أما القَدَسي (بفتح القاف والدال نسبة إلى قدس- محافظة تعز) فهو أنيس أحمدعبده سعيد القدسي, ولا شك بأن الكثير في اليمن وخارجها شاهدوه في مشهد بطولي بديع, نتذكره معاً لاحقاً, مع بقية من حياة تستحق أن تروى. وأما الزياني فهو الفريق الركن سابقاً- الدكتورحاليا عبداللطيف الزياني أمين مجلس تعاون الدول الخليجية, ووسيط مبادرتها المعروفة التي تعيش فترة البحث عن بقية من حياة( آلية للتنفيذ).
ثلاث رصاصات في الظهر والصدر والرأس (على الترتيب) كانت على موعد مع القدسي في (جولة عصر) جوار وزارة الخارجية بتاريخ 19-4-2011. أستغرقت الرصاصة الأولى أكثر من اللازم, حين ظن الشهيد ورفاقه أن الإعياء وصعوبة التنفس اللذين بدأ يعاني منهما كانا بسبب قنابل الغاز التي أطلقتها قوات مكافحة الشعب( الشغب سابقاً).لكن النزيف النافر من ظهره حين استداروا به ليعيدوه إلى مؤخرة المسيرة- دائماً ما كان في المقدمة-,وكذا الرصاصتان التاليتان من جنود جهلةٍ مغلوبين على أمرهم,أظهرت اللحظات الأخيرة في قدر الشهيد حين توقف نبضة بين يدي الأطباء بسبب جلطة سدت وريدا في البطن لم تجدِ معها جميع المحاولات الإسعافية,فقد سبق الكتاب,للشاب الثلاثيني الذي خلف طفلين يتيمين وأرملة,وأم ثكلى.وأب حزين في غيابات الغربة،واسما في الدرجات الوظيفية الحكومية التي أعلنت, أخيراً, وفيها أسمه من ضمن أسماءلم تكن بأفضل حظا منه,في تلك الدرجات الوهمية.
ربما تذكر الزياني, البحريني لحظات تخرجه ملازما أولا من كلية ( ساند هرست) في لندن, ثم بكالوريوس هندسة الطيران من جامعة أسكتلندية.ثم الماجستير والدكتوراة من جامعتين أمريكيتين. وعلى وجه الخصوص ماجستير الادارة اللوجستية للقوات الجوية, وهو يحلق في الطائرة مغادرا حرم السفاراة الإماراتية – في سابقة لم تحدث في العمل الدبلوماسي- في صنعاء في يوم 22 مايو 2011 هرباً من حصار لمشابحين و"سراسرة"(بلاطجة) يحاولون منعه من الذهاب لدار الرئاسة, لتوقيع مفترض من الرئيس على المبادرة الخليجية بعد أن وقعت من قبل المعارضة. التي تنص فيما تنص على تسليم السلطة لنائب الرئيس بعد ثلاثة أشهر. تلك المجموعة التي فعلت تلك الفعلة,بدعوى تمسكها بالحق الدستوري لأصواتهم الإنتخابية التي تمنح الرئيس فترة تنتهي في 2013.تلك المجموعة كانت بقيادة (أحمد زيد عمران ) صهر العقيد الركن أحمد علي نجل الرئيس وخال علي أحمد علي وريث الوريث سابقاَ .لاحقاً سيبادل الزياني الإهانة بالإهانة , وذلك كما وصفه الرئيس شخصياً بسلوك غير محترم مع رئيس جمهورية!! حين واجه الزياني مرواغاته وهروبة من التوقيع قائلا له كتلميذ هارب من استدعاء ولي أمره أو جندي يطالب بالإقرار بخطئه:- هل ستوقع على المبادرة أم لا؟
كان الشهيد القدسي يقف فارساَ شريفاَ عملاقا, في ذلك المشهد الدرامي الملحمي مواجها ماكينة مكافحة الشعب المتوحشة . أصبح ذلك المشهد الذي ألتقطته عدسات الكاميرا, ومهج المشاهدين أيقونةً للثورة. الشاحنة الضخمة تقترب منه وهو لا يحرك ساكناً. وكأن تسديداً إلهياً قوى زنديه ,هاهو يدفع الشاحنة المشاعبة التي تلوذ بالقهقرى خوفاً وضعفا!
غادر الزياني صنعاء حاملاً أذيال فشل وأوراق مبادرة وهي أشهر من نار على علم, وغادر القدسي الدنيا تاركاً أوراق مبادراته المغمورة التي ربما فيها طوق النجاة. لم تكن مبادرة الزياني كافية بما فيها من بنود غريبة تنجي كل من سرق بما سرق,ومن قتل بما قتل: حرا طليقا. وتقيد سلطان القضاءعن كل فاسدٍ أشر- فالمبادرة تجب ما قبلها.فهي من هذا الباب كانت مقبولة عند الفاسدين في الجانبين:الجانب المناصر للثورة والجانب المناصر للرئيس"سيذهب كل بما نهب". ولكن لأنه سبحانه وتع إلى "يظل من يشاء ويهدي من يشاء", فقد ظهر شياطين الجن وشياطن الأنس, ليقنعوا (وليناالدستوري!) أنهاليست كافية لكسب مزيد من الوقت ومن الحقوق , وليست كافية أيضاً للخروج بفتنة كبرى لا تبقي ولا تذر,خصوصاً لحلفائه السابقين، اعدائه الألداء الحاليين,اللذين يخشى من وراثتهم له (أحمر سنحان, وحُمُر حاشد) فصرخ كشمشون:- إنصاعوا لحواري المراوغ, وإلا أنا ومن بعدي الطوفان!
