام السُّلطة وممارسة الثأر، بينما الثورة هي التغيير والبناء. أما نحن العراقيين فتشاكل علينا الأمر، ومازلنا مختلفين حول 14 يوليو 1958 أثورة أم انقلاب؟! ووفق الجواب تحدد الهوية أضد أم مع. 14 يوليو خلقت لنفسها بداية نهايتها عندما مورس الانتقام، بسماع صوت الرجل الثاني آنذاك يحرض على السَّحل، وجرى ما جرى، والحديث يطول حتى يصل بنا المطاف إلى التاسع مِن أبريل 2003، وهو تشاكل آخر في التسميات، فلا هي ثورة ولا هي انقلاب.

حدثٌ ليس لحزب أو شخص أو جماعة فضل فيه، تسلم الجميع الأمر على طبق من ذهب، ومع ذلك بدأ الانتقام، وكانت رصاصة الثأر الأُولى بالسَّيد عبد المجيد الخوئي، على الرَّغم أنه كان مِن معارضي النظام، ثم بالفنان داود القيسي. كان الأخير مُنشداً للبعث منذ 1968، تذاع أناشيده أو أغانيه بعد كلِّ إعلان عن محاولة انقلاب صادقة أو كاذبة ومواسم الحروب. ليس لديَّ تفسير لقتله سوى الثأر، والفاعل مَن كان يعتبر صوته خلال الحرب نشازاً، مثله مثل تصفيات الطيارين. كان قتلهما، مع اختلاف أسباب الانتقام مِن كلِّ منهما، إيذاناً بسيل دم جارف.

فبدلاً مِن النظر في الأفق إلى عراق جديد ظهر القادمون عاجزين عن تجاوز ثقافة خصمهم السابق نفسه؛ فما هي إلا أيام ويُعلن قانون الاجتثاث، الذي ساهم في تدشين فصل جديد مِن الكراهية. وها هي الأصوات تطالب بالمزيد مِن الإعدامات للبقاء على الخصم فعالاً، وإلا سيموت الشعار: "لا للصَّداميين"، الساتر لفظائع الكبائر.

هناك تجارب مهمة في الماضي الغابر، كان أرزؤها تجربة الثورة العباسية، عندما استهلت انتصارها بالانتقام، بداية مِن نبش القبور وانتهاء بالقتل الذريع، ومعلوم أن الأمويين مارسوا الشتم على المنابر حتى تفجرت الصدور غيضاً. روى ابن الأثير (630 ه) في كامله المشاهد بتفاصيل رهيبة. فمن حصيلة ما عثر عليه النباشون من جثث الأمويين: خيطاً عظمياً لمعاوية، رماداً لابنه يزيد، جمجمة لعبد الملك، ضلوع ورأس ابنه سليمان، مجموعة عظام الوليد، وربما احتاط هشام لموته فأوصى أن يرش جثمانه بمادة حافظة، فبعد سبع سنوات مِن دفنه ظهرت جثته سالمة لا ينقصها سوى أرنبة أنفه، فأخرجوه وجلدوه ثم أحرقوه وذروا ترابه في الماء والهواء، ثأراً لزيد بن علي(قُتل 122 ه). وهنا ما قيمة ثورة الأخير إذا كان ثمنها نبش القبر وصلب الرُّفاة. ولو قُيظ للإمامين زيد أو الحسين (قُتل 61 ه) الرجوع، حسب فكرة الرجعة، وقالا: ليس لنا ثأر مع أحد! لقُتلا بهذا القول! لأنه سيمنع أرزاق، ويحجب وجاهات!

اقترن إعلان أبدية الدولة الجديدة بقتل السفاح (ت 136 ه) صديقه القديم والمستأمن بقصره سليمان بن هشام بن عبد الملك وولديه، مع قطع رؤوس سبعين أو تسعين رأساً من أمراء بني أمية، وأتباعهم كانوا محتمين بحماه، فأنساه الاقتدار ذلك. تم ذلك بتحريض من سُدّيف بن ميمون (قُتل 149 ه) الشاعر، وقيل إن أبا مسلم الخراساني (قُتل 137 ه) حرضه على القول(ابن تغري، النجوم الزاهرة): "لا يغرنك ما ترى من رجالٍ.. إن بين الضلوع داءً دويا.. فضع السيف وأرفع السَّوط حتى.. لا ترى فوق ظهرها أموياً".