تعالي الزياني على الرئيس,مع التعالي الخليجي عموماعلى اليمنيين الذي زاد واستطار في العقود الثلاثة الأخيرة,وكان سؤ ختامة إحراق طلاب العمل اليمنيين في أخدود منسي من أخاديد جيزان, في سابقة لم تحدث منذ عصر "أصحاب الأخدود والنار ذات الوقود". وبالرغم من تحمل النظام المسئولية الكاملة عن تسويق الشعب اليمني العظيم بهذا الشكل, فإن العلو والتعالي والإستخفاف الخليجي( السعودي والإماراتي خصوصاً)باليمنيين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينتيج نوايا خير لليمنيين, بل يبدو التجاوب الخليجي لمبادرة مكتوبة يمنياً أعيد تصديرها لليمن, يبدو تجاوباً لإحراج أوروبي وأمريكي, مع قليل من المخاوف من تحول اليمني إلى مصدر كبيرللاجئين .
في الوقت الذي عاد الزياني لأبنائه السته,كان أبناء القدسي وأرملته يغادرون صنعاء عائدين إلى كنف جدهم في قدس. ويحملون ضمن ما يحملون أوراق أبيهم وآليته الأصيلة لحل الأزمة اليمنية,التي لم يطلع ولم يشرك فيها أحد إلا أبناءخيمته. كانت مبادرته ياسادة بسيطة بساطة الحياة واضحة وضوح الحق:- كان يكتب في أوراق دفترة كل حق وكل دين علية, وكان يعطي الأوراق لكل القاطنين معه في خيمة الإعتصام, ليكتبوا ما عليهم من حق ليمنيين مثلهم . تقول تلك الآلية أنه لا يمكن أن يتم التغيير والتسليم والتسلم السلمي للسلطة, إلا ممن يبيض يدية من كل حق عليه لهذا الوطن. مهما صغر أو عظم..لم تكن تلك الآلية خارطة طريق فقط بل أزعم أنها كانت صراطاَ مستقيماً لا عوج فيه ولا أمتا, لمن أراد أن يشارك بحق في ثورة التغيير الكبرى.
قبل مشهد النهاية كان القدسي نفسة يدخل خيمته مشرئب الرأس مبتهج الفؤاد وهو يقول:- اليوم سددت آخر ديوني.. اليوم الشهادة ولا أبالي ما دمت ألقى ربي نظيف اليد, لعل الله يخلف بعدي دولةً نظيفة اليد,خالية من الفساد.
في الآونة الأخيرة – مع كل ما قلت وقيل من نقد عنها- فقد عادت المبادرة لتحتل صدارة الأخبار من جديد لعدم وجود البديل المخلص, هذه المرة بحثاً عن الرمق الأخير ممثلا بآلية تنفيذية. أشترط الزياني أن يجهزها كل طرف- أحزاب السلطة والمعارضة,لا المستقلون في الميادين- بمدة ثلاثة أيام. وقد كان ذلك المستحيل بعينه الذي لم ولن يتم لأن كل طرف لديه " أجندة خاصة" تتصادم تماما مع آلية الطرف الأخر بالباطل أو بالحق مما سيتعذر معه حتما التوفيق بين الطرفين. ويسعدني,في هذا الخضم, أن أقدم لكم آلية القدسي القابلة للتطبيق وللحياة والتي تسلتزم التضحية, وجردة حساب من جميع أطراف الوضع اليمني الجديد, و ليس الرئيس وحدة. وأرجو بإلحاح أن يبدأ الجميع بتطبيقها على أنفسهم ذاتياً, فعندها سنجد المخرج السلس والآمن والسلمي للإنتقال ليمن جديد.
آلية القدسي الشريفة السلمية والتي ختمها بدمه الذي نحسبه قد إستحال مسكا وكافورا, تستدعي مبادرة قديمة من شهيد قديم. ذلك الشهيدهو الشيخ علي ناصر القردعي. ففي ثورةالتغيير في سنة 1948 التي إبتدأت دموية ولم تكن سلمية بأي حال, إشترط الشهيد قبل أن ينفذ عملية إغتيال الإمام يحيى فتوى من العلماء- الشاهد هنا آلية الفتوى وليس آلية الإغتيال - يقابل بها ربه حين يختصم هو والإمام يحيى يوم القيامة أمام الحاكم الحكيم؛ خصوصاً وقد كان كلما فر من ظلم الإمام يحيى وسجنه, يخاطب الجبال الشماء قائلا:
يا ذي الحيود اللي بديتي هو شي على الشارد ملامة
قولي ليحيى بن محمد با نلتقي (يوم القيامة)
فهل تكون آلية القدسي هي الفتوى التي نقابل بها الله يوم القيامة:- مالنا وما علينا.شخصياً أتخيل الآن ونحن في يوم القيامة على الصراط المستقيم, و خلق الله وفيهم أنيس القدسي ومعه مئات الشهداء الذين كانوا يحملون حياة واعدة ومبادرات متميزة, وعلي عبدالله صالح وعلي محسن وحميد الأحمر,وعبداللطيف الزياني,ونحن جميعاً نستبق الصراط...وحينها سنرى من منا سيمضي على الصراط المستقيم. ومن سيسقط سقوطاً مدوياً ملىء السماوات والأرض؟!