لحظتها فزع الأمير الأموي وناشد للشاعر: "قتلتني يا شيخ"! كان سُدّيف مقلاً بدوي حالك السَّواد مِن أهل الحجاز، متعصباً لبني هاشم، كثير التحريض على الثأر من آل أمية، لكن دائرة الثأر التي سخر شعره لها لم يسلم هو منها، فما هي إلا سنوات ويقتله والي مكة أيام أبي جعفر المنصور(ت 158 ه) بتهمة التشيع. وانظروا كيف تحول أخذ ثأر العلويين إلى قتل أتباعهم! لأن الجوهر هو ثمرة الثأر!

ظل تحريض سُدّيف يتداوله الملوك والأمراء كلما صادفوا أموياً هارباً، وإن لم يكن من أهل المُلك، فقد استشهد بأبياته المهدي بن المنصور (ت 169 ه) لما حضر بين يديه "رجل من بني أمية كان يطلبه"(ابن قتيبة، عيون الأخبار)، فأنشد الأبيات نفسها بعد تأخير وتقديم. ولسُديف هذا أبيات تحريضية أُخر استشهد بها عمّ السفاح والمنصور عبد الله بن علي (مات في سجن ابن أخيه 147 ه) يوم قابل أحد الأمويين: "علامَ، فيمَ نترك عبد شمس... لها في كلِّ راعية ثغاء! فما بالرمس في حرّان منها... ولو قُتلَت بأجمعها وفاءُ"(الطبري، تاريخ الأمم والملوك).

لسنا ممَن يسقطون الماضي على الحاضر، في الأخبار والأفعال، إنما هي تجاريب، قد يكون سُديف محقاً في ما قال، إذا كان الأمر بحجمه الشخصي وزمنه، لكن أبياته ما زالت فعالة في الرؤوس، حتى صار نبش القبور ثقافة شائعة وعرفاً جارياً، في عصرنا الراهن، والشواهد لا تعد. وكأن الزمان توقف عن الجريان، ويُنسب لأبي العلاء (ت 449 ه)، ما لم أجده في لزومياته ولا في ديوانه "سِقِط الزَّند": "الدهر كالدهر والأيامُ واحدةٌ.. والناسُ كالناس والدنيا لمَن غلبا". إنه دهرنا المنكوس فحسب، أما دهور الآخرين فهي سلالم ارتقاء! الارتقاء الذي رفع البلدان الإسكندنافية مِن الفايكينج إلى أروع أنظمة حكم إنسانية.

إذا أرادت الشعوب الثائرة التخلص مِن مثقلات الماضي، لابد مِن تجاوز ثقافة سُديف، فإنها قتلت الحسين مرة أخرى، وجرت الدماء في طاحونة تبادل المصائر. وإذا لم تهضموا تجربة جنوب أفريقيا، فأمامكم أوروبا الشرقية، عند لحظات التغيير وضعت الماضي خلفها، وتقدمت لبناء الديمقراطية، والخلاص مِن إرث ديكتاتورية الأشخاص، مِن دون أن تشهد نوبات انتقام، وهي شعوب كان التخلف يكتنف العديد منها.

ليست هناك فائدة مِن رفع شعار إعدام مبارك، أو زين العابدين وغيرهما، مثلما لم يجن العِراق الاستقرار بإعدام صدام حسين (2006)، والمطالبة بإعدام مسؤولين سابقين، فالإعدام الحقيقي لهؤلاء هو فرض ثقافة جديدة، فما قيمة الفعل الثوري الذي يتحول إلى لحظة انتقام، وما قيمة الدماء التي سفكت مِن أجل الحرية إذا استحالت إلى زيت لنار الثأر. قيل: "الثورة تأكل رجالها"، نعم بتبادل الانتقام!

زر الذهاب إلى الأعلى